الفلاحون في التنمية ذات التوجه الاشتراكي


سمير أمين
2010 / 9 / 20 - 09:30     

انشغل المفكر الماركسي العالمي سمير أمين بقضايا جنوب العالم الذي يضم 85% من سكان المعمورة حيث تقوم الطبقات الحاكمة في الشمال بنهب ثرواتهم وافقارهم، وفي القلب من قضايا الجنوب تأتي مسألة الزراعة والفلاحين،
وفي سياق دعوته لمرحلة انتقالية طويلة المدي من الرأسمالية إلي الاشتراكية والتي اطلق عليها عنوان البديل الوطني الشعبي أو التنمية ذات التوجه الاشتراكي وضع سمير أمين مسألة الفلاحين في القلب من برنامجه، ويسوق لنا هنا بعض أفكاره حول القضية وهي محورية ضمن قضايا التطور الاجتماعي الاقتصادي السياسي لبلدان الجنوب ولانشاء علاقات متكافئة بينه وبين الشمال.
يقوم البديل الخاص بالتنمية ذات التوجه الاشتراكي علي المبدأ الصحيح بأن الأرض مورد طبيعي أساسي، وهي ملكية الشعوب، وبصفة خاصة الفلاحين الذين يعيشون عليها. وقد طبقت الثورتان الاسيويتان الكبيرتان هذا المبدأ وتجنبتا بذلك الهجرة الجماعية غير المحكومة من الريف التي تصيب بقية سكان القارات الثلاث. وتبني هذا البديل يعني الاحترام الكامل لذلك المبدأ طوال فترة الانتقال الطويل للاشتراكية، وبالتأكيد سيحتاج زيادة سكان الحضر الذي يصاحب التصنيع الضروري (حتي وفق نموذج خاص لا يقلد النموذج الرأسمالي دون تحفظ)، يقتضي نقل بعض السكان من الريف إلي المدن. ولكن هذه الهجرة يجب أن تنظم وفقا لقدرة الانشطة المنتجة في المدن علي الاستيعاب، وتأخذ أشكال إدارة الإنتاج في الريف ذلك في الاعتبار.
وهذا لا يعني ابقاء الريف متوقفا في حالة «ازدحام سكاني»، وقد ارتكبت اخطاء عندما ظن البعض أنه يمكن لعملية نشر التعاونيات في الريف، سابقة لمتطلبات وقدرات التكنولوجيا، أن تحل التناقض المشار إليه. وقد أثبتت الخبرة أن الحق في الحصول علي الأرض المضمون لجميع الفلاحين، مع أشكال تجمع بين الانتاج العائلي الصغير والسوق، سمحت بزيادة قوية وسريعة للانتاج الزراعي، أي رفع الاستهلاك الذاتي للفلاحين، وكذلك للفائض المخصص للسوق، واستمرار هذا التقدم سيقتضي بالضرورة اختراع أشكال جديدة تتمشي مع كل مرحلة من طريق التنمية ذات التوجه الاشتراكي. ولكن هذه الاشكال لا يمكن أن تتخلي عن مبدأ الحصول علي الأرض للجميع، لمصلحة بعض الأوهام عن الملكية الخاصة للأرض.
ومن الضروري فحص هذه البرامج الخاصة بالتنمية الفلاحية الشعبية بعناية أكثر من أي وقت مضي، ولا يمكن اقتراح ذات الاشكال للجميع، فهناك تنوع لا حدود للأوضاع التي خلقها التوسع الرأسمالي. وفي البلدان التي خلق فيها هذا التوسع لا مساواة ضخمة في شكل ابعاديات شاسعة كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وافريقيا الجنوبية ، والهند ، يحتاج الامر إلي اصلاح زراعي جذري.
ويمر برنامج التوسع الرأسمالي اليوم بعمليات «تحديث» جزئية (يطلق عليها الثورة الخضراء)، لا يستفيد منها سوي أقلية من الفلاحين الاغنياء والرأسماليين الزراعيين، وهي تضع الزراعة في مجموعها في حالة تبعية شديدة للبزنس الزراعي، أما الاشكال البديلة لتنمية ريفية يجري تحديثها تدريجيا لصالح الجميع، لا يمكن أن تكون مشابهة. وعلي التفكير النظري مع التجربة العملية الوصول لاختراع النماذج المناسبة.
ويجب أن يقترن الحصول علي الأرض بتوفير وسائل استغلالها للفلاحين. وأول هذه الوسائل هو الماء الذي لا يمكن اعتباره. لهذا السبب، مجرد «سلعة كأي سلعة أخري». وحصول الشعوب علي الماء»، يثير القضية الصعبة المتعلقة بأنظمة الانهار الدولية، التي يتجاهلها القانون الدولي بشكل كامل تقريبا، والتي تحكمها - احيانا- معاهدات ثنائية أو متعددة الاطراف يجري التفاوض الصحي بشأنها في بعض الحالات. والحصول علي وسائل الانتاج الضرورية لتقدم الزراعة (مثل الائتمان، والمعدات، والبذور، والاسمدة ومواد مقاومة الآفات، ومؤسسات التسويق). لا يمكن تركها «لقواعد السوق». ويقتضي البديل الشعبي. والتوجه الاشتراكي تدخل سياسات الدولة المناسبة في هذه المجالات، وفتح المجال أمام المبادرات الفلاحية (التعاونيات بأشكالها المختلفة). كذلك لا يسمح بأن يكون ادخال التقدم العلمي والتكنولوجي في مجال الانتاج الزراعي والغذائي مبنيا علي اعتبارات الربحية المباشرة. والترشيد الرأسمالي بطبيعته قصير المدي، وبذلك قد لا يكون مستداما علي المدي الطويل، فإدخال المنتجات المعدلة وراثيا مثلا، قد يؤدي لاخطار غير مدروسة بالنسبة لاستمرارية القدرة الإنتاجية للارض (ويشهد بذلك مثال تدمير القدرة الانتاجية للأرض في الأرجنتين)، وكذلك بالنسبة لاستمرار التنوع البيولوجي، وهو أمر يجب المحافظة عليه. وكذلك لقيام بعض الاخطار الصحية للإنسان. وفرض هذه المنتجات يجري حاليا وفقا للارادة المنفردة للشركات الزراعية متعدية الجنسية ، بهدف اخضاع الانتاج الفلاحي، واخضاع الاسواق لمصلحتها الخاصة، أما البديل الشعبي فيقتضي أن تكون معايير البحث العلمي مختلفة عن ذلك.
ولا يجوز أن تقتصر السياسات الوطنية الخاصة بعالم الريف علي موضوع الانتاج الزراعي فحسب، بل يجب أن يوفر للمجتمعات الريفية الخدمات الأساسية (خاصة العناية الصحية والتعليم)، بمستوي لا يقل عما يتمتع به سكان الحضر لتحقيق العدالة الاجتماعية.
كذلك يجب أن تعمل السياسات الوطنية علي تحقيق السيادة الوطنية في شئون الغذاء (الاكتفاء الذاتي الأساسي للأمة)، وليس مجرد «الأمن الغذائي (أي القدرة علي دفع قيمة المواد الغذائية المستوردة لاستكمال النقص في الإنتاج الوطني للغذاء) الأمر الذي يحاول البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية فرضه.
يمثل الارتباط بين سياسات التنمية الزراعية، وسياسات التصنيع العمود الفقري للتنمية الكلية للمجتمع، وتصور هذه السياسات مع ربطها بالتنمية ذات التوجه الاشتراكي يدخل في صراع واضح مع السياسات التي تنتج عن تأثيرات الأسواق الاحتكارية للرأسمالية كما هي في الواقع. فالأولي تقوم علي مبدأ «التحالف العمالي الفلاحي» الذي لا يمكن ترك المسئولية عنه للسلطات السياسية المركزية بمفردها. فمقرطة المجتمع تفترض ترك مجال واسع للمفاوضات الجماعية (بين المنظمات الفلاحية والنقابات العمالية، وبين عالم الريف ومنظمات المستهلكين) بتأييد من الدولة الشعبية.
ويتعرض الإنتاج الزراعي في الوقت الحاضر لهجوم معولم من رأس المال الاحتكاري تقوم به اجهزة منظمة التجارة العالمية، في إطار الاستراتيجية المسماة «بانفتاح الأسواق»، وهي تعني في الواقع انفتاح اسواق الجنوب من جانب واحد أمام متطلبات توسع رأس المال الاحتكاري للشمال. وتدور المعارك حاليا في داخل منظمة التجارة العالمية (بعد أن انضمت أغلبية بلدان العالم لهذه المؤسسة التي تصورتها وصاغت نظمها القوي الامبريالية وحدها) حول الدعم الصريح أو المتخفي لمنتجات بلدان الشمال الزراعية (دورة الدوحة)، ولابد من دعم وجهات نظر بعض بلدان الجنوب التي تطلب إعادة النظر في «قواعد منظمة التجارة العالمية». وتقويتها بمبادرات شعبية مشتركة قادرة علي تحديد البدائل العامة المتماسكة، والاهداف المباشرة للنضال المشترك.