اليسار والحركات اليسارية (2)


حسقيل قوجمان
2011 / 2 / 15 - 10:25     

اليسار والحركات اليسارية (٢)
بحثت في المقدمة التي جاءت في القسم الاول من هذا المقال موضوع تعريف اليسار والحركات اليسارية والتمييز بينها والعلاقات التي تربطها وكيفية دراسة الفئات المكونة لليسار في اللحظة المعينة والحركات اليسارية الناشئة عن تكتلات الفئات الواعية من اليسار في منظمات مختلفة. وفي هذا الجزء من المقال احاول بحث موضوع اليسار والحركات اليسارية في الظروف التي يمر بها العراق في ظل الاحتلال الحالي.
في عراق الاحتلال كما في جميع الحالات علينا ان ندرس التركيب الطبقي في ظروف الاحتلال لكي نحدد مفهوم اليسار العراقي. جاء الاحتلال الاميركي تحت حجج كاذبة حتى باعتراف قادة الاحتلال، مثل اسلحة الدمار الشامل وامكان العراق مهاجمة بريطانيا خلال نصف ساعة او ما يماثلها من اختلاقات واكاذيب. ومعروف ان الامبريالية الاميركية ساندت حكومة البعث ودفعتها نحو اجراء حروب لمصلحتها وزودت حكومة البعث باسلحة الدمار الشامل لاستخدامها ضد الشعب العراقي. وتعرف جيدا ان وفودها خلال الحصار دمرت جميع اسلحة الدمار الشامل التي كانت موجودة في العراق. وان الادعاء بان الامبريالية الاميركية اجتاحت العراق ودمرته بابشع اسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها من اجل تحرير الشعب العراقي من حكومة البعث لا اساس له من الصحة. ان الامبريالية الاميركية احتلت العراق لكي تستعبده وتنهب ثرواته كجزء من هدفها الاقصى في الاستيلاء على العالم كله. ونصب الاحتلال حكومة عملاء تدربوا وتعاونوا مع الامبريالية وتقاسموا المناصب حتى قبل اجتياح العراق.
من الناحية الثانية اصبح العراق كله عبارة عن شعب محروم من كل شيء، الماء النقي والكهرباء والعمل والامان. اصبح شعب ارامل وايتام ومهجرين في بلادهم وخارج بلادهم، شعبا لا دولة له ولا مؤسسات ولا بنى تحتية، نهبت اثاره ودمر جيشه وقتلت الكفاءات العلمية والعسكرية فيه ونهبت اسلحته وبيعت مصانعه واصبح شعبا يعيش على ما يستورد له من وقود وغذاء وكل شيء. وقد كلف الاحتلال الشعب العراقي خلال سبع سنوات حوالى مليون ونصف مليون قتيل وسجين وجريح ومعوق ومصاب بالسرطان نتيجة الاشعة. اصبح شعبا لا يعرف مصير الاطفال الاحياء منهم والذين في ارحام امهاتهم بسبب اشعة اليورانيوم. اصبح شعبا يعاني من المداهمات الليلية والاذلال والاهانات وملء السجون العلنية والسرية بالشباب بدون محاكمة والتعذيب واغتصاب الرجال والنساء والتفنن في كيفية قتل الشباب الابرياء في السجون. اصبح شعبا لا يضمن ان اطفاله الذين يذهبون صباحا الى المدارس يعودون احياء الى بيوتهم.
من هو اليسار في مثل هذا الوضع؟ اليسار هو كل الشعب العراقي الرازح تحت نير الاحتلال واعوانه وعملائه. ولكن اليسار هنا ايضا ليس فئة واحدة لها نفس المصالح. فمصالح الطبقة العاملة تختلف عن مصالح الفلاحين بمختلف مراتبهم وتختلف عن مصالح المثقفين وعن البرجوازية المحلية التي حطمت مشاريعها او تعطلت بسبب فقدان الكهرباء وسيطرة الشركات الاجنبية على كل الحركة الاقتصادية في البلاد. فمصلحة الطبقة العاملة هنا ايضا هي تحقيق مجتمع خال من الاستغلال بكل اشكاله وهذه الاهداف لا تمثل اهداف الفئات الطبقية الاخرى. والطبقة العاملة هنا ايضا تمثل اقصى اليسار كما في جميع المجتمعات التي تبلورت فيها الطبقة العاملة واصبحت كيانا مستقلا. ونظرا الى اختلاف مصالح الطبقات والمراتب تكونت حاليا احزاب ومنظمات عديدة مختلفة في مبادئها وبرامجها واهدافها واساليب نضالها. هذا التشتت في الاحزاب والمنظمات يجعل من الصعب توحيد اليسار العراقي ولذلك يصعب ايضا توحيد الحركات اليسارية التي يزخر بها الميدان العراقي اليوم داخل العراق وخارجه. ان اي تحالف او تآلف او جبهة او اتحاد او توحيد او اندماج بين منظمات مختلفة متعددة يتطلب وجود هدف مشترك يجري التحالف على تحقيقه. وبدون وجود هدف مشترك لا يكون بالامكان الاتفاق باية صورة من الصور
الشيء الذي يعاني منه كل الشعب العراقي هو الاحتلال وحكومات الاحتلال. لذلك فان الهدف الذي يمكن ان يجمع كل اليسار العراقي ولذلك يجمع كل الاحزاب والمنظمات اليسارية هو هدف الخلاص من الاحتلال وتحقيق الاستقلال والسيادة للعراق وبناء دولة عراقية وجيش عراقي ومؤسسات عراقية وبنى تحتية عراقية. لذا فان الهدف الذي يمكن ان يجمع اليسار العراقي بكل فئاته واحزابه، ويجمع الحركات اليسارية كلها، هو طرد الاحتلال وعملائه واعوانه وتحقيق الاستقلال والسيادة. كل انسان يشعر بوطأة الاحتلال هو يساري علم ذلك ام لم يعلمه. ومهمة الحركات اليسارية هي ان تكون جزءا من هذا اليسار مهمتها توعية اليسار غير الواعي وغير الموجه وغير المنظم والعمل على تنظيمه وتجميعه وزجه في النضال ضد الاحتلال وقيادته في هذا النضال. مهمة الحركات اليسارية قيادة اليسار العراقي في معركة التحرر من الاحتلال واعوانه. ان الجماهير الشعبية هي التي تقوم بالنضال الحقيقي وباجراء التغيير. والحركات اليسارية وحدها لا تستطيع انجاز شيء بدون هذه الجماهير. الحركة اليسارية تستطيع ان تنظم وتقود مظاهرة ولكنها لا تستطيع ان تجري مظاهرة. الحركة اليسارية تستطيع ان تنظم وتقود اضرابا ولكنها لا تستطيع ان تقوم بالاضراب. الحركة اليسارية تستطيع ان تنظم وتقود ثورة ولكنها لا تستطيع ان تنجز الثورة. الحركة اليسارية تستطيع ان تنظم وتقود المقاومة ضد الاحتلال ولكنها لا تستطيع ان تنجز المقاومة ضد الاحتلال وطرده.
ان أي توحد او اتفاق او تحالف او اي شكل من اشكال الترابط والتوحيد ينبغي ان ينشأ على اساس هذا الشعار الوحيد، شعار النضال ضد الاحتلال. واي تحالف او اتحاد على هذا الاساس لا يمكن ان يكون اتحادا دائما بعيد المدى. ان التآلف هو تآلف حول شعار واحد هو شعار النضال ضد الاحتلال واعوانه وعملائه لان الاهداف التي تحقق مصالح كل فئة من فئات اليسار العراقي مختلفة ومتعارضة. فالاهداف التي تحقق مصالح الطبقة العاملة غير الاهداف التي تحقق مصالح الفلاحين والحرفيين والصناعيين والبرجوازية والمثقفين. ولذلك فان تحقيق الهدف المشترك الوحيد قد يؤدي بعد انجازه الى نضالات وصراعات من نوع اخر بعد التحرر من الاحتلال. وان الفئة الاكثر نشاطا والاكثر تأثيرا في اليسار العراقي اثناء تحقيق التحرر من الاحتلال قد تكون القوة التي تصوغ النظام الجديد وفقا لمصالحها. وهذا ليس موضوع هذا المقال.
احدى النقاط التي اريد مناقشتها في هذا المقال هي مفهوم اليسار. فهناك اتجاه واضح يعتبر ان اليسار هو المنظمات والحركات اليسارية القائمة في المجتمع العراقي. والعمل على توحيد اليسار بهذا المفهوم يعني تجميع الحركات اليسارية العراقية على انواعها. كل حركة من هذه الحركات اليسارية تعتبر نفسها المنظمة الاصح والاكثر تمثيلا للشعب العراقي. وكل منظمة من هذه المنظمات العديدة لها برنامجها واسلوب نضالها من اجل تحقيق الاهداف المحددة التي تريد تحقيقها. وقد اثبتت السنوات الاخيرة ان من المستحيل تقريبا توحيد هذه المنظمات او اي عدد منها رغم انها كلها منظمات يسارية ولها اسماء شيوعية وماوية وتروتسكية وعمالية وعمالية يسارية وثورية وماركسية ولينينية والى اخره من الاسماء البراقة. التوحيد لا يتحقق الا اذا وجد اساس للتوحيد. والاوضاع الحالية لهذه المنظمات والاحزاب لا تبشر بوجود هدف واحد يمكن التوحيد على اساسه لان دعوات التوحيد لا تجري على اساس الشعار المشترك الوحيد الذي يهم جميع الحركات اليسارية وهو النضال ضد الاحتلال. ولكن النقطة التي اريد التأكيد عليها هي ان هذه المنظمات والحركات اليسارية ليست سوى منظمات واعية من اليسار العراقي وان توحيد اليسار العراقي لا يعني توحيد المنظمات والحركات اليسارية بل يعني توحيد اليسار العراقي، جميع العراقيين الذين تدعو مصلحتهم الى التحرر من الاحتلال واعوانه. وكل منظمة او حركة يسارية منفصلة عن الجمهور الذي تمثله ومنعزلة عنه ليست سوى صفر الى اليسار.
النقطة الثانية التي اود التأكيد عليها هي برامج الحركات اليسارية. ان الكثير من برامج الحركات اليسارية المتعددة التي اطلعت عليها تتضمن بالتفصيل نوع الحكومة التي يريدون تشكيلها بعد التحرر كالديمقراطية والتعددية ودولة القانون والعدل الاجتماعي وغير ذلك من الاهداف البراقة ولا يخصصون في برامجهم اكثر من جملة واحدة حول معاداة الاحتلال ومساندة المقاومة او العمل على التحرر من الاحتلال. لا يتحدثون في برامجهم عن اساليبهم في النضال ضد الاحتلال. لا يتحدثون عن كيفية تجميع الشعب في هذا النضال من اجل طرد الجيوش المحتلة وطرد الحكومات الاحتلالية التي نصبتها والغاء الاتفاقات والمعاهدات التي تربط العراق بالاحتلال الى الابد. ان الحكومة التي تنشأ بعد التحرر لا تتقرر في برامج المنظمات والحركات اليسارية وانما تتقرر وفقا لمصالح الفئة الاكثر نشاطا وفعالية في عملية التحرر. لذلك لا اجد اهمية كبيرة في البرامج التي تركز على المستقبل بالدرجة الرئيسية. واضح ان كل حركة يسارية ترغب في تحقيق مجتمع يتلاءم ومصالحها. ولكن المهم في البرامج الحالية هو مناقشة عملية التحرر والنضال ضد الاحتلال وتجميع الجماهير وزجها في هذا النضال. لا اريد هنا ان اذكر كلمة المقاومة لان الكثير من الحركات اليسارية تنفعل ضد هذه الكلمة. ولكن التحرر من الاحتلال واعوانه لا يتم الا عن طريق النضال بشتى اشكاله وعليه فان برامج الحركات اليسارية يجب ان تتركز على سبل النضال ضد الاحتلال وكيفية تجميع جماهير اليسار، اي الشعب العراقي، وقيادته في هذا النضال. يحتج الكثيرون على كلمة المقاومة لانهم لا يرون وجود اية مقاومة ويخلطون بين مقاومة الاحتلال وبين الاعمال الارهابية التي تجري بصورة لم يعرف التاريخ لها مثيلا كل يوم منذ الاحتلال وحتى يومنا هذا حين ينتظر العراقيون تشكيل حكومة اكثر من ستة اشهر تجري فيها الصراعات على المناصب الثلاثة الرئيسية وعلى كيفية اقتسام الفتات الذي تبقيه لهم حكومات الاحتلال من ثروات العراق المنهوبة. ولكني اود ان اسأل جميع هذه المنظمات اليسارية سؤالا واحدا : هل هناك ضرورة لمقاومة الاحتلال ام لا؟ واذا كان الجواب "نعم" هناك ضرورة لمقاومة الاحتلال ولكن هذه المقاومة غير موجودة حاليا فاسألهم : اذا كانت المقاومة ضرورية ولكنها غير موجودة فلماذا لا تبدأونها انتم؟ عندئذ تصبح المقاومة موجودة.
النقطة الثالثة التي اود الاشارة اليها هي ظهور مفهوم اليسار الوطني. هل يوجد يسار وطني؟ نعم بكل تأكيد. ولكن مفهوم اليسار الوطني يحتوي ضمنا على وجود يسار لا وطني وهذا هراء. ليس هناك يسار لا وطني. ان الوطني هو من يحب وطنه ويتمنى له الخير وحتى يكون مستعدا الى ان يدافع عن وطنه لدى تعرضه للمصائب والكوارث. ولكن الوطني قد يتبنى سياسات واهدافا ومبادئ مختلفة. قد يكون الوطني متدينا او غير متدين. قد يكون الوطني يساريا او يمينيا او قوميا في مبادئه ولكنه مع ذلك وطني في مشاعره. مهما تنوعت مبادئ الانسان يمكنه ان يبقى وطنيا. وبهذا المفهوم تكون الوطنية اوسع من اليسارية وسابقة لها. والحركة اليسارية يجب ان تكون وطنية قبل ان تصبح يسارية. لذلك اعتقد ان مفهوم اليسار الوطني مفهوم خاطئ من الاساس.
يلاحظ في هذا المقال اني تعمدت عدم التطرق الى الثورية والانتهازية والتذبذب لدى المراتب المتوسطة ومحاولة جر الطبقة العاملة وجعلها ذيلا للبرجوازية. تعمدت ذلك لان هذا يتعلق بالصراع الطبقي الداخلي ضمن اليسار ولا يتعلق بالنضال المشترك ضد الاحتلال والعمل على استرجاع الاستقلال والسيادة للوطن العراقي.
ان الهدف الوحيد الذي يمكن ان تتفق عليه جميع الحركات اليسارية هو هدف النضال ضد الاحتلال، هدف التحرر من الاحتلال واعوانه، هدف تجميع اليسار العراقي الذي يعني كل الشعب الرازح تحت نير الاحتلال واعوانه وتوعيته وتنظيمه وتوجيهه وقيادته في النضال الحازم ضد الاحتلال من اجل تحرير العراق من الاحتلال وتحقيق استقلاله وسيادته. فيا اعداء الاحتلال اتحدوا!!!!