ملاحظات حول الإشتراكية العلمية والديموقراطية


نضال الصالح
2010 / 9 / 25 - 01:57     

منذ فترة يدور على صفحات هذا الموقع نقاش حول الماركسية والإشتراكية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها . إشترك في هذا النقاش ماركسيون من مختلف الأطياف،ولقد تخطى في بعض الأوقات صفة النقاش الهادئ والبناء وطغت عليه الإنفعالات والإتهامات المتبادلة التي وصلت حد الإتهام بالخيانة والعمالة.
لن أدخل في هذا النقاش ولكنني سأعرض على عجالة بعض الملاحظات بصفتي عشت مدة طويلة في كنف النظام الإشتراكي العلمي، الماركسي اللينيني والستاليني، في دولة كانت تعتبر من أرقى الدول الإشتراكية وأكثرها تقدما، هي تشيكوسلوفاكيا. هذا إلى جانب أنه كانت تربطني بعدد من قيادي تلك الحقبة علاقات صداقة مكنتني من مشاهدة بعضا من ما كان يدور خلف كواليس النظام. كا قمت كذلك بعدد لا يحصى من الزيارات إلى الإتحاد السوفييتي ولقد زرت كذلك كلا من الصين وفيتنام وكوريا الشمالية.
لقد عاصرت الحراك السياسي والإجتماعي منذ عام 1959 وعايشت التقلبات المختلفة فيه. لقد عشت في ظل القيادة الستالينية بقيادة نوفوتني وعايشت إنتفاضة الإشتراكية الديموقراطية أو الإنسانية كما يحلوا للبعض وصفها والتي جرت بقيادة دوبتشيك، ثم تدخل جيوش الإتحاد السوفيتي وبقية الدول الإشتراكية، ما عدى رومانيا، وإحتلال تشيكوسلوفاكيا في عام 1968 والقضاء على الحالة الدبتشيكية وفرض عودة الإشتراكية الأصولية للحكم والعمليات التصفوية التي جرت في الحزب والدولة التي طالت عددا ضخما من القياديين الشيوعيين على مختلف المستويات. كما عاصرت حكم النظام الإشتراكي بالسجن على القيادي الشيوعي هوساك وبقاءه في السجن سنين طويلة ذاق فيها الأمرين على يد رفاقه السابقين ثم خروجه من السجن واستلام أعلى المراتب في الحزب والدولة حتى صار رئيسا لجمهوريتها. كما عاصرت سقوط النظام على يد ما يسمى بالثورة المخملية التي أطاحت بالنظام بدون أي وسائل عنفية ومن هنا أخذت هذه التسمية. لقد لعب كثير من الشيوعيين الوصوليين دورا أساسيا في إسقاط النظام الذي بنوه بأيديهم وكانوا من أحد أسباب سقوطه.

يمكننا أن نقول من دون أن نتخطى المعقول أن الماركسية كنظرية ورؤية فلسفية ستظل حية في عقول الآلاف من الذين تبنوها فكرا ونهجا سياسيا، وستظل هدفا للدراسات والأبحاث الفلسفية من قبل المختصين وسيستمر العمل على دراستها وتحليلها ونقدها من قبل ذوي الإختصاص في الجامعات المختصة ومراكز الأبحاث. ستظل الماركسية جزءا من التراث الإنساني الغني والطويل.

لكننا يجب أن نعترف أن الإشتراكية العلمية التي ولدت من رحم الماركسية ومن رحم التأويل اللينيني والتي جرى تطبيقها في الإتحاد السوفييتي وبقية الدول الإشتراكية قد إنهارت وماتت ولم تعد قابلة لبث الحياة فيها من جديد. يجب أن نعترف كذلك أنه بالرغم من المكتسبات التي حققتها هذه الإشتراكية للطبقة العاملة والعاملين بشكل عام فإنها حملت منذ ولادتها بذور إنهيارها. لقد قامت هذه الإشتراكية على أسس ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية المركزية والتي تحولت مع الزمن إلى دكتاتورية الحزب الشيوعي الحاكم وهذه تحولت إلى دكتاتورية اللجنة المركزية ومن ثم إلى مكتبها السياسي.

إستطلاعات الرأي في الدول الإشتراكية السابقة يؤكد أن الإشتراكية في شكلها القديم والمبني على دكتاتورية البروليتاريا والحزب الواحد قد ماتت وإلى الأبد بالنسبة للأوروبيين وليس هناك أي أمل في عودتها. كما أنها ليست جذابة بالنسبة لسكان بلدان العالم الثالث الذين ذاقوا الأمرين ولا يزالوا من قسوة الأنظمة التوتالية وخاصة تلك المقنعة بقناع الإشتراكية وشاهدوا مصيرها في الدول الإشتراكية السابقة. إن إشتراكية المستقبل هي الإشتراكية التي تتبنى الديموقراطية والحرية الفردية بمختلف أشكالها وتؤمن بالتعددية وبتداول السلطة بناءا على قرار الجماهير الناتج عن إنتخابات حرة وديموقراطية.
إن أغلبية المواطنين، بما فيهم الطبقة العاملة، يرغبون في إشتراكية ديموقراطية تطلق الحريات الفردية بمختلف اشكالها، وفي الوقت الذي ترفض فيه هذه الأغلبية سطوة الرأسمالية المتوحشة، فإنها أيضا ترفض العودة إلى نظام ديكتاتورية البروليتاريا والحزب الواحد والحد من الحريات الشخصية. وهذا ما إقتنعت فيه الأحزاب الشيوعية في البلدان الإشتراكية السابقة وخارجها، حيث عدلت برامجها على أساسه ودخلت في اللعبة الديمقراطية.

لا يزال كثير من الماركسيين الذين يؤمنون بخلود الإشتراكية العلمية، الماركسية اللينينية، يرددون الإسطوانة القديمة التي تقول" إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي". وهم يعيدون للأذهان تاريخ العديد من تجارب القمع التي مارستها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، ولا يأخذون بالإعتبار أن الظروف قد تغيرت وأنه في وقتنا الحاضر وفي ظل لائحة حقوق الإنسان لا يوجد في الدول الديموقراطية الأوروبية دكتاتوريات برجوازية تستطيع سحق الطبقة العاملة بقوى شرطتها.

إن الماركسيين الأصوليين يصرون على "إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها."
ولكن تاريخ الواقع على الأرض يؤكد أن ديكتاتورية الروليتاريا سببت في خلق صراعات لا نهاية لها بين قادة الحزب على مختلف المستويات وأستعملت فيها أقذر الوسائل لتصفية المنافسين على القيادة. لقد جرى تصفية عدد ضخم من خيرة رجال الحزب تحت تهم وهمية مختلفة، وكثير من مؤسسي الحزب قضى حياته في السجن وقام رفاق الأمس بمعاملته بوحشية سبقت وحشية النظام الرأسمالي الذي إنتفضوا ضده. ومن دلائل تخبط النظام أن بعض قادته إنتقلوا من القيادة إلى السجن الطويل ومن ثم عادوا إلى القيادة. لقد ضغطت الديكتاتورية البروليتارية على خناق مواطنيها، فانتشرت الوصولية والرياء والمحسوبية والامبالاة والدسائس والخديعة، كما انتشرت الرسائل الكاذبة ضد بعضهم البعض تحت عنوان "معاداة النظام". الدكتاتوريات، بأي صفة كانت، تحمل في داخلها أسباب زوالها وهكذا إنهار النظام الإشتراكي الماركسي اللينيني القائم على دكتاتورية طبقة وحزبها.

يجب علينا أن نعترف أن الإنسانية لم تخلق لحد الآن نظاما مثاليا بدون شوائب يلبي مطالب جميع المواطنين على حد سواء، وأن النظام الشيوعي الذي يحلم به بعض الماركسيين والذي هو في نظرهم نهاية الشوط للوصول إلى الكمال ما هو إلا حلما طوباويا غير قابل التحقيق. كا يجب أن نعترف أيضا بأن الإشتراكية الديموقراطية بإعترافها باللعبة الديموقراطية وتبادل السلطة بناءا على قرار الجماهير في صناديق الإقتراع، وضعت نفسها هي الأخرى في مأزق يهدد مشروعها الإشتراكي بالإنهيار. لقد أعطت اللعبة الديموقراطية، وفي غياب وحدة القوى الإشتراكية وقوى اليسار وعجزها عن تمثيل مصالح أكبر قطاع في المجتمع، المجال للأحزاب اليمينية بالقيام بإئتلافات إنتخابية مكنتها في كثير من البلدان الأوروبية والديموقراطية من إستلام السلطة والقضاء على المشروع الإشتراكي بإعادة خصخصة المصانع والمؤسسات الحيوية في الدولة وفرض الضرائب على المواطنين وإلغاء المكاسب والضمانات التي إكتسبها العمال والموظفون والمتقاعدون والأمهات، تحت شعار خفض مديونية الدولة.
هنا يأتي دور الطبقة العاملة ونقاباتها وقدرة هذه النقابات في أخذ دورها في اللعبة الديموقراطية واستعمال الوسائل القانونية التي تكفلت بها الديموقراطية البرلمانية مثل الإضرابات والإحتجاجات الضاغطة للحفاظ على المكاسب التي إكتسبتها وفي نهاية المطاف إستعمال صوتها في صناديق الإقتراع من أجل إنتخاب ممثلين حقيقيين لمصالحها.
إن شرذمة قوى اليسار وإصرار بعض الأحزاب اليسارية على تبني مبادئ طوباوية تحلم بالعودة إلى الإشتراكية الماركسية اللينينية، هي من أهم أسباب ضعف اليسار. هذه الشرذمة تضعف من قوى اليسار وتفتح المجال واسعا لتكتل قوى اليمين.
إن كثيرا من الأحزاب اليسارية، وخاصة في الدول العربية، تحولت إلى أحزاب صالونات تتلذذ بالمناقشات العبثية طارحة أطروحات نظرية ليس لها أي علاقة بالواقع السياسي او الإجتماعي للجماهير التي تدعي تمثيلها. إن وحدة قوى اليسار وإلتفافها حول برنامج واقعي يمثل مصالح أوسع قطاع من الجماهير هو الأمل الوحيد لهذي القوى من أجل أن تلعب دورا تقدميا في الحراك السياسي ومن أجل تحقيق حياة أفضل لأوسع شريحة في المجتمع.