خرافة الطبقة الوسطى


سامح سعيد عبود
2010 / 10 / 13 - 00:18     

لا يوجد ما يسمى بالطبقة الوسطى، رغم شيوع استخدام المصصطلح حتى فى الأوساط الأكاديمية، رغم عدم علميته، الكامنة فى أنه تعبير مطاطى غير دقيق وغامض، ولا يكشف عن مضمون اجتماعى محدد، لأن الناس تتحدد هويتهم الطبقية وفق مواقعهم فى علاقات الإنتاج، أى وفق علاقاتهم بمصادر السلطة المادية، و هى الثروة والعنف والمعرفة، لا وفق مؤهلاتهم الدراسية، أو طبيعة عملهم، أو مستوى معيشتهم، ومن هنا ينقسم البرجوازيون وهم بالتعريف ملاك الثروة عموما إلى ثلاث طبقات مهيمنة فى ثلاث علاقات إنتاج مختلفة، وأما البيروقراطيون الحائزون على وسائل العنف والمعرفة فيتميزون عن باقى العاملين بأجر الآخرين، الموظفين الحكوميين الصغار، والعمال الحكوميين، و العمال لدى الرأسماليين، والعمال فى الإنتاج السلعى البسيط، لكننا لا نستطيع أن نقدم صورة دقيقة عن حجم كل طبقة من تلك الطبقات البرجوازية لعدة أسباب منها
أولا:ـ أن منشئات القطاع الخاص لا تسجل رسميا كل من يعملون لديها بدقة، وهو معيار مهم فى التفريق بين ملاك هذه المنشئات.
ثانيا: _أن التطور التكنولوجى نفسه أصبح يقلص باستمرار من عدد العاملين بالمنشئات التى أصبحت تتزايد كثافة رأسمال فيها، و تتقلص بها قوة العمل مما يستدعى تعديل معيار حجم العاملين بالمنشأة كأساس للتفريق بين الطبقات المالكة.
ثالثا:ـ أن البرجوازى الواحد يمكن أن يملك أو يشارك فى منشئات متعددة كبيرة و متوسطة وصغيرة، و يمارس أنشطة متنوعة، ومن ثم يحصل على مصادر متعددة للدخل من عوائد التملك (الأرباح والفوائد والريع) التى لا ترصدها الاحصائيات بدقة.
رابعا:ـ هذه المعايير الحجمية نفسها غير موضوعية إلى حد كبير، حيث تحمل درجة عالية من التعسف، فلا توجد أسوار فولاذية بين من يستخدم تسع عمال مأجورين ومن يستخدم عشر عمال مأجورين مثلا، كما يفترض التقسيم بناء على الحجم، فهناك فروق مؤكدة بين كل من البرجوازى الكبير و البرجوازى المتوسط والبرجوازى الصغير من حيث المصالح، ومستوى المعيشة، والوعى الطبقى، والموقف السياسى، ومن حيث درجة ممارسته للسلطة على مستوى النظام ككل وعلاقته بالدولة و موظفيها، و العلاقة بينه وبين العاملين لديه، و من هنا فالرأى عندى لحل تلك المسألة يكون فى التقسيم الموضوعى الذى يتم بناء على دور العمل المأجور فى المنشأة، ما إذا كان هو منتج القيمة المضافة كما فى كل مؤسسة رأسمالية، أم أن العمل المأجور يؤدى دور مشارك ومساعد بجوار دور صاحب العمل المنتج الذى يقوم بدور أساسى فى إنتاج القيمة المضافة، كما فى حالة المنشئات الحرفية والمهنية، ومن هنا ففى حالة كون العمل المأجور هو منتج القيمة المضافة يصبح صاحب العمل برجوازى كبير( رأسمالى)، أما فى حالة ما إذا كان يؤدى دور مشارك و مساعد فى خلق القيمة المضافة يصبح صاحب العمل برجوازى متوسط ( فلاح أو حرفى أو مهنى كبير).
خامسا:ـ يمكن للبرجوازى أن يقصر نشاطه على الاقتصاد الرمزى دون الاستثمار فى الاقتصاد العينى فلا يملك سوى عقارات ومنقولات ثمينة و أوراق مالية مختلفة دون أن يملك أى منشئات فى الاقتصاد العينى، وأمثال هؤلاء لن يظهروا فى الاحصائيات كنشطين اقتصاديا، وحجم هؤلاء البرجوازيين أكبر من حجم البرجوازيين فى الاقتصاد العينى، والأثنين أى النشطين فى الاقتصاد العينى أو الرمزى يشكلان معا البرجوازية بكافة طبقاتها الفرعية.
يهدف ممارس الإنتاج الفردى أو البرجوازى الصغير لإنتاج منتج أو تقديم خدمة مع تبادل بسيط يقوم على المقايضة أساسا بين منتجاته أو خدماته، و بين منتجات الآخرين أو خدماتهم، و يمارس الفرد سواء كان فلاحا أو حرفيا أو مهنيا العمل فى عقار صغير سواء أكان هذا العقار ملكه شخصيا أو ملك آخرين يستأجره منهم، و باستخدام أدوات عمل يملكها شخصيا أو يستأجرها من آخرين، والشرط الذى لا يجعل ممارس الإنتاج الفردى الصغير يتدهور لوضع القنانة هو عدم وجود السخرة والقهر و الإذعان والجبر فى العلاقة الإنتاجية، بين المؤجرين والمستأجرين، أو بين المنتج الفردى و بين بيروقراطيو الدولة وموظفيها، أو بين المنتج الفردى وبين الإقطاعى، أو بين المنتج الفردى، وبين العصابات المنظمة التى قد تفرض بدورها إتاوات عليه، و الشرط الآخر الذى لا يجعل هذه العلاقة الإنتاجية، رأسمالية أو سلعية بسيطة هو أن لا يستخدم الفلاح أو الحرفى أو المهنى عمل الآخرين كعمال مأجورين فى نشاطه الإنتاجى أو الخدمى، و فى بعض الأحوال يتحول هذا الإنتاج الفردى لإنتاج عائلى عندما يشارك أفراد عائلة المنتج الفردى فى نشاطه الإنتاجى أو الخدمى بشرط أن يكون عائد عملهم هو ما يستهلكوه معه من ناتج عملهم.
الإنتاج السلعى البسيط، فى حقيقته نوع من الرأسمالية البدائية التى تنتمى لما قبل الثروة الصناعية، و يحدث عندما يتحول الإنتاج الفردى الصغير إلى الإنتاج السلعى البسيط بتوافر شرطين، أولهما عندما يستخدم المنتج الفردى بعض العمال المأجورين لمساعدته فى نشاطه الزراعى أو الحرفى أو المهنى الفردى، بشكل دائم أو مؤقت أو موسمى، بشرط أن يكون دورهم مساعد بجوار دور صاحب العمل المنتج الذى يشاركهم العمل، ومن ثم فى إنتاج القيمة المضافة، التى يتقاسمونها فيما بينهم، والشرط الثانى حين يدخل الإنتاج بأكمله أو فى معظمه إلى السوق ويخضع لقوانينه، وعادة ما يتم فى هذه الحالة تحويل جزء من الفائض الناتج من نمطى الإنتاج الفردى والسلعى البسيط، عن طريق السوق إلى طبقات أخرى إقطاعية و رأسمالية و بيروقراطية، وإذا كان صاحب العمل البرجوازى المتوسط فى هذا نمط الإنتاج السلعى البسيط يمارس أنواع من القهر والاستغلال على من يعملون لديه من جانب، فهو عادة ما يسقط فى علاقة قنانة مثل تلك التى يمكن أن يسقط فيها المنتج الفردى من جانب آخر.
تتفاوت الأوزان النسبية للمنخرطين فى علاقات الإنتاج الفردى والسلعى البسيط فى ظل سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية، من مجتمع محلى إلى آخر، ففى المجتمع المصرى، و هو مجتمع متوسط التطور والنمو، يبلغ حجم العاملين فى تلك الأنماط من الإنتاج نحو نصف قوة العمل، أو 70% من العاملين فى القطاع غير الحكومى الذى يعمل فيه75% من قوة العمل، بينما يعمل 30% منهم فى نمط إنتاج رأسمالى.
فى وقت من الأوقات كان المنخرطين فى نمطى الإنتاج الفردى والسلعى البسيط، لا يشكلون الغالبية من السكان في كل المجتمعات الرأسمالية الصناعية المتقدمة، التى كان يشكل غالبيتها العمال المأجورين لدى الرأسماليين، فى حين أن هؤلاء البرجوازيون الصغار والمتوسطون والعاملون لديهم كانوا دائما يشكلون غالبية السكان فى المجتمعات غير الصناعية المتخلفة، ولكن مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية الحديثة فى شتى المجتمعات المحلية متقدمة ومتخلفة على السواء، أخذت تتزايد باطراد الأوزان النسبية للمنخرطين فى الأنماط الفردية والسلعية البسيطة، مع تقلص فى الحجم النسبى للعمالة الصناعية لحساب تزايد الحجم النسبى للعمالة الخدمية، وفى نفس الوقت تقلص المنخرطين فعليا فى نمط الإنتاج الرأسمالى مقارنة بالمنخرطين فى أنماط الإنتاج الأخرى وبالعاملين بالحكومة.
أن هؤلاء المنخرطين فى نمطى الإنتاج الفردى والسلعى البسيط يقلون عموما فى المدن حيث تتركز القطاعات الصناعية والمنظمة والرأسمالية، ويزيدون فى الريف حيث القطاعات الزراعية وغير المنظمة وما قبل الرأسمالية، كما يقل حجمهم النسبى فى البلاد المتقدمة الصناعية، ويزيد حجمهم النسبى فى البلاد المتخلفة، مع ملاحظة تزايد حجمهم النسبى المتصاعد فى البلاد الصناعية فى الحقبة الحديثة من التطور الرأسمالى، مع انتقال استثمارات الصناعة إلى بعض البلاد المصنعة حديثا من جانب، وبسبب التطور التكنولوجى الذى يطرد العمال من المصانع من جانب آخر.
المنخرطون فى نمطى الإنتاج الفردى و السلعى البسيط كانوا يتقلصون كلما زاد تركز الثروة فى أيدى الرأسماليين، وكلما تعمقت هيمنة علاقة الإنتاج الرأسمالى التى كانت تضغط علي أصحاب العمل منهم، وتفلسهم و تسبب تدهور أوضاعهم الاجتماعية، إلا أن الإنتاج الرأسمالى الصناعى فى ظل التطور التكنولوجى الراهن لم يصبح فى حاجة لكل قوة عمل هؤلاء البشر لإنتاج سلعه وتقديم خدماته، مما أدى إلى انخراط أعداد متزايدة من البشر مضطرين فى النمطين الفردي والسلعي البسيط ، وينشطون أساسا فى الزراعة والخدمات و الصناعات الاستهلاكية الخفيفة والأعمال الحرفية والمهنية عموما، وهم بحكم وضعهم يقعون تحت هيمنة كل من الرأسماليين و البيروقراطيين و موظفى الحكومة و ملاك العقارات والعصابات المنظمة، واستغلالهم، إلا أن بعض هؤلاء قد يتحولون إلى رأسماليين بتوسع أعمالهم، واستخدامهم للعمل المأجور على نطاق واسع للإنتاج، و بعضهم يتدهورون بالإفلاس إلى وضع العمال أو المهمشين، كما أن بعضهم يجمع بين العمل المأجور والإنتاج الفردى والسلعى البسيط فى نفس الوقت مما يسبب ظاهرة ازدواج الانتماء الطبقى، وهذا التطور يتم على عكس ما تنبأت به الماركسية، بأن التطور الرأسمالى سوف يقلص من حجم المنخرطين فى الإنتاج الفردى والسلعى البسيط، ويقلص من أهميتهم الاقتصادية، بسبب تدنى ما يخلقونه من قيمة مضافة، و من ثم فأن المصير المحتوم لهؤلاء، هو تحول غالبيتهم لصفوف البروليتاريا، و تحول بعضهم لرأسماليين، ولكن هذه النتيجة لم تتحقق لأسباب سبق ذكرها، فهناك توسع فى حجم المنخرطين فى هذين النمطين بتوسع حجم العاملين بقطاعات الخدمات والتجارة على حساب تقلص حجم العاملين فى القطاعين الصناعى والزراعى.
يغلب على العمل الفردى والسلعى البسيط العمل فى التجارة أو الخدمات أو الزراعة أكثر من العمل فى الصناعة، وعمليا فإن العاملين بأجر فى هذه الأنشطة لا يستطيعون النضال الاقتصادى المنظم فى مواجهة صاحب العمل، و إن كان يمكنهم مساومته على الأجر وشروط العمل، ويصعب أن يتكون لديهم وعى طبقى عفوى، إذ يتلخص طموحهم الفردى فى أن يتحولوا هم لأصحاب مشاريع و ملكيات خاصة بهم، وذلك للعديد من الاعتبارات أهمها اعتماد هذه الأنشطة غالبا على العمالة المؤقتة والموسمية والمتدربة، وبالتالى سهولة استبدالهم بعمال آخرين فى أى وقت. ولدورهم المتشابك مع دور صاحب العمل فى إنتاج القيمة المضافة التى تعتمد على نشاط صاحب العمل بجانب نشاطهم، تلك القيمة الضعيفة أصلا بالمقارنة بما ينتجه العامل فى المشروع الرأسمالى من قيمة، وبرغم أن العلاقة بين صاحب العمل والعامل فى الإنتاج السلعى البسيط لا تخلوا بالطبع من الاستغلال والقهر، إلا أنه فى كثير من الأحيان يكون صاحب العمل هو القائم بالدور الرئيسى فى خلق القيمة المضافة، فى حين يقوم العاملون لديه بالدور الثانوى فى إنتاجها، والجدير بالذكر أن العلاقة بين العمال و صاحب العمل فى تلك الأنشطة أحيانا ما تتسم بطابع عائلى أو شخصى كتلك التى تميز علاقة صبى الحرفى أو مساعده بمعلمه صاحب العمل، مما يضعف من إمكانية الصراع بينهما، ومن هنا يختلف العاملون بأجر فى تلك الأنشطة عن العاملين بأجر فى المشروعات الرأسمالية، الذين يستطيعون الاحتجاج فى مواجهة صاحب العمل، والنضال الاقتصادى المنظم ضده، يساعدهم فى ذلك أنه لا توجد بينهم وبين صاحب العمل علاقات شخصية وأبوية كتلك الشائعة فى نمط الإنتاج السلعى البسيط، ومن ثم يمكن أن يتكون لديهم وعى طبقى عفوى، ولذلك يمكنهم الانخراط فى الصراع الطبقى الاقتصادى والسياسى المنظم.