تطور الفكر الاشتراكى فى مصر1970-2000 الجزء الثانى


عبد الغفار شكر
2004 / 9 / 4 - 12:18     

تطور الفكر الاشتراكى فى مصر1970-2000 الجزء الثانى
2- الموقف من الديمقراطية
ناضل اليسار المصرى طويلاً من أجل تمتع الشعب بحقوقه وحرياته الأساسية. ودعا إلى تحقيق تحولات ديمقراطية عميقة فى المجتمع المصرى ولكن اليسار المصرى شأنه شأن باقى التيارات والقوى السياسية لم يراجع منطلقاته النظرية لتتلاءم مع توجهاته العملية من قضية الديمقراطية مما يشكك فى مصداقية التزامه بها بعد وصوله إلى السلطة واحتمال استخدامه لها كوسيلة للوصول إلى السلطة م يطبق بعد ذلك مفهومه الخاص للديمقراطية المتسق مع منطلقاته النظرية الا أننا نلاحظ أنه يتجه فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين إلى بلورة نظرة جديدة للديمقراطية تتضمن اعادة النظر فى مفهومه النظرى للديمقراطية.
فقد تعاملت الحركة الناصرية مع قضية الديمقراطية من خلال المفهوم الذى بلوره جمال عبد الناصر ويقوم على أربعة مقومات أساسية هى :
- الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية جناحان متكاملان للحرية
- الانتقال التدريجى للسلطة من مستوى التمركز الى المستويات الأدنى إلى المستويات المحلية.
- فى كل مستوى من مستويات ممارسة السلطة يجب أن تكون الكلمة الأعلى للمجلس الشعبى المنتخب في مواجهة الفئات الادارية المعنية من قبل الحكومة.
- في كل المجالس الشعبية المنتخبة يجب أن يكون للعمال والفلاحين على الأقل نصف عدد المقاعد.(13)
وقد أثبتت التجربة أن هذه الصيغة لم تحقق الهدف منها، وذلك لغياب التعددية السياسية، لأن تسييس الجماهير يكون دائما بطرح بدائل أمامها لكى تختار من بينها، والذي يتولي طرح البدائل السياسية هو بالضرورة التجمعات السياسية أى الاحزاب ولا يمكن أن تكون النقابات أو اتحادات الفلاحين أو اتحادات النساء والشباب بديلا للأحزاب رغم أهمتتها فى رفع وعى الجماهير.(14)
أما الأحزاب الاشتراكية سواء كانت ماركسية أو غير ماركسية فإنها كانت بدرجات متفاوتة تنطلق من مفهوم الديمقراطية الاشتراكية التى صاغها ماركس وانجلز ولينين مع قدر متفاوت من المرونه من حزب لآخر.
تقوم الديمقراطية الاشتراكية عموما على فكرة أن التحرر الأساسى للإنسان هو تحرره من الاستغلال الاقتصادى - وأنه حينما يتحرر من الاستغلال الاقتصادى، يمكن أن يمارس بقية الحريات على شكل أوفى وأكمل، ومن هنا أعطى البعد الاجتماعى أسبقية على البعد السياسى. أن الديمقراطية السياسية ستظل ميزة لطبقة معينة ما لم تتحقق مساواة اجتماعية والتغيير الاجتماعى الجذرى لا يتم عادة دون مقاومة من جانب من يملكون الثروة والسلطة معا، وبالتالى فإن العملية الثورية يجب أن تتضمن عنصرا من عناصر القهر ضد هذه الفئات، أى دكتاتورية البروليتاريا أو الطبقات الكادحة.
يقول كارل ماركس "جوهر التصور البورجوازى لحقوق الانسان يقوم على حماية الدولة لحق الملكية الخاصة، ويشكل النقطة المحورية لبقية الحقوق، فالدساتير الليبرالية فى البلدان الحديثة عندما تقتصر على ذلك فإنها بذلك تحول نفسها إلى آداة (العوبة) بيد الطبقات المالكة".(15)
ويقول لينين عن دكتاتورية البروليتاريا "الدكتاتورية هى سلطة تقوم مباشرة على العنف ولا تلتزم بأية قوانين، فدكتاتورية البروليتيار الثورية هى سلطة تقوم وتبقى فى الحكم عبر عنف البروليتاريا ضد البورجوازية، هي سلطة لا تحدها أية قوانين(16) ويقول أيضًا "نلاحظ فى البلدان الرأسمالية ديمقراطية هشة، مزيفة، ديمقراطية الأغنياء، القلة، أما دكتاتورية البروليتاريا فستوفر لأول مرة الديمقراطية للشعب، للأغلبية، وفى الوقت عينه ستقمع الأقلية، المستغلة، إذا ما استدعت الضرورة ذلك".(17)
كان هذا هو الأساس النظرى الذى استلهمته بدرجات متفاوته الأحزاب الشيوعية والتنظيمات الماركسية وغير الماركسية، بل والأحزاب القومية العربية في صياغتها لمفهوم الديمقراطية، كما تأثرت بشدة بالنموذج السوفيتى فى هذا الصدد.
تجاوزت الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية فى مصر هذا المفهوم للديمقراطية فى السنوات الأخيرة، وبصفة خاصة بعد سقوط النموذج السوفيتى وبلورت رؤية جديدة تقوم على الأركان التالية :
1- عدم تجاهل المقومات الأساسية للديمقراطية البورجوازية لأنها توفر بالفعل الحد الأدنى للديمقراطية، وضرورة الانطلاق فى بناء الديمقراطية من التعددية السياسية والتداول السلمى للسلطة وتوافر مجتمع مدنى قوى واحترام الحقوق والحريات الأساسية للانسان.
2- أهمية تجاوز البرلمانية التمثيلية التى تتيحها الديمقراطية البورجوازية إلى صور من الديمقراطية المباشرة لتوسيع نطاق المشاركة الشعبية لمختلف الجماعات الاجتماعية مثل الادارة الذاتية لمنشئات الانتاج والخدمات والمرافق العامة من خلال مجالس منتخبة بواسطة العاملين والمستفيدين من الخدمة ، بالإضافة إلى قيام حكم محلى شعبى حقيقى .
3 - توافر حد أدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لضمان اشباع الاحتياجات الأساسية للطبقات الكادحة بمستويات مناسبة وخاصة الغذاء والصحة والتعليم والسكن.
4 - أنهاء كافة القيود التى تحول دون تواجد مجتمع مدنى قوى يتكون من منظمات مستقلة لمختلف فئات الشعب، منظمات سياسية ونقابية واجتماعية وثقافية.
5 - الديمقراطية بهذا المفهوم ليست مطلوبة فقط فى ظل النظم الحالية بل هى ضرورية لفترة الانتقال إلى الاشتراكية وفى المجتمع الاشتراكى نفسه.
بهذا المفهوم ننتقل من ديمقراطية تمثيلية محدودة إلى ديمقراطية المشاركة، وتصبح المجالس الشعبية المنتخبة والمنظمات السياسية والنقابية والاجتماعية والثقافية التى تكفل الديمقراطية حرية تأسيسها بمثابة البنية التحتية لنظام ديمقراطى فاعل، هى فى الحقيقة ضمان استمرار التراكم فى اتجاه بناء المجتمع الاشتراكى وحماية منجزاته دون خشية من تداول السلطة بين مختلف القوى السياسية سواء فى مرحلة الانتقال أو فى المجتمع الاشتراكى. تضمنت برامج الاحزاب الاشتراكية فى مصر طرحا للديمقراطية فى إطار هذا المفهوم كما تضمنت كتابات المفكرين والكتاب الاشتراكيين والقيادات السياسية التقدمية شرحًا وافيًا لها، مع وجود اختلافات حول جوانب منها وتحفظات على جوانب أخرى.
يطرح حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى قضية الديمقراطية فى برنامجه السياسى العام (بناء مجتمع المشاركة الشعبية الصادر عام 1999 على أنها أفضل نظام سياسى لتطور النضال المصرى حاليا ومستقبلا، وأنها قاعدة أساسية فى المجتمع الاشتراكى الذى يكافح الحزب من أجل تحقيقه ويؤكد أن الديمقراطية النيابية (البورجوازية) لم تمنحها الرأسمالية تعطفا منها مع الجماهير، وإنما جاءت نتيجة للنضال الجماهيرى، وأن هذه الديمقراطية توفر ثلاثة عناصر جوهرية :
أولـهــا: احترام حقوق الانسان بما فيها حرية التعبير عن الرأى وحرية التنظيم
وثانيهما: حرية انشاء الاحزاب دون قيد أو شرط وحرية نشاطها.
وثالثـها: تداول السلطة بين الأحزاب عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة. وهذا التداول أمر بالغ الأهمية لأنه يعنى تمكين المواطنين من تغيير الحكام.
وأن هذا النظام قد مكن القوى الشعبية من التنظيم السياسى فى أحزاب وفى ونقابات وجمعيات ..الخ. ويسر انتشار الفكر الاشتراكى بما فى ذلك الأحزاب الشيوعية فى أغلب الدول.(18)
ويؤكد الحزب أنه سيقيم الديمقراطية على هذه الاركان الثلاثة. ولما كانت هذه المقومات فى المجتمعات الرأسمالية غير كافية لاستفادة الطبقات العاملة والكادحة منها استفادة كاملة، فإنه يطرح اسلوب المشاركة الشعبية كعامل تصحيح متجدد فى الممارسة الديمقراطية.(19)
ويؤكد الحزب أن المشاركة الشعبية هى جوهريا اشتراك الجماهير فى اتخاذ القرارات على كل المستويات، وهذا ما يمكنها من إدارة شئونها بنفسها وفرض مصالحها فى معظم الأحوال وهذه المشاركة تضمن تسارع عمليات التنمية والتوزيع العادل لثمار التنمية وتصحيح اخطاء صانعى القرار.(20)
ويركز الحزب على أهم أشكال المشاركة الشعبية وهى :
- حكم محلى ديمقراطى حقيقى.
- مشاركة العمال فى إدارة الوحدات الانتاجية
- مشاركة ممثلى المستفيدين فى وحدات الخدمات.
- اطلاق الحرية الكاملة للقطاع الأهلى.
- حرية وتعددية وسائل الاعلام.
- التنمية الشعبية.(21)
ويؤكد البرنامج العام لحزب التجمع أن ما يستهدفه تحقيق أكثر من مجرد تحقيق ديمقراطية ليبرالية حقيقية مع ما يرتبط بذلك من قيام نظام حكم برلمانى سليم وتعددية سياسية حقيقية ونظام انتخابى لا يشوبه التزوير وأن الديمقراطية التى يتطلع إليها الحزب تستوعب الحريات السياسية والديمقراطية الليبرالية وتتجاوزها بالاضافة إليها وتعميقها. لأن الديمقراطية الليبرالية لا تؤدى دورها بفاعلية كآلية لادارة الاختلاف والصراع الاجتماعى ما لم تستند إلى قاعدة تلتزم بحقوق الانسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومالم تمتد لتكفل فرص المشاركة فى صنع القرار أمام مختلف القوى الاجتماعية على كل المستويات وفي شتى المجالات(22).
ويؤكد الحزب أن الديمقراطية هى أساس نضاله من أجل الوصول إلى الاشتراكية. وهى شرط ضرورى لمرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وكذلك فى مرحلة الاشتراكية نفسها، حيث يجب أن تكون أساسى استمرار النظام الاشتراكى واعادة تجديد ثقة الشعـب بـه على أساس انجازاته(23) ويطرح برنامجًا للاصلاح الديمقراطى يتضمن الاجراءات المحققة لهذا المفهوم.
ويطرح الحزب الشيوعى المصرى رؤيته للديمقراطية فى برنامجه العام الصادر من المؤتمر العام الثالث نوفمبر 1992 فيؤكد حرصه على إعادة بناء جهاز الدولة على أسس شعبية ديمقراطية. وأن الأزمة التى طرأت على النموذج الاشتراكى هنا أو هناك يجب أن ننظر إليها باعتبارها أزمة طارئه يتعين استيعاب دروسها ووضع أسس راسخة تكفل إدارة اكفأ وأكثر ديمقراطية وشعبية للدولة والاقتصاد ومختلف مناحى الحياة فى النموذج الاشتراكى.(24)
ويطرح الحزب قبوله العمل المشترك مع كل الأحزاب والقوى السياسية التى تقبل بمبدأ تداول السلطة ديمقراطيا.(25) ويضع فى مقدمة أهدافه العامة تحقيق تحول ديمقراطى شامل يكفل تداول السلطة بين الطبقات والقوى السياسية من خلال الانتخابات ويؤدى إلى ارساء حكم وطنى ديمقراطى بديل.(26) ويطرح برنامجًا تفصيليا للاصلاح الديمقراطى يتضمن اطلاق حرية تكوين الاحزاب وحرية اصدار الصحف والغاء المحاكم الاستثنائية وكفالة حرية العقيدة والاحترام الكامل لمختلف الأديان.(27) بهدف ارساء مجتمع مدنى حقيقى على أسس مؤسسية يكفل امكانية تداول السلطة ديمقراطيا عبر انتخابات حرة ونزيهة(28).
وفى وثيقة الخط السياسى الصادرة عن المؤتمر العام الثالث أيضًا يرى الحزب أن الانهيار الذي حدث للنموذج السوفيتى لعدم مراعاة تعاليم لينين عن دور الحزب والطبقة العاملة والتحالف العمالى الفلاحى.(29)
أما الحزب العربى الديمقراطى الناصرى فهو يقبل العمل فى الواقع فى إطار التعددية السياسية وتداول السلطة من خلال انتخابات دورية، واحترام حقوق الانسان وحرياته، ومبدأ سيادة القانون. وقد لعب دورا أساسيا فى العمل المشترك بين الأحزاب والقوى السياسية فى مصر لتطوير موقف متقدم من الديمقراطية وشارك فى إصدار برنامج الاصلاح السياسى والديمقرطي فى ديسمبر 1997 الذى يتضمن تفصيلا لهذه المبادئ وغيرها، وقد أشار الحزب فى برنامجه العام الصادر عن المؤتمر العام الأول للحزب فى ديسمبر 1992 إلى أن الديمقراطية السياسية التى تقوم على كفالة التعددية الفكرية والتنظيمية وتداول السلطة وسيادة القانون كأساس لقيام دولة المؤسسات واحترام حقوق الانسان وحرياته، مع ايماننا بأن الديمقراطية السياسية ليست بديلا عن الديمقراطية الاجتماعية ولا يمكن أن تقوم على حسابها(30). ويؤكد أن الديمقراطية الاجتماعية تشترط توفير ثلاث ضمانات للمواطن حتى تكون له حرية التصويت فى الانتخابات، وهى التحرر من الاستغلال، ونصيب عادل من الثروة الوطنية، والتخلص من كل قلق يبدد أمن المستقبل فى حياته، ويؤكد على مطلب الدولة القوية ودورها المركزي وأن ذلك لا ينبغى أن ينفصل عن كفالة كافة حقوق المواطن وحرياته الأساسية فى جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأن حرية الانسان الفرد هى أكبر حافز على النضال وعلى العمل والابداع، ويطالب باعطاء كافة القوى السياسية والحزبية حقوقا متساوية لاستخدام أجهزة الاعلام المملوكة للدولة، والغاء القوانين المقيدة للحريات، والتمسك بالنص الدستورى الذى يضمن 50% للعمال والفلاحين، وتأكيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتأكيد سلطة المجالس الشعبية المنتخبة فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية وتوفير ضمانات قانونية لاستقلال وحرية النقابات والتعاونيات والجمعيات.(31)
يطرح أحمد نبيل الهلالى موقفا متكاملاً من قضية الديمقراطية يؤكد فيه أنه »من المهم أن نحدد موقفا صحيحا من الديمقراطية البورجوازية لأن الصيغة المشوهة للديمقراطية التى قدمتها (تجارب الاشتراكية السلطوية) أطلقت العنان لظاهرة الهرولة نحو الديمقراطية البورجوازية وكأنها تمثل الملاذ أو طوق الانقاذ. أو البديل الذى لا بديل سواه. وأنا اتفق مع الطرح الذى يقول بأن اشتراكية المستقبل ستقوم على التعددية وتداول السلطة وضرورة تجاوز الديمقراطية البورجوازية دون تجاهل ما بلورته من أسس وأطر. واختلف مع من يتخوفون من هذا الطرح على أمن السلطة الاشتراكية ومستقبل انجازاتها الاقتصادية والاجتماعية.
وانطلق فى ذلك من مجموعة الاعتبارات التالية :
1 - أكد لينين دوما ضرورة استخدام الديمقراطية البورجوازية والنظام البرلمانى لفوز البروليتاريا بالسلطة. وبالتالى يجب أن يستمر التمسك بالتعددية وتداول السلطة بعد الوصول إلى مواقع الحكم حتى نحافظ على موقفنا المبدئى ومصداقيتنا أمام الجماهير .
2 - الماركسية اللينينية بريئة من اعتبار نظام الحزب الواحد شرطًا الزاميا للانتقال إلى الاشتراكية وانفراد الحزب البلشيقى بالسلطة وبالساحة السياسية كان وليد أوضاع استثنائية وظرف تاريخى خاص بروسيا، وكان لهذا أثر كبير فى فشل التجارب الاشتراكية السلطوية. فالمجتمع الانتقالى وحتى المجتمع الاشتراكى لا يخلو من التناقضات وبالتالى فإن التعددية السياسية والحزبية هى القناة الشرعية للتعبير الصحيح عن هذه التناقضات وحلها ديمقراطيا وتغيبب هذه التعددية يقود التجربة لا محالة إلي كارثة طال الزمن أم قصر .
3 - التعددية السياسية والفكرية ضرورة موضوعية أيضا حتى فى المجتمع الاشتراكى، فبناء الاشتراكية مهمة معقدة تفترض بالضرورة اتاحة الفرصة أمام تعدد الاجتهادات.
4 - يجب أن يتسع إطار التعددية السياسية والحزبية فى المجتمع الاشتراكى للقوى المعارضة للاشتراكية. لأن الطبقات المالكة لا تختفى من المجتمع الاشتراكى بفرمان، وإنما يتطلب ذلك ردحا من الزمن يظل خلاله للقوى الاجتماعية وجودها ومصالحها المتميزة، ومن مصلحة التجربة الاشتراكية الاعتراف بحقها فى التعبير عن آرائها وممارسة النشاط السياسى فى العلن شريطة أن تحترم الشرعية الاشتراكية الجديدة، وأن تلتزم بأساليب النضال الديمقراطى، وأن تتجنب التآمر والانقلاب. قالت روزا لوكسمبرج (الحرية المتاحة فقط لأنصار الحكومة ولاعضاء الحزب وحدهم مهما كان عددهم كبيرًا ليست بالحرية الحقيقية، فالحرية دائما هى فقط الحرية للرأى الآخر).
5 - من المهم الا تحبس السلطة الاشتراكية نفسها داخل اطار الديمقراطية البورجوازية الضيق، وهى مطالبة بإبتكار نموذجها الخاص والأرقى للديمقراطية. وأن نتحاشى انحرافين : أحدهما يسارى يرفض رفضا تامًا كافة أشكال الديمقراطية البورجوازية التى انتزعتها الجماهير فى ظل النظام الرأسمالى، والثانى اصلاحى يقنع بالديمقراطية البورجوازية كما ورثتها السلطة الاشتراكية من المجتمع القديم ويتصور امكانية بناء الاشتراكية من خلال قنوات وآليات الديمقراطية البورجوازية وهو ما أكدت تجربة شيلى خطأه.
أن الموقف الصحيح هو أن الديمقراطية الاشتراكية لا تلغى الديمقراطية البورجوازية جملة وتفصيلا بل ترث كل ماله قيمة من التطور التاريخى السابق على قيام الاشتراكية حتى تتواصل التقاليد الديمقراطية بين المجتمعات المتعاقبة ونلتزم بالمبادئ والمؤسسات الديمقراطية فى المجتمع القديم التى تجسد مكاسب تاريخية انتزعتها الطبقة العاملة والطبقات الكادحة. كما يجب أن تلتزم باحترام القيم الديمقراطية التى أبدعها الفكر السياسى والقانونى التقدمى عبر القرون.
6 - لا يجوز فى ظل المجتمع الاشتراكى مصادرة حق الجماهير فى سحب ثقتها من حزب شيوعى حاكم حاد عن الطريق القويم، تطلعا لاختيار سلطة اشتراكية أكثر أصالة ونقاوة وأصدق تمثيلا للطبقة العاملة وأغلبية الشعب. واقرار مبدأ تداول السلطة ضمانه هامة لالزام السلطة الثورى باكتشاف اخطائها وتطهير صفوفها من الانتهازية والفساد والبيروقراطية.
7 - من حق الجماهير الشعبية سحب ثقتها من أية سلطة منحرفة حتى لو كانت تحكم باسم الاشتراكية. وأى حزب حاكم يخطئ فى حق شعبه ويفقد ثقة الجماهير غير جدير بالبقاء فى مواقع السلطة لحظة واحدة أيا كان الاسم الذى يطلقه على نفسه أو الهوية التى ينسب نفسه إليها والراية التى يرفعها، لأن جواز مرور الحزب الى مواقع السلطة واستمراره فيها هو ثقة وتأييد الأغلبية العظمى من الشعب.
وانتقال حزب شيوعى حاكم من مواقع السلطة إلى صفوف المعارضة بقرار شعبى لن يكون نهاية التاريخ، بل سيكون بداية أكثر صوابا وصحة للتاريخ، وفرصة للتصحيح والتقييم ولاستعادة الحزب ثقة الجماهير والعودة مجددا إلى السلطة من خلال آليات تداول السلطة (مثال روسيا - وبولندا).
8 - التعددية وتداول السلطة لا تمثل خطرا على سلطة اشتراكية حقيقية، ولا تفتح النوافذ والأبواب أمام رياح الثورة المضادة كما يتصور البعض وقد أساء مبدأ العزل السياسى إلى التجارب الاشتراكية.
9 - إن الدرس الذى يجب أن نخرج به من التجارب السلطوية هو أن الاعتماد فى حماية الثورة الاشتراكية على مجرد الاجراءات الاستثنائية وأجهزة الأمن خطأ قاتل (يتم ذلك فقط فى مواجهة الانقلابات والعنف الرجعى) ولكن فى غير حالات الاستثناء يجب أن يكون التصدى لأعداء الثورة بأساليب ديمقراطية :
أ - تصفية نفوذها الاقتصادى يكون عن طريق الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية والجذرية وتصفية العلاقات الاستغلالية القديمة.
ب - الاعتماد على الدور الحاسم للجماهير الشعبية وتعبئتها وتحريكها دفاعا عن مصالحها بما يقتضيه ذلك أحيانًا من توزيع السلاح على الاغلبية الشعبية(32)
ومن موقع يسارى آخر يطرح صلاح العمروسى موقف من الديمقراطية لا يختلف من حيث الجوهر لكنه يتناولها من زاوية مختلفة.
يمكن النظر إلى الديمقراطية الاشتراكية باعتبارها نفى للديمقراطية البورجوازية، ولكنه نفى بالمعنى الجدلى، حيث تلغى العناصر الرجعية فى الديمقراطية البورجوازية التى تحرم أوسع الجماهير من المشاركة فى صنع القرارات،
وتتلاعب مراكز الضغط الرأسمالية والبيروقراطية وأجهزة الاعلام بإرادة الجماهير .. الخ. ولكنها (أى الديمقراطية الاشتراكية) تحتفظ بالعناصر الايجابية فى الديمقراطية البورجوازية وتدمجها فى تركيب أعلى بصورة كيفية أوفر حرية يتلاءم مع محتواها الطبقى الجديد، وذلك من خلال الجمع بين الأشكال التمثيلية والأشكال المباشرة للديمقراطية التى توفر مشاركة شاملة لجماهير الطبقة العاملة والفلاحين ومختلف الفئات الكادحة الأخرى فى صنع القرارات التى توجه مختلف نواحى الحياة فى المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا...الخ.
وهى تضع بذلك أساسا أرسخ وأعمق لحرية الصحافة والتعددية الحزبية وحرية التنظيم النقابى، وتكوين مختلف اشكال الجمعيات والاتحادات، وتكفل حق الاضراب والتظاهر والحريات والحقوق السياسية والمدنية بالترابط مع كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبار كل ذلك شروطا ضرورية لعملية تحرير العمل وممارسة الديمقراطية المباشرة والتمثيلية، واطلاق مبادرات أوسع جماهير الطبقة العاملة والطبقات الشعبية فى المشاركة فى صنع القرارات، وحل التناقضات التى تثور فيما بينهم بصورة ديمقراطية" (33)
ولا يخلو الأمر من تحفظات فى صفوف اليسار المصرى حول الديمقراطية البورجوازية »النظام الامريكى ليس ديمقراطيا بالمعنى الأصيل للكلمة. فالديمقراطية هى حكم الأغلبية. وأغلبية الشعب الأمريكى الحقيقية مغربة عن الحكم فالديمقراطية فى الولايات المتحدة تقوم على جبهة رأسمالية انشطرت شطرين الجمهوريين والديمقراطيين وهما يعتبران فريقا رأسماليا واحدا بكل المقاييس حكم تلك البلاد منذ استقلالها حتى الآن، وبذلك يكون الحكم دكتاتورية رأس المال، تحتكر الحكم، ولا تتيح لأى قوة أو فريق آخر، مهما كان تمثيله للناس، أن يزاحمها فى الحكم.
والديمقراطيات فى العالم الثالث، فى معظمها لا تقوم على أحزاب تمثل أغلبية شعوب ذلك العالم، وهى الأغلبية الكادحة. ونظرة واحدة للمجالس الشعبية فى تلك الدول، حين توجد، تعرض لنا هذه الحقيقة. إذن الحل الحقيقى لمشكلة الديمقراطية، هى الاشتراكية، التى تتيح للجماهير الكادحة، وهى الأغلبية فى كل مجتمع، أن تحكم نفسها بنفسها عن طريق ممثلين يمثلون مصالحها السياسية والاقتصادية.
هذا هو جوهر الديمقراطية، وليس ديمقراطية الضحك على الذقون التى تمثل فيها القلة الرأسمالية الجماهير العاملة، ديمقراطية يمثل فيها القاتل مصالح القتيل" (34)
وتحفظ آخر ينكر أصلا أن هناك ديمقراطية ليبرالية أو ديمقراطية اشتراكية. ويرى أن مستقبل الديمقراطية ليس فى الأحزاب السياسية ولكن فى المنظمات الجماهيرية.
"ليس هناك فى رأى، ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية أو الديمقراطية البورجوازية، لقد كانت هناك الليبرالية وهى فلسفة البورجوازية، ولم تشهد البشرية يوما ما يسمى بالديمقراطية. فالليبرالية هى دكتاتورية الطبقة الوسطى. هناك دكتاتورية الحزب فى المنظومة الاشتراكية والذى انهار هو دكتاتورية الحزب اللينينى الواحد والنظام الشمولى وليس المنظومة الاشتراكية التى لم تكن موجودة أصلا. يقابله انهيار دكتاتورية البورجوازية ذات السبعة قرون. أى الدولة البورجوازية فى غرب أوروبا، والا فما مغزى هذا الاتحاد وهذه الوحدة ، مغزاها انهيار تجربة الغرب وتجربة الشرق لأن كليهما وجه واحد لعملة واحدة الا وهى الثورة الصناعية، وكان الحزب اللينينى مبررا فى زمنه.
أن البرلمانية مجرد هامش صغير لا مستقبل لها ولا مستقبل للبورجوازية، فالعالم كله يقبل على المنظمات الديمقراطية وليست الأحزاب والبرلمانات، وهنا محك اليسار فاذا قبل بالديمقراطية فسوف يتبوأ موقعا رفيعا، أما إذا تنكر لها واستبدلها بالفعل الجماهيرى لحد الثورة بحزب الطبقة العاملة وبالحزب القائد فسوف يزداد العقم عقما.
يوجد فى مصر 14 ألف جمعية أهلية، 21 نقابة مهنية تضم هذه النقابات المهنية حوالى 4 مليون فردا هم طليعة الشعب المصرى من أطباء ومهندسين ومحامين وعلميين وفنانين.الخ. هؤلاء جميعا ينتظمون فى نقابات وليس احزابا سياسية . وبهذا المعنى فإن المستقبل للنشاط الأهلى ومنظماته فى حين أن النظام البرلمانى يتراجع بقوة.
وهكذا ثمة بنية تاريخية تتلاشى هى بنية الثورة الصناعية والمجتمع الحديث بوجهيه : الاشتراكية الشمولية والرأسمالية الليبرالية، والنفى تحدثه بنية مركبة هى ثورة ما بعد الصناعة ومجتمع ما بعد الصناعة. والديمقراطية هى تصور مستقبلى. فحتى هذه اللحظة ليس ثمة ديمقراطية سواء على مستوى الواقع أو مستوى الفكر. وإذا نبدأ الآن بأفق مستقبلى، فإن المركب المرتقب هو الديمقراطية، أساسها الثقافى هو وحدة المشترك الثقافى الانسانى، ولا أمل إلا إذا شاركنا فى صياغة المبادئ المشتركة من خلال مؤسسات مسئولة عن التطور الديمقراطى السلمى، ولا أعنى بذلك الأحزاب، بل مؤسسات للتنمية البشرية الشاملة وتنشيط المجتمع المحلى، مؤسسات مسئولة عن الصحة والبحث العلمى والتعليم والاعلام، وكل هذا لن يتم إلا على أساس متين من الاصلاح الثقافى أولا، وليس السياسى أو الاقتصادى"(35)
وبعد، من هذا العرض لموقف الأحزاب السياسية الاشتراكية وعدد من القيادات ذات الثقل فى حركة اليسار المصرى يتضح لنا أننا أمام تطور حقيقى في موقف الفكر الاشتراكي من قضية الديمقراطية جوهره القبول بأسس الديمقراطية البورجوازية وتجاوزها فى صيغة أرقى تكفل أشكالا متنوعة من المشاركة الديمقراطية المباشرة وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطن بما يمكن الطبقات الكادحة من اكتساب قدرة اقتصادية تتيح لها قدرا من القوة السياسية يضمن لها امكانية المنافسة السياسية. وأن هذه الديمقراطية ليست لازمة فقط لوصول القوى الاشتراكية إلى السلطة بل هى ضرورة فى مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وفى المجتمع الاشتراكى نفسه، ويوجز الدكتور سمير أمين هذا الجديد بقوله "الديمقراطية تمثل المحور الأساسى من أجل تطوير الثورة نحو الاشتراكية. فليست الديمقراطية ترفا يمكن الاستغناء عنه، بل هى الوسيلة الوحيدة من أجل تقوية النزعة الاشتراكية.
ولكن ما هى الديمقراطية التى نحن فى حاجة إليها ؟ لاشك أن احترام انجازات الديمقراطية البورجوازية- حقوق الانسان وحرية الرأى واقامة مؤسسات الحكم على مبدأ الانتخاب. الخ. لا تكفى، إذا أن الديمقراطية الغربية ناقصة من حيث المضمون الاجتماعى، فالاكتفاء بالديمقراطية الشكلية دون الاخذ فى الاعتبار أهمية الاصلاحات الاجتماعية لابد أن يؤدى إلى كاريكاتير للديمقراطية يستحيل أن تدافع الجماهير عنه، وبالتالى لابد أن تظل النظم معرضه لمخاطر الانقلاب فالديمقراطية عندنا لا مستقبل لها إلا إذا نجحت فى الربط بين الممارسة الديمقراطية وبين تطلع يتجاوز منطق الرأسمالية.
فالديمقراطية التى تطمح اليها جماهير العالم الثالث المعاصر هى التى تجمع بين التأكيد على البعد الاجتماعى الاصلاحى فتختلف فى ذلك عن الديمقراطية الليبرالية، وبين احترام استقلالية المبادرة الشعبية فتختلف فى ذلك عن ممارسات الحكم الشعبوى”(36)