التبعية وأوهام التحرر منها


سامح سعيد عبود
2010 / 9 / 27 - 08:54     

التبعية وأوهام التحرر منها

تفترض نظرية التبعية أن الفقر والتخلف في دول الجنوب التابعة، وعدم الاستقرار السياسي فيها، يعود سببه إلى المسار التاريخي الذي فرضته عليها دول الشمال المتبوعة، و أن الدول الأغنى في حاجة للدول الأفقر حتى تستمر هي في النمو، فنمو دول الشمال يرتكز على تخلف دول الجنوب، ومن ثم فإن من مصلحة دول الشمال الحفاظ على هذا التخلف فى الجنوب، وبناء على ذلك أيضا، فإنه من المستحيل على بلاد الجنوب أن تخرج من فقرها وتخلفها إلا بفك الارتباط بينها وبين بلاد الشمال، وأنه من المستحيل تحقيق نمو لهذه البلاد دون تحررها من التبعية لبلاد الشمال، وهى كلها فروض تحطمت على صخرة الواقع الذى لا يرحم، حيث نهضت النمور الآسيوية في الستينات برغم عدم فكها الارتباط مع دول الشمال، بل بسبب اندماجها الكامل فى الاقتصاد العالمى، ونهضت الصين والهند في الثمانينات حينما تخلتا عن أوهام فك الارتباط، وحينما اندمجتا فى الاقتصاد العالمى بالكامل، وهو ما أدى إلى سقوط نظرية التبعية، بعد أن كان لها تأثير كبير في الخمسينات والستينات والسبعينات.
نظرية التبعية مناقضة لنظريات التحديث أو التصنيع أو التنمية التقليدية، التي تدعي بأن البلدان الفقيرة والمتخلفة هي بلاد في طور أدنى من النمو بسبب عدم اندماجها الكامل في الاقتصاد الرأسمالى العالمى، فى حين تفترض نظرية التبعية إن هذه البلدان مندمجة بالفعل في الاقتصاد الرأسمالى العالمى، غير أنها هيكليا في حالة تبعية مستمرة للبلاد الأكثر تطورا، و أن هذه التبعية تمنعها من الإنتاج الوطني للمنتوجات التى تستهلكها، بما يجعلها مجبرة على شراءها من من بلدان الشمال، وهذا يخالف بوضوح انتقال كثير من الصناعات من بلاد الشمال إلى بلاد الجنوب فى العقود الثلاث الأخيرة.
رغم وجود اختلافات عديدة بين أصحاب نظرية التبعية، فإنهم يتفقون جميعا على أن البلدان الفقيرة مجبرة على تزويد البلدان الغنية بالمواد الأولية وباليد العاملة الرخيصة، فماذا سوف يحل بعرب البترول لو امتنعوا عن تصدير البترول؟، وماذا سوف يحل بعرب الانفجار السكانى لو امتنعوا عن توجيه فائضهم السكانى للعمل لدى الاستثمارات الأجنبية أو الهجرة لبلاد النفط أو بلاد الشمال؟.
يدعى منظروا التبعية إن هذا الوضع ناتج عن التاريخ الاستعماري فيما بين المجموعتين من البلاد، برغم أن كل من السعودية وتركيا و إيران وعمان لم تتعرض لتجربة الاستعمار الحديث، ويدعى منظروا التبعية أن دول الشمال وضعت مجموعات من الإكراهات القانونية والمالية والفنية وغيرها بما يجعل البلدان الفقيرة في حالة تبعية لها، وإن هذه الإكراهات ناتجة عن ضعف نقل التكنولوجيا بين البلدان الغنية المصدرة للتكنولوجيا، وبلدان الجنوب التي تعوزها تلك التكنولوجيا، وهذا القول يتناقض مع تحول اليابان من بلد متخلف إلى مركز إبداع التكنولوجيا فى العالم، ولا يفسر لماذا لم تتطور الصين، وهى من كانت أكثر تطورا من أوروربا حتى نهاية القرن السادس عشر، و لاتجيب النظرية عن لماذا لم يستفد سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى النصف الثانى من القرن العشرين من فرصة تاريخية اتيحت لهم، حين تراكمت لديهم الأموال من فوائض النفط، والأيدى العاملة، والسوق المحلى، فى تصنيع الشرق الأوسط ، ولا تجيب عن لماذا تدفقت فوائض الأموال النفطية والأيدى العاملة العربية من الشرق الأوسط إلى دول الشمال المتبوع.
نظرية التبعية لا تضع فى الاعتبار دور النخب السياسية والاقتصادية والثقافية المحلية في حدوث التخلف المزمن لهذه البلدان، كما لا تضع فى الاعتبار طبيعة أنظمة الحكم لتلك البلاد باعتبارها المعوق الرئيسى أمام التنمية, والتاريخ الاقتصادى الاجتماعى كتفسير لهذا التخلف المزمن.
بناء على ما سبق يمكن تفسير نجاح اليابان و فشل الصينيون والشرق أوسطيون، بالرجوع إلى سبب داخلى فى كل تلك المجتمعات، لا بسبب مؤامرات الغرب الإمبريالى على الفاشلين. اليابان ببساطة عرفت اقطاع شبيه بالاقطاع الأوروبى، توزعت فيها السلطات بين الأمبراطور فى المركز والاقطاعيات، مما حجم من سلطة الإمبراطور المركزية، ورسخ احترام قواعد تعاقدية بين الإقطاعيين والدولة، وبين الاقطاعيين والأقنان، مع احترام كل الأطراف لحقوق الملكية الخاصة، مما سمح للبرجوازية اليابانية بتصنيع البلاد وتحديثها، بتوجية من الدولة اليابانية فى عهد الميجى، بعد أن أطمئنت على أموالها من المصادرة من الإقطاعيين والإمبراطور، برغم تخلف اليابان حتى منتصف القرن التاسع عشر عن جارتها الكبرى الصين.
يمكن تفسير فشل الشرق أوسطيين والصينين فى التحديث والرسملة، بأنهم عرفوا نمط من إقطاع الدولة، المسمى بنمط الإنتاج الآسيوى عند البعض، وبالخراجى عند البعض الآخر، تركزت فيه السلطة فى يد الحاكم الأعلى للدولة، وما كان الإقطاعيين إلا كبار رجال دولته الملتزمين بطاعته، وكان يمكن للحاكم أن يبقيهم أو يستبدلهم بآخرين فى أى وقت، ويصادر ممتلكاتهم، ويسلبهم اقطاعيتهم، فكل الرعايا الخاضعين لسلطته التى لا راد لها، من التجار والحرفيين والمهنيين والمزراعين وحتى هؤلاء البيروقراطيين كانوا يعانون من قنانة معممة للدولة ممثلة فى الحاكم صاحب اللقب الوراثى، برغم أنهم كانوا فى معظم الأحيان يتمتعون بالحرية الفردية، إلا أن إقطاع الدولة قيد حرية الجميع فى العمل والاستثمار والإبداع والابتكار العملى، وهو الأمر الذى لم يسمح للبرجوازية الصينية والشرق أوسطية التجارية، ختى النهضة الأوروبية، أن تستثمر أموالها فى التصنيع، طالما كانت أموالهم عرضة للمصادرة وفق نزوات الحاكم، برغم كل ما تراكم فى أيدى التجار والبيروقراطيين من ثروات هائلة نتيجة سيطرتهم على طرق التجارة العالمية البعيدة، على عكس وضع تجار غرب أوربا الذين استثمروا أموالهم فى التصنيع، بعد الكشوف الجغرافية الكبرى، وتمت لهم السيطرة على الملاحة الدولية، برغم ما عرفه الشرق أوسطيون والصينيون من تطور فى العلوم النظرية وتطبيقاتها فى القرون الوسطى، سبق تطور العلوم والتكنولوجيا الجديثة التى انطلقت فى أوروبا، إلا أن العلوم والابتكارات الشرق أوسطية والصينية لم تندمج بالإنتاج على عكس ما حدث فى غرب أوروبا.
يهمل منظروا نظرية التبعية دور الفساد الحكومى والشعبى، والاستبداد الغاشم للحكومة، وأجهزتها البيروقراطية، وغياب ثقافة المنافسة كأسباب لتفسير التخلف مركزين على الأسباب الخارجية، بالإضافة إلى أن هذه النظرية عامة، وأنها غير قادرة على تحليل الفوارق في التنمية بين بلدان الجنوب، حيث تنقسم لبلدان متوسطة النمو وبلدان متدنية النمو.
من ناحية أخرى إننا إذا وضعنا فى الاعتبار إن الاندماج فى الاقتصاد العالمى، يعنى اقتصاد أكثر كفاءة، ويعنى إنتاجية أفضل، وتطوير أسرع لقوى الإنتاج، وأن فك الارتباط بهذا الاقتصاد يعنى قوى إنتاج أقل تطورا، وإنتاجية أسوء، واقتصاد أقل كفاءة، فأن فك الارتباط كاملا كان أم نسبيا مع السوق العالمى يصبح اتجاه رجعى وليس تقدمى بأى حال، مع ملاحظة أن التبعية ناتجة موضوعيا عن علاقة متبادلة بين طرف متخلف، ومن ثم تابع، وبين طرف متقدم، ومن ثم متبوع، ومن ثم لا قضاء على التبعية بين الطرفين إلا بطريقين أحدهما ما تقول به نظرية التبعية، وهو فك الارتباط بين كل الطرفين، و الآخر ما تقول به النظريات القائلة بإمكانية تطوير الطرف الضعيف فى العلاقة ليصبح ندا للطرف القوى فى العلاقة. الطريق الأول الداعى لفك الارتباط والتحرر من التبعية، يتضمن بالضرورة التخلى عن هدف اللحاق بالشمال المتقدم، أى أنه يعنى الاكتفاء بمستوى متدن من قوى الإنتاج، وبالتالى من الإنتاجية، حيث يجب الاستغناء عن التكنولوجيا التى يحتكرها الشمال، وهذا لا يعنى إلا شىء واحد ألا وهو الانخفاض الحاد فى مستويات المعيشة الناتج عن انخفاض الإنتاجية، المرتبطة بالتكنولوجيا الأقل تطورا، فكيف يمكن مواجهة التزايد السكانى، وما يعنيه من ضرورة تلبية احتياجات السكان المتزايدة، بتكنولوجيا أقل إنتاجية.
الطريق الثانى لن يتأتى إلا بتطوير الاندماج على مستوى العالم إلى ذروته ليختفى الصراع القومى مفسحا الطريق للصراع الوحيد الممكن ألا وهو الصراع الطبقى، فى ضوء الميل الواضح للشركات المتعدية الجنسية والرأسمال العالمى لتصنيع العديد من بلدان العالم الثالث سعيا وراء الربحية الأعلى بتخفيض تكاليف العمل فى إطار إعادة فك وتركيب المجتمع البشرى التى تجريه تلك الشركات، وهو ما يدمر فرضية نظرية التبعية حول تقسيم العمل الدولى بين دول المركز الصناعى، ودول المحيط الزراعى والتعدينى .
تعتمد نظرية التبعية على فرضية أساسية، هذه الفرضية أنه مع ثمانينات القرن التاسع عشر، أى مع المرحلة الرأسمالية الاحتكارية، تفاوتت تعويضات العمل على نفس الإنتاجية بين المركز المتقدم والمتبوع الذى كانت فيه تعويضات العمل أعلى من مثيلتها عن نفس الإنتاجية فى دول المحيط المتخلف والتابع، مما أدى لنزح فائض القيمة من الثانية إلى الأولى، عبر عملية التبادل فيما بينهما، وهى ظاهرة يقول أنصار النظرية أنها مستمرة حتى الآن، وأن سياسات التنمية المستقلة فشلت فى القضاء عليها، وكان من أهم أسباب سقوطها، وقد أدى هذا التحول فى تفاوتات عائد العمل على نفس الإنتاجية إلى نتائج هامة على مستوى الصراع الطبقى على مستوى العالم فى المركز الرأسمالى المتقدم حيث ازدهرت الحركات الإصلاحية التى استأنست بها الرأسمالية الطبقة العاملة، وفى المحيط المتخلف حيث ازدهرت الحركات الثورية التى لم تنجح فى تحقيق أهدافها.
قضية التبعية إذن ليست فى التبادل السلعى فى حد ذاته بين المراكز و الأطراف، وهو السائد منذ أن بدأت الرأسمالية فى الحياة، الأمر الذى أكسبها العالمية، وإنما فى قواعد هذا التبادل غير العادلة، والتى انقلبت لميزة نسبية فى بعض بلدان العالم الثالث حيث تسعى الرأسمالية العالمية إلى حيث الأيدى العاملة الرخيصة، والأقل قدرة على ممارسة الصراع ضد رأس المال، لتصدر الصناعات كثيفة العمالة إلى دول المحيط، ومن ثم فأن جوهر التحرر من التبعية فى الحقيقة، وهو ما لا يقترب منه أحد هو تحقيق تبادل عادل للسلع، يعنى تعويضات متماثلة لقوة العمل مقابل نفس الإنتاجية فى بلدان المركز والمحيط، وهو لا يعنى سوى تحرير قوة العمل كسلعة مثل غيرها من السلع، مثلها مثل الرأسمال، وإعطاءها حرية الانتقال عبر العالم شأنها فى ذلك مثل غيرها من السلع، وهو الأمر الذى سوف يؤدى إلى تساوى عائد العمل على نفس الإنتاجية فى شتى بقاع العالم، وتوقف نزح العائد من الأطراف إلى المركز، وهو الشعار الذى لم ترفعه أى حركة ثورية تتبنى نظرية التبعية رغم وضوحه وبساطته وتحقيقه للعدالة فى نفس الوقت .
أن بلوغ الاندماج ذروته بهذه الطريقة، يعنى أنه إذا كانت عملية الإنتاج يتم تدويلها تماما فيما يتعلق بحركة رأسا لمال والسلع دون حرية انتقال العمالة، وهو الأمر الذى تقاومه بعض قطاعات الرأسمالية المحلية بشدة لأنه يفقدها قدرتها على تحقيق أعلى معدل للربح، فأن الاندماج المنشود، والذى يعنى التحرر من التبعية يشمل حرية انتقال العمالة، ومن ثم تنظيمها عبر العالم، ويعنى التعويضات المتساوية لقوة العمل عن نفس الإنتاجية .
ذهب الهوس العشائرى بنظرية التبعية، إلى حد رفض بعض متبنيها لنظرية القيمة فى العمل، استنادا على دوافع قومية ووطنية، لأن هذه النظرية تحديدا لا تساند رؤيتهم لكل من الاستغلال والقهر، الذى ينخرطون في النضال ضدهما على أسس قومية عشائرية لا على أسس طبقية.
سر الإهمال أو التشوية أو العداء لنظرية القيمة فى العمل من قبل هؤلاء القوميين، يرجع إلى أن هذه النظرية تقول ببساطة أن قيمة السلع الزراعية والحيوانية و التعدينية التى تتخصص فيها بلاد الجنوب، لا بد وأن تكون أقل من قيمة السلع الصناعية التى تتخصص فيها بلاد الشمال، طالما أن قوة العمل المبذولة فى الإنتاج الزراعى والتعدينى أقل من قوة العمل المبذولة فى الصناعة، وهذا يفسر جزئيا، الفرق فى مستوى المعيشة بين البلاد التى تتخصص فى إنتاج المواد الأولية باستثناء دول الخليج، و بين مستوى المعيشة فى البلاد الصناعية، والراجع أساسا إلى الفرق فى الإنتاجية المرتفعة للعامل الصناعى، ومن ثم دخله المرتفع بالنسبة للعامل الزراعى أو التعدينى، وبين الإنتاجية المنخفضة للعامل الزراعى أو عامل التعدين، ومن ثم دخله المنخفض، فالعامل الزراعى قد لا يعمل فى أفضل الأحوال سوى بضعة أسابيع فى العام، فى حين يقف العامل الصناعى على خط الإنتاج معظم أيام العام، و فى حين يستخدم العامل الزراعى وسائل إنتاج بسيطة بذل في إنتاجها عمل أقل و من ثم قيمة أقل، يستخدم العامل الصناعى وسائل إنتاج أكثر تعقيدا بذل فى إنتاجها عمل أكثر، ومن ثم قيمة أكثر، فالمشروع الصناعى يستثمر قوة عمل أكثر من المشروع الزراعى سواء كان هذا العمل حيا كان أو ميتا، ولهذا يخلق المشروع الصناعى قيمة مضافة أعلى مما يخلقها المشروع الزراعى والتعدينى.
يثبت ذلك أنه فى داخل البلد الواحد نلاحظ الفروق فى كل من الدخل والإنتاجية ما بين العمال الصناعيين والعمال الزراعيين، ففى حين يبلغ عمال الصناعة فى مصر 19% من قوة العمل، فإنهم يساهمون ب 35% من الدخل القومى، وبرغم من أن عمال الزراعة يبلغون 30% من قوة العمل فأنهم لا يساهمون بأكثر من 15% من الدخل القومى، مع ملاحظة أن مستوى التصنيع فى مصر متخلف وبدائى فى الغالب الأعم، ومن ثم لا ينتج قيم مضافة بنفس المستوى المتقدم فى البلاد الصناعية، فالقيمة المضافة الناتجة عن تجميع أجهزة الكومبيوتر التى تتم فى مصر، أدنى بكثير من القيمة المضافة الناتجة عن صنع الدوائر المتكاملة والمعجلات وغيرها من أجزاء الكومبيوتر نفسه التى تتم فى الولايات المتحدة.