تطور الفكر الاشتراكى فى مصر1970-2000 الجزء الثالث


عبد الغفار شكر
2004 / 9 / 5 - 08:52     

3-حول مسألة الانتقال إلى الاشتراكية :
عالج الفكر الاشتراكى فى مصر مسألة الانتقال إلى الاشتراكية فى ضوء دراسته لأسباب فشل النموذج السوفيتى للاشتراكية، والعجز عن انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية التى أعطتها مختلف التنظيمات الاشتراكية فى مصر أولوية خاصة، وكان للدروس التى استخلصها الفكر الاشتراكى من فشل هذه التجارب وما ترتب عليها من إعادة النظر فى موقفه من قضية الديمقراطية على النحو الذى أوضحناه من قبل أثر كبير فى تطور موقفه من مسألة الانتقال الى الاشتراكية سواء من حيث مضمون مرحلة الانتقال أو القوى المنوط بها العمل المشترك لا نجازها أو الأساليب التى يتعين استخدامها.
وفى هذا السياق نوقشت أفكار سابقة كانت تشكل أساس النظرة لمسألة الانتقال إلي الاشتراكية ومنها :
- أن الحديث من قبل عن الثورة الوطنية الديمقراطية فى العالم المعاصر كان يدور حول قيادة الطبقة العاملة لحركة ثورية تمر بمرحلتين : الأولى مرحله الثورة الوطنية الديمقراطية والثانية مرحلة التحول الاشتراكى. أي أن المقصود هو قيادة الطبقة العاملة فى مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية (الثورة الوطنية الديمقراطية) وفى مرحلة البناء الاشتراكى مما يساعد على انجاز مهام المرحلة الانتقالية فى فترة. قصيرة نسبيًا.
- رؤية ماركس الذى أعتقد أن الرأسمالية تنجز أولا وسريعا مهمتها التاريخية القائمة على دمج كل المجتمعات على الأرض فى نظام اجتماعى واحد يقلص تدريجا كل التناقضات فى تناقض واحد وأساسى يتمثل فى النزاع بين البورجوازية والبروليتاريا على أساس نظام اقتصادى متجانس نسبيًا.
ومن ثم من هذا المنطلق نفسه تكون الرأسمالية قد مهدت لانتقال البشرية جمعاء إلى مجتمع جديد بدون طبقات فى فترة تاريخية قصيرة نسبيًا، أى أن ماركس كان يرى الرأسمالية والاشتراكية كنظامين يفصل بينهما سور كجدار الصين، هذا السور هو الثورة الاشتراكية. انهما نظامان غير متكافئين عاجزان عن التعايش ولو صداميا فى مجتمع واحد.
وبالمقابل طرح الفكر الاشتراكى المصرى أفكارا جديدة طورت موقفه من مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية منها :
- أنها مرحلة طويلة نسبيا تنقسم بدورها إلى عدة مراحل.
- ضرورة مراعاة الظروف الدولية والمحلية المعاصرة التى تتطلب أن يكون الطريق إلى هذه المرحلة سلميا وبأساليب ديمقراطية، ويتطلب ذلك أن نفض الاشتباك بين مفهوم الثورة باعتبارها تغيير جذرى لأوضاع المجتمع ومفهوم العنف.-
- الحاجة إلى تحالف طبقى واسع قادر على إنجاز المهام المطلوبة فى المرحلة الانتقالية يلعب فيه العمال والفلاحون والمثقفون الثوريون دورًا أساسيًا ويضم فى صفوفه الفئات الوسطى والبورجوازية الصغيرة والفئات الرأسمالية التى لا ترتبط مصالحها بالكومبرا دورية والشباب والنساء... الخ، مما يعزز امكانية الانتقال السلمى.
- مضمون هذه المرحلة هو التنمية المستقلة التى تعمل قبل كل شئ على مضاعفة الانتاج أضعافا بنمو قوى الانتاج وعلاقات إنتاج جديدة والتقدم المستمر من خلال ذلك فى رفع مستوى معيشة الجماهير.(37)
يطرح حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى رؤيته لمرحلة الانتقال مؤكدًا هذه الرؤية الجديدة :
"أن هذا المجتمع الانتقالى الذى نسعى إلى اقامته خطوة على طريق الاشتراكية هو "مجتمع المشاركة الشعبية". ويقوم على أربعة أكان أساسية هى: التنمية الوطنية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية والثقافة الديمقراطية التقدمية العقلانية. وكملا حققنا انجازا فى أى من هذه الميادين الأربعة فإنه سوف يقربنا من امكانية بناء الاشتراكية، وأساس هذا المجتمع هو الدور النشط للانسان المصرى واتساع نطاق المشاركة الشعبية".
"ومجتمع المشاركة الشعبية لن يقوم فى ظل السلطة الحالية، بل يتطلب قيامه نجاح تحالف اجتماعى جديد فى الوصول إلي السلطة ديمقراطيا من خلال انتخابات حرة ونزيهة. تحالف ديمقراطى وتقدمى يضم الطبقة العاملة والفلاحين والفئات الوسطى والرأسمالية المصرية المنتجة التى تتعارض مصالحها مع الارتباط بالرأسمالية العالمية وتتعارض مع افساح المجال أمام الرأسمالية الأجنبية فى مصر.. ومدخلنا إلى هذا المجتمع هو الاصلاح السياسى الديمقراطى والعمل فى نفس الوقت حول قضايا الجماهير ومشاكلها الأساسية".
"يدرك حزبنا أن التحول الاشتراكى لن يتجسد سلميا وبدون عنف الا بتحقق أمرين : الأول هو بناء القاعدة الانتاجية المادية المتطورة شاملة قاعدة وطنية للعلم والتكنولوجيا، والثانى تطور الوعى السياسى فى انحاء الجمهورية وتبنيه مهمة بناء المجتمع الاشتراكى. وواضح أن أيا من الأمرين سوف يستغرق سنوات طويلة، وإذا كان بناء السد العالى قد استغرق عشر سنوات فهل يتصور توفير البناء المادى والفكرى اللازم للانتقال إلى مجتمع اشتراكى فى أقل من عشرين أو ثلاثين سنة".(38)

ويعالج الحزب الشيوعى المصرى هذه المسألة :
"إذا كان الهدف النهائي الذى يناضل الحزب الشيوعى المصرى من أجله هو اقامة النظام الاشتراكى، وبناء مجتمع يلغى كافة صور استغلال الانسان للانسان، إلا أن هذا الهدف مازال الطريق اليه شاقًا وطويلا، ولا يمكن اجتيازه بقفزه واحد، أو بقرار علوى .. أن هذا الهدف لن يتحقق الا بنضالات متصلة عبر مراحل ثورية متتابعة، ومن خلال سلسلة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية تصب جميعها فى النهاية فى اتجاه هذا الهدف البعيد"( 39)
"وغنى عن القول أن هذه المرحلة الثورية طويلة نسبيا، ويمكن أن تشتمل عدة مراحل انتقالية يتم خلالها إنجاز مهام مرحلية تقترب بنا من الهدف النهائى" (40)
"تحالف واسع للطبقات العاملة والكادحة يقوم أساسا على التحالف بين العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين ويضم الحرفيين وصغار المنتجين والفئات الوسطى والقوى الاجتماعية المهمشة والبورجوازية المتوسطة المنتجة".(41)
ورغم أن الحزب العربى الديمقراطى الناصرى لم يشرفى وثائقه الاساسية إلى المراحل النضالية إلا أنه أفرد بابا كاملا فى برنامجه العام لقضية التنمية المستقلة طرح من خلاله برنامجًا تفصيليا باعتبار أن التنمية المستقلة هى الطريق للتقدم والحد من الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية(42).
يطرح سمير أمين رؤية جديدة تماما لمسألة الانتقال إلى الاشتراكى يعارض فيها رؤية كارل ماركس عن عدم امكانية تطور الاشتراكية داخل الرأسمالية، ويؤكد "لم يثبت التاريخ صحة الطروحات المختلفة حول مسألة الانتقال إلي الاشتراكية التى طرحتها الديمقراطية الاشتراكية فى الغرب، والبلشفية والماوية، والمجموعات الراديكالية للحركة الشعبية المناهضة للامبريالية فى دول العالم الثالث، تلك التيارات التى ربما لم تعد قائمة الآن، ولكنها كانت فى مطلق الأحوال قوى تاريخية بارزة.
لم يثبت التاريخ صحة هذه الطروحات بل دحضها يشهد على ذلك تآكل دولة الرفاهية وانهيار الأنظمة السوفيتية والتخلى عن الماوية فى الصين وإعادة الكومبرا دور إلى العالم الثالث، بما يعنى أن التاريخ يتقدم باستمرار وأن الرأسمالية تتطور وتتحول ولذا فلا شئ يحول سلفا دون إعادة النظر فى تعريفات الرأسمالية نفسها من أجل الاحاطة بتحولاتها النوعية البارزة المحتملة وينطبق الأمر علي العولمة الجديدة".
"إذا كان البديل عن العولمة الوحشية للرأسمالية هو بناء عولمة اشتراكية متحضرة، فالطريق إليها سيكون طويلا بالضرورة إذ أن الأمر يتعلق ببناء حضارة جديدة واللوم الذى قد نوجهه إلى المشاريع التاريخية لبناء الاشتراكية التى ثبت عدم صحتها هو بالضبط أنها قد اقتصرت على تنفيذ بعض الاصلاحات بغض النظر عن أهميتها أبرزها الغاء الملكية الخاصة. ومن البديهى أن بناء حضارة جديدة لا يمكن أن يتم فى غضون خمس أو عشر سنوات".(43)
ويرى أنه إذا كانت ثلاثة قرون من المر كنتلية (1500-1800) قد شكلت انتقالا طويلا من الاقطاعية إلى الرأسمالية، تعايش خلالها النظامان تعايشا صداميا، نستطيع أن نشهد انتقالا طويلا من الرأسمالية إلى الاشتراكية يتعايش خلالها تعايشا صداميا المنطقان - المنطق الذى يحكم تراكم رأس المال والمنطق الذى ينجم من حاجات اجتماعية لا تنسجم مع هذا التراكم(44).
ويعرف سمير أمين الثورة بأنها عملية تاريخية لا تستبعد الاشكال التطورية الجذرية، يترجم فيها الإدارك الواعى لأهداف التحول بواسطة القوى الاجتماعية التي تقود المعركة ضد الماضى البائد إلى استراتيجيات ملائمة.وبالنسبة لأطراف النظام الرأسمالى (بلدان العالم الثالث) يقترح لبداية مرحلة الانتقال ما يسميه بمرحلة التحالف الوطنى الشعبى والديمقراطى وله 4 سمات أساسية:
1- إعادة تحديد سياسات اقتصادية واجتماعية مناهضة للكومبرا دورية، أى سياسات وطنية من حيث أنها تعى حقيقة التضارب بين أهدافها والمنطق المهيمن للتوسع الرأسمالى المعولمة.
2- تحديد القوى الاجتماعية التى تشترك فى اهتمامها بتطبيق هذه السياسات، وفى الوقت نفسه تحديد تضارب المصالح بين هذه القوى الاجتماعية (التناقضات فى صفوف الشعب).
3- بناء أشكال تنظيمية ديمقراطية تسمح بتسوية الخلافات داخل صفوف الشعب وخوض المعركة المشتركة ضد العدو الأساسى الداخلى والخارجى.
4- تعزيز الجبهات الداخلية عن طريق متابعة المعركة على المستويات الاقليمية وعلى الصعيد العالمى من شأنها أن ترغم النظام العالمى - على التكيف مع هذه المتطلبات (وبالتالى عكس ما يقترحه هذا النظام أى التكيف الأحادى مع متطلبات العولمة الرأسمالية).
وتؤكد كتابات أخرى ضرورة أن تتفهم الحركة الاشتراكية الأوضاع والظروف المحيطة بنضالها للانتقال إلى الاشتراكية فى مجتمعات متخلفة، وكيف تكسر ظاهرة العزلة التى لم تنجح فى اختراقها من قبل، وسبيلها إلى ذلك الوعى بأنها جزء من حركة اجتماعية أوسع بكثير من الدائرة الاشتراكية هى القوى التقدمية التى تجسد فى الواقع التحالف الطبقى القادر على انجاز عملية الانتقال إلى الاشتراكية والذى يضم العمال وفقراء ومتوسطى الفلاحين والفئات الوسطى والشباب والنساء، وليس شرطا أن يكون التوجه السياسى لكل القوى المنضوية تحت لواء الحركة التقدمية ماركسيا، بل هناك توجهات اشتراكية وتقدميه كالناصريين، وهناك توجهات قومية واسلامية مستنيرة يجب الحرص عليها ودعم العمل المشترك معها كشرط أساسى لكسب نفوذ جماهيرى واسع يمكن من تحقيق التحولات الديمقراطية والاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتحولات الثقافية المطلوبة فى المرحلة الحالية.
ولما كان الشرط الأساسى لإمكانية بدء عملية البناء الاشتراكى هو وصول القوى الاشتراكية إلى السلطة السياسية فإن نضال الاشتراكيين من أجل الوصول إلى السلطة لم يعد ممكنا أن يتحقق فى المجتمع المعاصر بوسائل انقلابية، وإنما برضاء شعبى واختيار شعبى الأمر الذى يتطلب أن تحرص هذه القوى على العمل وسط الجماهير من أجل تنظيمها وزيادة فاعليتها وسوف يتيح ذلك للقوى الاشتراكية أن تبنى نفوذها على نطاق واسع يشمل المجتمع بأسره بحيث تأتى عملية الوصول إلى السلطة مجرد تقرير لأمر واقع وخطوة منطقية تعكس بناء اجتماعيًا واقتصاديا وثقافيا مستقرًا، وكل نشاط يبذل من أجل توسيع نفوذ الاشتراكيين والحركة التقدمية فى المجتمع وبناء قواعد لهذا النفوذ فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية والثقافية يندرج فى إطار ما يسمى بناء القوة من أسفل الذى يشكل تطبيقا خلاقا لمفهوم التغيير الديمقراطى المستند إلى فكرة الطبقة المهيمنة وقوة الجماهير المنظمة فى مواقع معيشتها ومنظماتها الاجتماعية والنقابية والثقافية وبالتالى فإنها تشكل أساسا قويا للتغيير بالطريق الديمقراطى.(46)

4- اشتراكية المستقبل
لم ينشغل الفكر الاشتراكى كثيرا بتوضيح المقصود بالاشتراكية، خاصة وأن المهام المباشرة المطروحة عليه لم تكن بناء الاشتراكية بل استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية وجوهرها تحقيق التنمية المستقلة . وكانت ثورة 23 يوليو تهتدى بالميثاق الوطنى الصادر سنة 1962 الذى تحدث عن الاشتراكية باعتبارها كفاية وعدل وحدد اسسها العامة فى :
1-سيطرة الشعب على وسائل الانتاج من خلال الملكية العامة لوسائل الانتاج
2-السلطة السياسية لتحالف قوى الشعب العامل
3-التخطيط المركزى الشامل للاقتصاد القومى
4-التوزيع العادل للدخل القومى.
وعندما أصدر حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى برنامجه العام الأول (من أجل مصر وطنا للحرية والاشتراكية والوحدة) سنة 1980 كان هناك نوع من التوافق على أن هناك معنى محدد للاشتراكية يلتزم به الجميع وكانت التجربة السوفيتية والبناء الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى فى عنفوان تقدمها، وكان ينظر إلى النظام السوفيتى كنموذج بدرجة أو بأخرى حتى وإن حدثت بعض الاختلافات حوله، فإن النموذج السوفيتى كان قائما وكان فى نظر الكثيرين نموذجا ناجحا وكان رغم النقد الموجه إليه يبدو أنه نموذج له مستقبل، والأسس التى طرحها الميثاق الوطنى للاشتراكية لم تكن بعيدة عن هذا النموذج.
من هنا لم يكن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى فى سنة 1980 فى حاجة أن يعطى توضيحات لمفهومه عن الاشتراكية. ولكن ما بين 1980 وحتى الآن تغير الوضع كثيرا وجرى ما جرى وكان انهيار النموذج السوفيتى هو أهم أحداث هذه الفترة. وكان الانهيار داخله وليس نتيجة لأى صدمة خارجية.
فى نفس الفترة تقريبا كانت التجربة الناصرية فى مصر موضع هجوم شديد فى المجتمع، وجرت تنازلات تدريجية أو مفاجئة بحيث لم يبق شئ من هذه التجربة فى منتصف السبعينيات.
هنا تولدت فكرة أن مجرد التمسك بالاشتراكية لم يعد كافيا بالنسبة للجماهير وعلي الحزب الذى يعلن التزامه ببناء المجتمع الاشتراكى أن يوضح للجماهير ماذا يقصده بالاشتراكية. هل سيكرر النموذج السوفيتى أو سيعدله؟ هل سيطبق نموذج آخر وما هو؟ هل ستكون رؤيته مثل تجربة عبد الناصر؟ فالناس من حقها أن تعرف ممن يطرح موضوع الاشتراكية ما هو شكل تصوره لها (47).
جاءت المبادرة من حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى عندما طرح للنقاش مشروع برنامجه العام الجديد (بناء مجتمع المشاركة الشعبية) سنة 1997 عندما طرح موضوع اشتراكية المستقبل بينما أثر الحزب الشيوعى المصرى والحزب العربى الديمقراطى الناصرى ألا يتعرضا لهذا الموضوع فى برامجهما الجديدة واكتفيا بطرح المهمة المباشرة وهى التنمية المستقلة وتوفير الشروط الضرورية لبدء مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية - منظورا إليها علي أنها مرحلة طويلة نسبيًا.
ومن خلال مناقشة مشروع البرنامج العام الجديد لحزب التجمع الوطنى التقدمى والذى شارك فيها قيادات من مختلف المواقع الاشتراكية بما فى ذلك اعضاء بالحزب الشيوعى المصرى والحزب العربى الديمقراطى الناصرى وقيادات ماركسية مستقلة أو على صلة ببعض التنظيمات الماركسية. وكان واضحا من خلال المناقشات والندوة التى نظمتها مجلة اليسار حول هذا الموضوع والمقالات التى نشرت فى هذه الفترة أن أغلب المشاركين فى النقاش يفضلون الاكتفاء بطرح رؤية عامة وعدم الخوض فى التفاصيل . وقد استجاب حزب التجمع بالفعل لهذا التوجه واكتفى باشارات عامة لاشتراكية المستقبل تشكل أساسا لرؤية فكرية عامة ولا تتعرض للتفاصيل.
تقوم هذه الرؤية العامة والتى تمثل تطورا بدرجة ما فى الفكر الاشتراكى المصرى على الأفكار الأساسية الآتية :
1- الاشتراكية هى مشروع للتحرر الانسانى الشامل والمتجدد باستمرار تسعى لتحقيق أقصى حرية للإنسان فى مختلف مجالات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وهى من ثم رؤية انسانية للعالم ذات عمق أخلاقى فلسفى قيمى تتضمن الغاء الاستغلال والاغتراب والتفاوت الطبقى. إن الاشتراكية من جانب آخر نسق اجتماعى اقتصادى مناقض للرأسمالية، تستند إلى سيادة الملكية المجتمعية لأدوات الانتاج وإلى توزيع الناتج القومى على أساس من المساهمة فى العمل. وهى من ثم النظام الأقدر على إدارة المجتمع والاقتصاد وضمان مزيد من الكفاءة فى الأنتاج وتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية والعقلانية.
2- النظام الاشتراكى بهذا المعنى لا ينمو فى أحضان الرأسمالية كنتيجة للتطورات التى تتم فى إطارها ، وإنما يبنى بواسطة القوى السياسية والاجتماعية التى تتبنى الهدف الاشتراكى، وتسعى لتحقيقه بعد أن تتولى السلطة السياسية وتصفى أجهزة السلطة الرأسمالية القائمة وتقيم سلطة الطبقات الشعبية ذات المصلحة فى اقامة النظام الاشتراكى وفى القلب منها العمال والفلاحون والمثقفون التقدميون.
3- النظام الاشتراكى الذى نسعى لاقامته فى مصر لن يكون تكرارا لأى نموذج سابق، بل ستتحدد معالمه وستتبلور ملامحه انطلاقا من هذا الفهم النظرى للاشتراكية ومن ابداعنا فىِ فهم أوضاع المجتمع المصرى ومشكلاته الأساسية واحتياجات تطوره، فالاشتراكية علمية بمعنى كونها منهجا علميا لكشف التناقضات فى المجتمع الرأسمالى، والموضوع الأساسى الذى يجب أن تركز عليه هو كشف تناقضات الرأسمالية الجديدة، وعدم قدرتها على تقديم حلول تقضى على استغلال الانسان للانسان وتحقق طموحات الناس فى التطور والتقدم الاجتماعى.
- سوف يتم بناء المجتمع الاشتراكى الجديد فى مصر عندما تتوفر الظروف لذلك على أساس من الاقتناع والاختيار الديمقراطى استنادا إلى قوة الجماهير وليس نيابة عنها أو باسمها، والديمقراطية هى شرط ضرورى لبناء الاشتراكية. حيث يجب أن تكون اساس استمرار النظام الاشتراكى وإعادة تجديد ثقة الشعب به على أساس انجازاته، ومن الضرورى أن يتيح المجتمع الاشتراكى المقبل أوسع الحريات السياسية وكذلك أوسع قدر من الحرية الثقافية وحرية الاعتقاد الدينى ويتبنى التعدد الثقافى والفكرى ويشجع الحوار الحربين المفكرين ومختلف الجماعات الثقافية، والعمل فى نفس الوقت لإعلاء القيم الاشتراكية وتحرير الانسان من عبودية المال، وازدهار الثقافة والعلوم والإدارة والفنون وانطلاق روح التجدد والابداع على نطاق المجتمع.
- أن القول بعدم امكانية بناء الاشتراكية فى مصر فورا لا يعنى أن النضال من أجل الاشتراكية فى مصر مؤجل إلى أن تنضج ظروفها، النضال من أجل الاشتراكية مطلوب منذ الآن وباستمرار لانضاج هذه الظروف، وهى مهمة نضالية شاقة تحتاج إلى وقت طويل وإلى نفس طويل وتتطلب بناء تحالف قوى بين الطبقات المضارة من التطور الرأسمال التابع والمشوه ، وإلى إدارة هذا التحالف بالأدوات الديمقراطية من أجل كسب ثقة الجماهير فى القوى الاشتراكية ومن أجل حشد قواها وراء هدف اقامة المجتمع الاشتراكى على أسس سليمة. والعمل منذ الآن على نشر الفكر الاشتراكى واستعادة ثقة الناس فى سلامة الاشتراكية كفكرة وفي امكانية وجدوى تنفيذها كنظام عملى، والجمع بين الجهود الرامية إلى اصلاح أوضاع الجماهير على المدى القصير وبين الجهود الرامية إلى بناء الاشتراكية على المدى البعيد، ومن هنا تأتى أهمية وضع تصور متكامل لمجتمع المرحلة الانتقالية التى تفصل بين الواقع الرأسمالى المرفوض وبين المجتمع الاشتراكى المنشود، وأن يؤدى كل كسب يتحقق فى بنائه إلى دعم النضال من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجى وتقوية الأمل فى إمكانية الوصول إلى مجتمع الاشتراكية.

- من أهم ركائز النظام الاشتراكى :
1-سيادة الملكية العامة لوسائل الانتاج لا يلغى وجود أشكال متعددة للملكية مثل الملكية الجماعية للعاملين وملكية النقابات والمحليات والتعاونيات والملكية الفردية.
2-لا يقوم البناء الاشتراكى فى مصر على الاقتصاد الأوامرى بل سيتجه إلى إدارة الاقتصاد الوطنى بالاعتماد أساسا على التخطيط مع افساح المجال للاستفادة من آليات السوق.
3- عدالة توزيع الدخل القومى بما يحقق لعنصر العمل نصيبا من الدخل يتكافأ مع جهده فى الانتاج.
- تجمع الديمقراطية الاشتراكية بين أسس الديمقراطية السياسية التى بلورتها الديمقراطية البورجوازية مثل التعددية السياسية والحزبية واحترام الحقوق والحريات الاساسية للإنسان وسيادة القانون وقيام مجتمع مدنى قوى وتداول السلطة ، مضافا إليها الاشكال المباشرة للمشاركة الشعبية مثل المجالس المنتخبة لوحدات الانتاج والخدمات والحكم المحلى الديمقراطى وكذلك العدالة الاجتماعية بتوفير الحقوق والاقتصادية والاجتماعية واشباع الحاجات الأساسية للمواطنين.
كان هناك تركيز فى المناقشات على ظروف بناء الاشتراكية فى المجتمعات التى لم تستكمل تحولها إلى الرأسمالية ومازالت تتعايش داخلها انماط انتاجية مختلفة مثل مصر ويؤثر ذلك على عملية البناء الاشتراكى بها مثل :
1- لا تقوم الاشتراكية فى هذه المجتمعات على الملكية العامة فقط منذ البداية، بل سيكون هناك مكان للملكية الخاصة والملكية التعاونية وملكية الجماعات الاجتماعية والمحلية.
2- لن تقوم الاشتراكية فقط على التخطيط المركزى على النحو الذى عرفته التجربة السوفيتية، بل سوف تتم إدارة الاقتصاد القومى من خلال المزاوجة بين التخطيط وآليات السوق وقواعد العدالة الاجتماعية.
3-لا تقوم الاشتراكية على احتكار الدولة بل سيشاركها مجتمع مدنى قوى يمارس مهاما كانت تدخل تقليديا ضمن مهام الدولة الاشتراكية.
4-سوف يشارك فى البناء الاشتراكى جبهة شديدة الاتساع للقوى الاجتماعية المستفيدة من التحول الاشتراكى وليس فقط الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين. (49)
كما برزت فى المناقشات تحفظات حول بعض الأفكار المطروحة وبصفة خاصة :
- لا تعنى الديمقراطية فقط الحريات السياسية أو التعددية الحزبية وإنما تعنى أيضًا أن الديمقراطية أداة من أدوات توزيع الثروة فى المجتمع من خلال الرقابة الشعبية(50).
- فكرة تجديد الثقة بالاشتراكية باستمرار على أساس انجازات النظام الاشتراكى قد تبدو فكرة ليبرالية جذابة ولكنها تعنى فى الحقيقة أن الموقف من الاشتراكية (51)) موقف براجماتى معياره الانجاز وليس موقفا مبدئيا يعبر عن خيار استراتيجى.
- تتعامل الرؤية المطروحة مع السوق والتخطيط كما لو كانا مجرد آليتين فنيتين محايدتين لتحقيق الكفاءة الاقتصادية لا باعتبارهما تعبيرا عن علاقات الانتاج الاجتماعى، أى تعبيرا عن العلاقات الطبقية فضلاً عن أن العلاقة بينهما محكومة فى نهاية المطاف بنتائج الصراع الطبقى وهذا يتجلى بالتحديد فى قضية التراكم وتخصيص الموارد، أى لمصلحة أى الطبقات ؟ وعلى حساب من؟.(52)
- اشتراكية المستقبل لابد لها أن تلجأ إلى التأميم إذا أرادت أن تزيل عدوان الخصخصة بل أن اشتراكية المستقبل لابد لها أن تلجأ إلى مصادرة ثروات الفئات التى أثرت بطريقة غير مشروعة على حساب الشعب من تجار المخدرات وتجار السوق السوداء وتجار العملة والعقارات المبنية بدون ترخيص وأملاك الرأسماليين الذين يثبت أنهم هربوا أموالهم إلى الخارج وتبقى بعضها فى مصر وكذلك الاستثمارات الاسرائيلية.((53)

الهوامش

1-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، البرنامج العام الأول »من أجل مصر وطنا للحرية والاشتراكية والوحدة، مطبعة أخوان مورافتلى، القاهرة، 1980.
2-د. خليل حسن خليل، النموذج السوفيتى وبناء الاشتراكية، مجلة اليسار، القاهرة، العدد 57- نوفمبر 1994 ص 77.
3- د. ابراهيم سعد الدين، كتاب ازمة النظام الاشتراكى، سلسلة كتاب الأهالى - العدد ،19 مارس ،1989 القاهرة. ص 176-177.
4- د. ابراهيم سعد الدين، المرجع السابق . ص 30.
5- حسين عبد الرازق، الديمقراطية، كتاب مصر وقضايا المستقبل، سلسة كتاب الأهالى، العدد ،60 سبتمبر ،1997 القاهرة. ص 43-44.
6- فريدة النقاش ، اللينينية بعد العاصفة، مجلة اليسار، العدد 30- أغسطس ،1992 القاهرة . ص 69.
7-د. خليل حسن خليل، الاشتراكية نظرية الكادحين والمثقفين، مجلة اليسار - العدد ،30 أغسطس 1992. ص 70.
8- - د. خليل حسن خليل ، اخطاء التجربة وسقوط النظام، مجلة اليسار، العدد 58- ديسمبر سنة 1992 القاهرة. ص 76.
9- فريدة النقاش، اللينينية بعد العاصفة، مجلة اليسار، العدد 30- أغسطس 1992. القاهرة ص ،67 69.
10- الحزب الشيوعى المصرى، البرنامج السياسى العام 1992 ص 29،28- وثيقة الخط السياسى الصادرة عن المؤتمر العام الثالث ص 79-81- القاهرة . نوفمبر 1992.
11-د. ابراهيم سعد الدين، مرجع سابق. ص 26.
12-د. ابراهيم سعد الدين، مرجع سابق ص 181.
13- د. اسماعيل صبرى عبد الله، الديمقراطية وحقوق الانسان فى الوطن العربى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، لبنان، سلسلة كتب المستقبل العربى (4)، الطبعة الثالثة، نوفمبر 1968. ص 86-87.
14- د. اسماعيل صبرى عبد الله، المرجع السابق. ص 87.
15-كارل ماركس، المختارات باللغة الألمانية، نقلا عن يحيى علوان مجلة الطريق، العدد الخامس لسنة 1997 ، بيروت لبنان، ص 81.
16- لينين ، الأعمال الكاملة باللغة الألمانية، المرجع السابق. ص87.
17-لينين، المرجع السابق ص 77.
18-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحودى، البرنامج السياسى العام الثانى (بناء مجتمع المشاركة الشعبية)
سلسلة كتاب الأهالى - العدد ،64 اكتوبر 1999. ص 51.
19-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدودى، المرجع السابق. ص 52.
20-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدودى، المرجع السابق. ص 53.
21-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدودى، المرجع السابق. ص 53-59.
22-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدودى، المرجع السابق. ص 77.
23-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدودى، المرجع السابق. ص35.
24-الحزب الشيوعى المصرى، مرجع سابق، ص 57-59.
25-الحزب الشيوعى المصرى، مرجع سابق. ص 53.
26-الحزب الشيوعى المصرى، مرجع سابق. ص 55.
27-الحزب الشيوعى المصرى، مرجع سابق. ص ،57 59.
28-الحزب الشيوعى المصرى، وثيقة الخط السياسى، مرجع سابق، ص 73.
29-الحزب الشيوعى المصرى، مرجع سابق. ص 116.
30- الحزب العربى الديمقراطى الناصرى، البرنامج السياسى العام، ،1992 القاهرة . ص12.
31-الحزب العربى الديمقراطى الناصرى، المرجع السابق. ص 136-143.
32- أحمد نبيل الهلالى، كتاب اليسار العربى وقضايا المستقبل ، تحرير عبد الغفار شكر، مركز البحوث العربية، الناشر مدبولى، القاهرة 1998 ص199-200.
33-صلاح العمروسي ، المرجع السابق. ص 229.
34-د. خليل حسن خليل، الحل فى الاشتراكية، مجلة اليسار، العدد 54- اغسطس 1994 ص 25.
35-د. عبد المنعم تليمة، كتاب اليسار العربى وقضايا المستقبل ، مرجع سابق. ص 268-269.
36-د. سمير أمين ، كتاب قضايا فكرية، العدد 10،9- نوفمبر ،1990 دار الثقافة الجديدة، القاهرة. ص 277.
37-لمزيد من التفاصيل ارجع إلى د. اسماعيل صبرى عبد الله، مصر التى نريدها، دار الشروق ، القاهرة، 1992.
38-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، البرنامج العام الثانى، مرجع سابق ص 37-45-46.
39-الحزب الشيوعى المصري، البرنامج العام، مرحع سابق، ص 27.
40-الحزب الشيوعى المصرى، البرنامج العام ، مرجع سابق. ص 52.
41- الحزب الشيوعى المصرى، البرنامج العام ، مرجع سابق. ص 53.
42-الحزب العربى الديمقراطى الناصرى، البرنامج العام. مرجع سابق ص 111-204.
43-د. سمير أمين، كتاب نحو تجديد المشروع الاشتراكى، كتاب الطريق ، دار الفارابى، بيروت - لبنان، 1997. ص 201-320.
44-د. سمير أمين، المرجع السابق ص 321.
45- د. سمير أمين، المرجع السابق. ص324-325.
46-عبد الغفار شكر، الاشتراكية والاجتهاد والعالم الثالث، مجلة اليسار، العدد 64- يونيو 1995 ص
47-د. ابراهيم سعد الدين، اشتراكية المستقبل فى مصر، ندوة ، مجلة اليسار ، العدد 98. ابريل 1998 القاهرة. ص10-11.
48-حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحودى، مشروع البرنامج العام الثانى، شركة الأمل للطباعة، القاهرة 1998.
وأنظر أيضًا د. ابراهيم سعد الدين، اشتراكية المستقبل، كتاب مصر وقضايا المستقبل. مرجع سابق.
49-عبد الغفار شكر، الديمقراطية والطريق العربى إلى الاشتراكية، كتاب اليسار العربى وقضايا المستقبل. مرجع سابق. ص 194-195.
50-فريدة النقاش، اشتراكية المستقبل فى مصر ندوه - مجلة اليسار، العدد ،98 ابريل 1998. القاهرة . ص16.
51- عادل غنيم ، المرجع السابق. ص 15.
52-عادل غنيم ، المرجع السابق. ص 15.
53-أحمد نبيل الهلالى، المرجع السابق ص 19.