رأسماليات الاقتصاد الرمزى والخدمى


سامح سعيد عبود
2010 / 10 / 18 - 02:42     

افتتح ماركس رأسالمال بتلك العبارة، "تبدو ثروة المجتمعات التى يسودها الأسلوب الرأسمالى فى الإنتاج، " تراكما واسع النطاق من السلع"، برغم أنه فى وقت كتابة هذه العبارة لم يكن هناك الكثير من أنواع السلع وطرازتها، بالمقارنة مع المجتمعات الحالية الغارقة فى طوفان من أنواع السلع وطرازتها المختلفة، ولا شك أن سواد هذه السلع الأعظم منتج فى منشئات رأسمالية، بالرغم من أن القليل منها مازال ينتج عبر منشئات فردية وعائلية و رأسمالية صغيرة وتعاونية وحكومية، وفى كل هذه المنشئات تخلق كل الثروات، وكل القيم، وكل الأرباح، و كل الاحتياجات المادية للبشر، هذا هو الاقتصاد الحقيقى الذى قتل بحثا بدءا من سميث وانتهاءا بكينز ومرورا بماركس، وتعرضت لما يحدث له من أزمات.
إلى جانب هذا الرأسمال السلعى أو الإنتاجى، تواجد رأسمال آخر كان محدود القيمة قبل قرن من الزمان، يسمى بالرأسمال الخدمى، الذى يشكل الرأسمال الرمزى قطاعا هاما منه، وهو رأسمال متطفل على الرأسمال الأول، ويحقق أرباحه مما ينهبه من الرأسمال الإنتاجى، ثم تطور به الأمر ليحتجز لنفسه كميات هائلة من النقود تفوق الرأسمال المستثمر فى الرأسمال الإنتاجى بأكثر من عشر مرات، الأمر الذى جعله أكثر قدرة على الاستقلال النسبى عن الرأسمال الإنتاجى الذى يتطفل عليه، و خلق الرأسمال الرمزى باستقلاله النسبى عن الرأسمال الإنتاجى ، ظواهر جديدة لم يدرسها الاقتصاد التقليدى، فأصبحت الدورة الاقتصادية الجلية والبسيطة فى الرأسمال الإنتاجى أكثر غموضا و تعقدا عن ذى قبل.
رغم أن هناك تقلص متزايد فى عدد من ينتجون السلع، لصالح تزايد مضطرد فى عدد من يقدمون الخدمات، لكن هذا لن يهبط من أهمية الإنتاجيين، و يصعد من أهمية الخدميين، برغم تقلص الربحية فى القطاعات الإنتاجية، وتزايدها فى القطاعات الخدمية، كما أن هذا لن يغنينا عن الإنتاج السلعى، ولن يقضى على العمالة فيه، كما يظن البعض، وإن كان يمكن أن يغير من طبيعتها ومن طبيعة عملها.
أننا فى النهاية كائنات مادية لها احتياجات مادية لا يمكن أن نستغنى عنها من طعام وشراب وملبس ومسكن ودواء، يلبيها فقط الإنتاجيون باستخدامهم الألات، إلا إذا تخيلنا ألات تنتج كل السلع التى نحتاجها بلا عمال لتشغيلها، لكن حتى تلك الألات الذكية سوف تحتاج لمن يصممها وينتجها ويصونها و يبرمجها ويراقبها ويشغلها ويطورها، اللهم إلا إذا وجدت ألات تفعل كل هذا بدلا من البشر، ولكن من أين سوف توجد هذه الألات دون عمل بشرى، وكيف سوف تتحقق الأرباح بدون العمل البشرى، صانع القيمة المضافة بعمله على الألات التى لا يمكن أن تخلق القيمة المضافة بمفردها، و من ثم سوف يظل الإنتاجيين برغم تقلص حجمهم العددى محتفظين بثقلهم الاجتماعى، و سوف يظل إنتاجهم يشكل الأساس المادى لحياة المجتمع، فتلك الألات الذكية لن تصنع نفسها، ولن تصنع السلع بكلمة "كن" فتكون، هى ومنتجاتها من السلع.
فى اللحظة الذى سوف يصبح فيها الإنتاج السلعى بلا عمال، فسوف تختفى الرأسمالية تماما من هذا الاقتصاد، لأنه سوف يصبح إنتاج بلا أرباح، وهى لحظة لابد وأن يقاومها الرأسماليون، الذين سوف يتحولون فى هذه الحالة إلى منتجين فرديين، مضطرين للعمل على آلاتهم الذكية، لتوليد الأرباح، وسوف تكون مشكلتهم فى هذه الحالة، إيجاد مستهلكين لبضائعهم، الذين أصبحوا متعطلين عن العمل، وغير قادرين على شراءها.
أن هناك حبل سرى يمد المنشئات الخدمية بسبل الحياة من المنشئات الإنتاجية نفسها، فمقدموا الإعلانات يروجون لسلع صناعية وزراعية، بدونها لن يجدوا عملا، والمؤسسات الإعلامية المختلفة التى تمولها الإعلانات لن تجد مصدرا للتمويل سوى الحكومات من أموال دافعى الضرائب الذى يشكل الإنتاجيون قسم منهم، والتجار الذين يبيعون السلع لن يجدوا ما يبيعوه لو لم توجد سلع تباع، وشركات نقل وتخزين البضائع لن تجد ما تنقله أو تخزنه لو لم توجد سلعا تنقلها، وقس على ذلك كل الخدمات، ذلك أنه يمكن تصور سلع يتم استهلاكها بلا تجار أو إعلانات أو وسطاء أو شركات نقل، ولكن لا يمكنا العكس، وهو تصور معلنين وتجار و وسطاء و شركات نقل بدون إنتاج سلعى، لأن المنشئات الخدمية عاجزة عن تغذية نفسها ذاتيا بالأرباح إلا من جسد أمها المنشئات الإنتاجية، فضلا عن أن الإنتاج السلعى نفسه هو من يمد القطاعات الخدمية بما تحتاجه من سلع مختلفة لممارسة نشاطها، منشئات عقارية، وتجهيزات وأجهزة، و وسائل نقل ومواصلات، و وسائل اتصال، ومواد خام، ومصادر طاقة، وهو عمل ميت أو رأسمال ثابت، و بدونه لا تعمل القطاعات الخدمية.
المسألة الأخرى أن التكنولوجيا كما توفر العمال فى القطاعات الإنتاجية، وتهدد بإلغائه، توفر أيضا من العمل البشرى فى الخدمات مهددة بإلغائه أيضا، مما يهدد أن لا يجد البشر أمامهم إلا البطالة أو الأعمال التافهة المهمشة التى لاعلاقة لها بصنع القيمة المضافة أو الأرباح، فكما تصورنا ألات تنتج سلع بلا عمال، فيمكن تصور وسائل نقل ومواصلات تعمل بلا سائقين، ويمكن لنا تصور تعليم بلا مدرسين و لا مدارس عبر الأنترنت، أما ما فعلته الأنترنت فعلا فهو أنها أصبحت توفر مجانا لكل من يريد المواد الإعلامية والثقافية والفنية والتعليمية التى يريدها، فسوف تغلق قريبا كثيرا من دور السينما والمسارح ودور النشر والصحافة الورقية والمكتبات العامة، وسوف يحل الأنترنت محل الراديو والتليفزيون، أنه عالم مختلف سوف ينهى مهنا تماما من على وجه الأرض، أو على الأقل يقلص منها، ومن سوقها، ومن ممارسيها، ويوسع من ممارسى مهن أخرى، و سوف يخلق مهنا جديدة، و أنواع جديدة من العمالة لم نسمع عنها من قبل.
بالرغم من أهمية الكثير من الخدمات لحياتنا، مثل العلاج والتعليم والمواصلات والاتصالات، إلا أنه بدراسة الخدمات على نحو مفصل سوف نكتشف إن تضخم ما تحققه من أرباح، ناتج عن نوع من الاحتيال الناتج عن العلاقات الرأسمالية السائدة اجتماعيا، التى لا تهدف سوى للربح، و سوف نكتشف أن كثير من الخدمات فى حقيقتها يمكن الاستغناء عنها نهائيا فى ظل سيادة علاقات انتاجية واجتماعية أخرى، تخيل فقط لو توحد العالم سياسيا، و تم نزع سلاح العالم، واختفت بالتالى كل الجيوش فى العالم، أو تخيل مجتمع ينتج للاستعمال فقط، فلن تجد لا إعلانات أو تغليف، و سوف تنخفض معدلات التجارة والتخزين والنقل لأقصى حد.
الحقيقة الجلية هى أن كل القيمة المضافة تخلق فعليا فى الاقتصاد الإنتاجى، و من العمل البشرى تحديدا فى هذا الاقتصاد، وبدونه لن توجد أرباح، لأنه الصانع الوحيد للأرباح، وبدون تلك الأرباح، فلن يوجد رأسمال وتراكم لرأسالمال، ذلك لأن الأرباح التجارية التى يحققها التاجر ما هى إلا ذلك الجزء من فائض القيمة الذى يتخلى عنه الرأسمالى الصناعى أو الزراعى للتاجر مقابل قيام التاجر ببيع السلع التى ينتجها، وفوائد القروض هى ذلك الجزء من فائض القيمة الذى يدفعه الرأسمالى القائم بالإنتاج الصناعى أو الزراعى إلى الرأسمالى المالى مقابل استخدام الرأسالمال المقترض، أو مقابل استخدام القيمة الاستعمالية للنقود التى اقترضها الرأسمالى الإنتاجى، والريع هو ذلك الجزء من فائض القيمة الذى يحصل عليه المالك العقارى مقابل سماحه للرأسمالى بالانتفاع بعقاره، وهكذا هى الأرباح المحققة فى الخدمات التى تحمل تكلفتها فى النهاية على سعر السلعة، مما يؤدى لارتفاع أسعار السلع رغم ما تعانيه الأسواق من ركود، وهى أرباح منهوبة أصلا من الاقتصاد الإنتاجى، وجدير بالذكر أن المنشئات الخدمية، تقسم ما أخذته من المنشئات الإنتاجية، لأرباح و فوائد وريوع ينالها ملاك تلك المنشئات الخدمية، وأجور يحصل عليها العاملون بأجر بتلك المنشئات.
أما عن سر هذا التوسع الملحوظ فى الخدمات فهو أن الأموال الهائلة المحتجزة فى الاقتصاد الرمزى المالى والمضارب، والتى خرجت من حيازة الرأسمال الإنتاجى، وسعت من سوق الخدمات وأنواعها، و ضخمت بالتالى فى عدد العاملين بها، وساعدت على زيادة ربحيتها التى لا تعبر عن زيادة أهميتها أو قيمتها أو انتاجيتها، وكما تتضخم كرة الثلج فإن الخدمات التى يتم توسيعها، تحتجز كميات هائلة من النقود نتيجة طبيعة أرباحها، مما يفتح الشهية أكثر للمزيد من الاستثمار فى الخدمات.
من ناحية أخرى زاد الطلب على الخدمات بسبب الإنتاج بالأسلوب الرأسمالى نفسه، الذى أصبح يتطلب الكثير من الخدمات، تسويق و وساطة و نقل و اتصالات و تمويل وتأمين و إعلان و تخزين، وتعليم وظيفى للعمالة التى يحتاجها إنتاج السلع، والحفاظ على صحة قوى العمل المنتجة وصيانتها، وتوفير الأمن لمصالح رأسالمال و أسواقه الخ، فكما تقسم السلع لسلع استثمار وسلع استهلاك، فيمكن أن نقسم الخدمات لخدمات استثمار كالإعلانات والنقل والتمويل البنكى .الخ، تستهلكها المنشئات الرأسمالية كجزء من تكلفة السلعة، وخدمات استهلاك كالتعليم و العلاج والمواصلات يستهلكها الأفراد، وهو ما يضاف أيضا على تكلفة السلعة.
يمكن أن تفسر الربحية الهائلة للخدمات على غير ما تستحق، بسبب التعسف فى تحديد ثمن الخدمة، مثال ذلك أنه يمكنك أن تعد طبق مكرونة فى المنزل لن يكلفك سوى جنيها، متضمنا ثمن الجهد الذى بذلته فى صنعه، ويمكن أن تأكل نفس الطبق فى مطعم شعبى بثلاثة جنيهات، ولكنك لو تناولته فى فندق خمس نجوم، فقد يكلفك 30 جنيها، ليربح منك صاحب المطعم جنيهين، فى حين يربح منك صاحب الفندق 29 جنيها من نفس الطبق، الذى لم تتغير قيمته الاستعمالية لك فى الأحوال الثلاثة، ولن تتغير قيمته التبادلية لو أخذته للسوق بعيدا عن المطعم والفندق لمبادلته بسلعة أخرى، فقد تزيد أو تقل قليلا عن الجنيه الذى أنفقته فى المنزل، وسوف تكتشف أن ربحية المطعم والفندق لم تخلق قيمة مادية، بل قيمة رمزية، وقس على ذلك الكثير من الخدمات.
يفحصك طبيب فى عيادة شعبية بخمسة جنيهات، فى حين يقدر طبيب آخر سعر كشفه عليك ب 100 جنيه فى عيادته الخاصة، ليصف لك نفس الدواء الذى وصفه لك الأول. تعالج فى مستشفى حكومى بأقل كثيرا مما تتعالج به من نفس المرض فى مستشفى سياحى أو استثمارى، فما يباع هنا قيم رمزية وليست قيم مادية، فلا توجد فروق فى قيمة طبق المكرونة فى الحالات الثلاثة، و لاتوجد فروق فى قيمة خدمات الطبيبين، و قيمة الخدمة الرئيسية التى تحتاجها فعلا فى المستشفيين، ولكن فندق الخمس نجوم والطبيب الخاص والمستشفى الاستثمارى باعوا لك مظهرا اجتماعيا لا قيمة مادية له، وهكذا تحقق الخدمات قيما رمزية أو احتيالية، بالتالى تزيد نصيبها من الربح، لأنها تتعسف فقط فى تحديد أسعار ما تقدمه من خدمات، وبمعنى آخر الخدمات تخلق أرباحا، ولكن لا تخلق قيم يمكن مبادلتها بقيم أخرى.
أنت عادة لا تستخدم الخدمات المحملة على ثمن السلعة التى تشتريها، فربما لم تسمع أصلا الإعلان المروج للسلعة، و لابد أنك سوف تفض غلافها لتلقيه فى سلة المهملات، رغم إن الإعلان والغلاف محملان على ثمن السلعة شأنهما شأن كل الخدمات التى اشتراها المنتج لإنتاج هذه السلعة حتى وصلت إليك كمستهلك، التسويق و الوساطة و النقل و الاتصالات و التمويل والتأمين و الإعلان و التخزين، و التعليم الوظيفى للعمالة التى يحتاجها إنتاج السلع، والحفاظ على صحة قوى العمل، وتوفير الأمن لمصالح رأسالمال و أسواقه الخ، فأنت اشتريت ما لن تستخدمه، و ما لا تحتاجه فى الحقيقة، لأنك فى النهاية سوف تستخدم ما تحتاجه من تلك السلعة مجردة من كل تلك الخدمات.
من الطبيعى أن يهرب الاستثمار الرأسمالى من الإنتاج المنخفض الربحية إلى الخدمات، طالما كانت الخدمات أكثر ربحية، وأقل مخاطرة، وخصوصا أن الأرباح فيها تأتى من التعسف فى تقدير ثمن الخدمة، بعكس الاستثمار فى الرأسمال الإنتاجى القائم على صنع قيمة مضافة يتقاسمها ملاك المشروع الرأسمالى الإنتاجى والعاملون فيه، مع قواعد محددة تتحكم فى سعر السلعة التى قد يزيد قليلا أو يرتفع قليلا عن قيمة السلعة التبادلية، وفق قواعد العرض والطلب فى السوق، بعكس الخدمات، التى لا تخضع لقانون القيمة، و المستقلة نسبيا عن قواعد العرض والطلب.
شكل هذا التوسع المذهل فى الخدمات، ضرورية كانت أو غير ضرورية، أسلوبا لحماية الرأسمالية كنظام اجتماعى للإنتاج من الانهيار، فهذا التوسع فى الخدمات، وفر فرص عمل للذين لا تحتاجهم المصانع والمزارع والمعامل، فضمنت بذلك الرأسمالية الإنتاجية مستهلكين لبضائعها، بدلا من أن تحولهم لعاطلين عن العمل غير قادرين على استهلاك تلك البضائع، حتى أنه تم تمويل تلك الخدمات، بالعجز فى الميزانيات العامة حيث تزيد النفقات العامة عن الإيرادات العامة، وبالاستدانة الحكومية العامة محلية كانت أوخارجية، زد على ذلك خدمة هذه الديون من فوائد وغيرها، و بطبع نقود لا تعبر عن الإنتاج الحقيقى من السلع، فرفعت تلك السياسات من الطلب الفعال على السلع مما أدى لارتفاع أسعارها، رغم حالة الركود فى السوق، كما تم التخلى عن سياسة تغطية هذه النقود بالذهب، الذى كان يضمن دفعها عند الطلب، حيث أصبحت مضمونة الدفع بسلطة الدولة نفسها التى أصدرت تلك النقود، والتى يمكن بالتالى أن تنهار قيمتها بانهيار تلك السلطة فى أى لحظة، لتصبح مجرد قصاصات ورقية لا قيمة لها، ومن ثم ابتعدت النقود و ما يحدث لها من تقلبات فى سعر الصرف أو أزمات عن التعبير عن الاقتصاد الإنتاجى، إلا أن هذا لا ينفى أن السلع التى ينتجها الاقتصاد الإنتاجى محملة بعبأ تلك الزيادة الهائلة فى النقود، التى لا تعبر عن حقيقة ما ينتجه من سلع، فرفعت أسعارها، حيث زادت من حجم الطلب، برغم الزيادة فى حجم العرض من السلع، ولا شك أن تقلبات سعر الصرف لتلك النقود، و ما تتعرض له من أزمات، يؤثر فى الإنتاج السلعى ركودا و نهوضا، فانخفاض سعر صرف عملة أو ارتفاعها، يؤدى لارتفاع أسعار السلع وانخفاضها، مما يؤثر على مستوى استهلاكها فى السوق.
هذا الجانب التعسفى فى تحديد أثمان الخدمات، وإضفاء أهمية زائدة عليها، كان من شأنه أن يزيد من حجم النقود المتداولة فى السوق، لتلبية التصاعد المجنون فى حجم الطلب على الخدمات، وبالتالى زيادة الاستثمار فى الخدمات.
فى الاحصائيات الرسمية العمياء عن حقيقة الأشياء، ينسب للخدمات النسب التى تضيفها للناتج الإجمالى المحلى الذى ينقسم لعوائد تملك (أرباح وفوائد وريع) وعوائد عمل (أجور)، ليقال على سبيل المثال أن قيمة ما تضيفه تجارة الجملة والتجزئة فى مصر من قيمة مضافة يبلغ 12.5%، وما تضيفه المطاعم والفنادق 2 % من الناتج الإجمالى المحلى عام 2008، تنقسم إلى أرباح ملاك تلك المنشئات وأجور العاملين فيها، رغم أن التجار المصريون لم يضيفوا أى قيمة على القيم التبادلية للسلع التى باعوها، وكذلك أصحاب المطاعم والفنادق مقابل الخدمات التى قدموها، وكان يمكن يمكن للمستهلكين أن يوفروا لأنفسهم تلك السلع والخدمات بشراءها مباشرة من المنتجين بسعر المصنع أو المزرعة، و أن يطبخوا فى منازلهم، ليوفروا لأنفسهم ما ربحه منهم التجار وأصحاب المطاعم والفنادق، فلا يصح فعلا أن ننسب هذه النسبة من القيمة المضافة للتجار بل أن ننسبها للمصانع والمزارع التى انتجت السلع التى باعها التجار، وفى مثل طبق المكرونة عرفنا كيف أضافت المطاعم والفنادق المصرية ال 2% إلى الناتج الإجمالى المحلى.
الملاحظة الجديرة بالإنتباه هنا هى أن عمال الصناعة فى مصر ويبلغون 23% من إجمالى قوة العمل يضيفون 35% من الناتج الإجمالى المحلى، و عمال الزراعة ويبلغون 27% من إجمالى قوة العمل يضيفون 15% من الناتج الإجمالى المحلى، ليبقى عمال الخدمات ويبلغون 50% من إجمالى قوة العمل ويضيفون 50% من الناتج الإجمالى المحلى، والملاحظة الأخيرة أن هذا الناتج الإجمالى المحلى يتضمن أجور العاملين بالدولة، وهم فى مصر يشكلون ربع القوى العاملة، وغالبيتهم لا يضيفون أى قيمة مضافة مثل العاملين بالشرطة والجيش والعدل وغيرهم. مما يدل على أن مثل تلك الإحصائيات لا علاقة لها بالمصدر الحقيقى للقيمة المضافة، وإن كانت توضح كيف تتوزع الدخول، بين رأسالمال والعمل.
ما تضيفه الخدمات من قيمة 80% من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى ليست منتجة فعلا فى منشئات الخدمات كما تزعم بذلك الاحصائيات، بل منتجة فى المصانع والمزارع والمعامل الأمريكية التى يقال أنها تضيف 20% فقط من إجمالى الناتج المحلى، لأن هذا ما حققته المنشئات المختلفة من أرباح وفوائد وريوع لملاكها وأجور لعمالها، بناء على محاسبتها كوحدات منفصلة عن بعضها البعض، ثم تقسيمها لقطاعات مختلفة، هو ما يوحى لنا فعلا بأن الخدمات تدر مثل تلك القيم المضافة، فى حين أن الحقيقة هى أن القطاعات الإنتاجية هى التى تنتج معظم الثمانين فى المئة المنسوبة للخدمات.
الحقيقة أن القيمة المضافة التى يزعمون أنها انتجت فى الاقتصاد الخدمى. هى الأرباح التى يحققها مقدموا الخدمات من منشئات رأسمالية وحكومية وتعاونية وفردية ورأسمالية صغيرة، نتيجة ما استثمروه من عمل ميت، مثل المنشئات ووسائل النقل والحواسب الآلية والأجهزة التعليمية والطبية والمواد الخام وغيرها، و شرائهم العمل الحى متمثل فى العاملين بأجر لديهم، إذا وجدوا كما فى حالة المنشئات الرأسمالية التى تقدم الخدمات، و قد أتت الأرباح و الأجور فى الحقيقة، من الاقتصاد الحقيقى الإنتاجى، وحولت بأشكال غير مباشرة للخدمات، ذلك أن كل أسعار الخدمات تحمل فى النهاية على تكلفة السلع الصناعية والزراعية، لأن الخدمات لا يمكنها أن تخلق قيما منفصلة عن السلع، و ما تخلقه هو قيم رمزية تحتاج لحامل مادى لحملها، وهو السلعة، كالأفكار تحتاج لمخ بشرى أو عقل إلكترونى أو ورقة لتحملها، و لا يمكن تصورها منفصلة عن هذا المخ أو ذاك العقل أو تلك الورقة.