ملاحظات أولية حول ورقة -المرجعية التاريخية و الفكرية و السياسية لتيار -النهج الديمقراطي- - الجزء الثاني


امال الحسين
2010 / 9 / 10 - 01:17     

ملاحظات أولية حول ورقة "المرجعية التاريخية و الفكرية و السياسية
لتيار "النهج الديمقراطي" " ـ الجزء الثاني


2 ـ ضبابية الأفكار التجديدية :

1 ـ و هي تستهل تلك الفقرة الخاصة ب"المرجعية الفكرية " ، قدمت ورقة "المرجعية ..." محاولة في التجديد ، فمرجعيتنا التي كنا نختصرها في الماركسية ـ ما أرحب الماركسية ـ صارت ، في نظر ورقة "المرجعية ..." متسعة لتشمل " الفكر العلمي الذي يرتكز إلى العقل و التصورات العلمية للطبيعة و المجتمع ، و بالخصوص للماركسية كفكر مبدع ..."هكذا تصير الماركسية عمادا ، ضمن أعمدة أخرى ، لذلك "الفكر العلمي" أو جزءا ينضاف إلى أجزاء أخرى ، من تكوين هذا "الفكر العلمي".
لا تسعفنا ورقة "المرجعية ..." في تقديم تعريف /تجديد دقيق لهذا "الفكر العلمي" بل تكتفي بالإشارة إلى أنه يرتكز على "العقل و التصورات العلمية للطبيعة و المجتمع ، و بالخصوص الماركسية كفكر مبدع ..." ، فلنستبعد الماركسية فهي في نظر ورقة "المرجعية ..." ليست سوى عمادا واحدا ليس إلا ، و لنتوقف عند باقي الأعمدة الأخرى لهذا "الفكر العلمي" :

أ ـ العقل : تقدم لنا ورقة "المرجعية ..." العقل في إطلاقيته و كأنه "مومياء فوق التاريخ" . إن العقل كماهية خالصة لا وجود له " ففلسفة الأنوار مثلا تستند إلى "العقل" هو "عقلها" الخاص المشروط بحدود تاريخية مميزة كما أن العقلانية الميتافيزيقية للمعتزلة ترتكز على عقل مميز و خاص تحدده الشروط التاريخية لتكونها.
إن "العقل" نتاج شروط تاريخية محددة ، و الموجود ، حقيقة ، هو مجموعة من "العقول" ، و لكل "عقل" أسسه الخاصة به.
ب ـ التصورات العلمية للطبيعة : ماذا تقصد ورقة "المرجعية ..." ب"التصورات العلمية للطبيعة"؟ هل تقصد حقائف العلوم "الحقة" من فيزياء و كيمياء ؟ تلك معطيات قد يعتمدها هذا التصور أو ذاك ... ماذا تقصد ورقة "المرجعية ..." إذن؟...
ج ـ "التصورات العلمية للمجتمع" : لا أعلم شيئا عن هذه التصورات "العلمية للمجتمع" التي قد نضيفها إلى المادية التاريخية ... هذا لا يعني أن المادية التاريخية قد "أكملت" تطورها و صارت تقدم لنا نظرية شاملة لتطور المجتمعات ، أبدا لا نعني ذلك ... فالمادية التاريخية ، و رغم بعض التقدم الذي حققته على صعيد نظرية أنماط الإنتاج لا زالت تواجهها صعوبات و تحديات كبرى على صعد أخرى {نظريات السلطة ، الهوية الثقافية ، الحركات الإجتماعية} ... و قبل ذلك و بعد ، ستبقى المادية التاريخية ، بعد تحررها من التخبط الستاليني ، منفتحة على التجديد و الإغناء.
لا يكفي وصف هذه "التصورات" و ذاك "الفكر" بالعلمية للتحقق من ذلك بل ينبغي عرض أفكارها/أفكاره و مضامينها/مضامينه ، و اختصارا ، تعريفها/تعريفه حتى لا تصير هذه "التصورات" ، و ذلك "الفكر" "فكرة" لا يشهد بوجودهم سوى "علميتهم" تلك التي لم يشهد بها أحد.

2 ـ في تصنيفها الثلاثي لمرجعية "النهج الديمقراطي" تقدم ورقة "المرجعية ..." قضايا الهوية ضمن قسم أسمته "المرجعية التاريخية" ، تقدم هذه القضايا و كأنها جزء منفصل عن "المرجعية الفكرية" ، إن الأفكار الواردة في "المرجعية التاريخية" ليست سوى بعدا و أثرا مفترضين لاعتماد تلك المنهجية من التفكير/المادية التاريخية في بلورة منظور لإعادة صياغة الهوية الحقيقية لشعبنا.
و تكتفي ورقة "المرجعية ..." بعرض أبعاد هوية الشعب المغربي دون التوقف عند ذلك المنظور ، الذي عمر طويلا ، لقضايا الهوية و لا الإشارة إلى ضرورة تجاوزه و نقضه ، فهذه القضايا ـ قضايا الهوية ـ ظلت مثار نقاش حاد داخل الحركة الماركسية الللينينية العالمية ، ففي مطلع هذا القرن كان مفهوم الوطنية موضوع تقاطب حاد و عنيف بين تيارين عريضين : الأول ، إصلاحي "وطني" دعا إلى ممالئة بورجوازية تحت ذريعة "الدفاع عن الوطن" و التيار الضاني : ثوري أممي ، إستند على موقف يرى بأن سياسات الغطرسة و تأجيج النزعات الشوفينية الوطنية و الحروب اللصوصية ما هي إلا ثمرة عفنة لنظام الرأسمالية و دعا إلى تسييد روح أممية مناضلة ضد السلطة البورجوازية ، أما منظور الحركة الشيوعية في المنطقة العربية ، فلقد تجاذبه طرفان :

ـ منظور حركة "اليسار الجديد" عند تناولها للظاهرة القومية ، شددت حركة "اليسار الجديد" على الطابع المناهض للأمبريالية و الصهيونية و الرجعية الذي تكتسيه حركة التحرر و التوحيد القوميين ، إلا أنها ظلت أسيرة التصورات المثالية/اللاتاريخية لهذه الظاهرة (أفكار القوميين العرب) ، أما في المغرب ، فمنظور الفكر "الوطني"/القومي المسيطر لقضايا الهوية منظور أسطوري يقوم على أن الهوية الوطنية/القومية ظاهرة لا تاريخية صنعها و حماها محد الإمبراطوريات عبر تطور خطي مستقيم لم يعرف الإلتواءات ، إتها في نظر هذا المنظور ، ذلك المعطى المسبق المتبلور منذ القدم و الراسية أسسه على أركان مثالية (اللغة ، الدين ...) . إن مشروع تبلور الهوية الوطنية /القومية يغدو مشروعا ناجزا و ما على الدولإلا حمايته/استعادة مجده اعتمادا على الترغيب أو الترهيب.
و مع بداية الثمانينات ، سلكت "الحملم" طريقا جديدا في تناولها لظاهرة الهوية ، طريقا يضعها على مسافة واضحة من التصورات المثالية و اللاتاريخية لهذه الظاهرة و كذلك يميزها عن تلك الأفكار التي تقدم أية أهمية لقضايا الهوية ، حيث حاولت وضع أسس جديدة لصياغة منظور مادي تاريخي لهذه الظاهرة و قد لمعت في هذا المجرى من التفكير كتابات السرفاتي ، إلا أن هذه المحاولات لا زالت في بدايتها و دون طموح الماركسيين إلى صياغة نظرية للهوية.
غير أن المتير في عرض ةرقة "المرجعية ..." لهوية شعبنا هو تلك الإشارة إلى أن "هوية شعبنا تستند إلى البعد الإنساني و الإجتماعي للإسلام الشعبي المرتكز على ..." هكذا تقترح ورقة "المرجعية ..." إحقاق مصالحة بين تيار ماركسي و تأويل "شعبي" للأسلام بل و تصر على دمج هذا التأويل ضمن أفكارها حول تشكل الدعوة إلى التصالح مع الأديان عنصرا من عناصر التجديد التي تعرفها الماركسية ، و تقدم هذه الدعوة على ضرورة تجاوز و نقض منظور "الماركسية الإقتصادوية/الوضعية" للدين و المختصر في دعاوي للإلحاد مستند على :

ـ الصياغات السوفياتية للمادية الجدلية (الديانات) التي تعرضها في صيغة نظرية لنشوء الكون تتعارض و المقولات العقائدية ل"الدين" (ألا تختزن المادية الجدلية ، من خلال كتابات إنجلس ، ضد دوهرينخ ، دياليكتيك الطبيعة ، هذا النزوع نحو تحويلها إلى نظرية مطلقة و نهائية لتفسير الكون ؟).
ـ صياغة ميكانيكية لمقولة "الإنعكاس" التي تقدمها المادية التاريخية . تسييدنا منظور "الماركسية الإقتصادوية/الوضعية" إلى أطروحات مادية فيورباخ الإلحادية الداعية إلى صياغة "دين جديد" و هي ذات المادية التي دعا ماركس إلى نقضها عبر دعوته إلى تجاوز الفلسفة التأملية الميتافيزيقية و الإستعاضة عن "نقد السماء" ب"نقد الأرض".

إن عملية تجديد منظور الماركسيين للأديان تبدو متسقة مع مضمون ثورة ثانية تعيشها بعض الكنائس حيث تتلمس المسيحية خطاها الأولى نحو الإنسجام مع ذلك الطموح الإنساني العظيم و العميق إلى العدل الإجتماعي.
إن تجديد منظور الماركسيين للأديان يجد مكانه ضمن حركة تجديد تعرفها الماركسية لتجاوز إبتذال و تسطيح "الماركسية الإقتصادوية/التطورية /الوضعية" دون أن يعني هذا تراجع الماركسيين عن دعوتهم "العلمانية" المناهضة ل"الدولة الدينية".
ليس المثير في تلك الفقرة ـ المشار إليها سابقا ـ هو هذه الدعوة التجديدية للتصالح مع الأديان بل المثير هو الدعوة إلى إحقاق صلة من المصالحة مع "كائن" هلامي غير معرف أسمته الورقة "الإسلام الشعبي".
ليس من باب المبالغة وصف هذا "الكائن" بالهلامية لأن الورقة لم تقدم لنا أي عنصر من عناصر الإرتكاز التي يستند إليها هذا "التأويل" للإسلام ، بل عمدت إلى طمأنتنا بالإشارة إلى أنه يدعو إلى "الإستقامة و العدل ..."، و للدقة و التوضيح ، يستند الإسلام السني ، مثلا ، على ركائز واضحة هي : الكتاب و السنة و الإجماع و القياس . فما هي ركائز هذا "الإسلام الشعبي" ؟
إننا نربأ بورقة "المرجعية ..." من خطأين فادحين :

ـ الأول فج و سطحي : سيرد علينا بما مضمونه أن هذا "الإسلام الشعبي" هو مجموع الممارسات الإعتقادية لعموم جماهير شعبنا ! ... و يعلم الله أن هذه الممارسات لا زالت تملأها ضروب من الشعودة و الخرافات و الإفكار التحقيرية للنساء.
ـ الثاني سياسي مدمر : يقوم على تحذيرنا من خطر الإحتراق بنار الأصولية و تجنيبنا مآسي الإغتراب من بيئة "إسلامية" هي مجال حركتنا فيدعونا إلى لعب ورقة "الإسلام" لأهداف "تاكتيكية" فقط ، إن مكمن النظر في هذا القول هو انتهازية السافرة و غربة عن "بيئتنا"/التقاليد الماركسية الأصيلة . فه>ا النوع من "التاكتيك"/البراغماتية نجده في بعض ممارسات "الكتلة الديمقراطية" حيث عمدت في مذكرتها ، و تحت ضغط الإبتزاز الأصولي ، إلى المطالبة بالتنصيص الدستوري على أن التشريع المغربي يجد مرجعيته في "الشريعة الإسلامية".

إن التأويل ل"الإسلام" الذي نحن مدعون لدمجه ضمن استراتيجية لإعادة صياغة هوية شعبنا ، "إسلام" لم ير النور بعد ، ـ طبعا لا نقصد هنا الإسلام /العقيدة فالإقرار بوجوده واجب من موجبات احترام حرية المعتقد ـ فحركة إعادة إحياء "الإسلام" و نهضته تبدو مسيرتها مخيبة للآمال حيث ابتدأت مع الأفغاني و الكواكبي ... مرورا بمحمد عبده و رشيد رضا ... لتنتهي إلى سيد قطب.
أما بعض الأفكار الحسينية التي حاولت تخطي سقف "التجديد" المعتمد نسق التأويلات التقليدية ل"الإسلام" فلقد وأدت في المهد بسبب جبروت و عنف الدول القائمة و ظلامية و إرهاب "الإسلام السياسي" . نجد ه>ه المحاولات الموؤودة في كتابات قاسم أمين حول تحرير المرأة و في الصياغات "العلمانية" المناهضة ل"الدولة الدينية" للشيخ على عبد الرزاق (الإسلام و أصول الحكم) و كذلك في إسهامات طه حسين الداعية إلى نزع القداسة عن الروايات الرسمية لتاريخ ما قبل التاريخ.

3 ـ لم تكن "الحملم" ، و إلى حدود البارحة ، تنظر لمنظومة حقوق الإنسان إلا كأثر من آثار فكر بورجوازي ـ في حقبة تقدمية المتجاوزة ـ و لم تكن تهتم بهذه المنظومة إلا عبر توظيفها السياسي لنصرة قضايا "الحريات الديمقراطية" ببلادنا.
إن تصريح ورقة "المرجعية ..." ب"انفتاح" النهج عبى "إنجازات الفكر التقدمي العالمي في ميدان حقوق الإنسان ..." يشكل عودة إلى الروح الإنسانية العميقة التي تختزنها الماركسية (كان ماركس شديد الولع بترديد عبارة "النضال من أجل البشرية" و من أقواله المأثورة "كل ما هو إنسانب ليس غريبا عني".) لكن هذه العودة لن تكتمل إلا ب:

أ ـ بقض و تجاوز جذور الموقف السابق : ينطلق المنظور "الماركسي" السابق من موقف تمييزي إزاء منظومة حقوق الإنسان ، فهو إذ يعتبر الحقوق الإقتصادية و الإجتماعية ثمرة نضال الشعوب و الطبقات العاملة في العالم ضد نهب الرأسمالية و طبيعتها الإستغلالية ، يظل يدافع عن القبول بالحقوق المدنية و السياسية التي تختصرها في اعتبارها نتاج ثورة بورجوازية هي الثورة الفرنسية.
تشكل الثورة الفرنسية إحدى الأعمدة الإرتكازية لمنظومة حقوق الإنسان لكن القول بطبيعتها البورجوازية الخالصة قول مجاف للحقيقة ، فالبورجوازية لم تكن تهدف ، من خلال ه>ه الثورة ، إلا إلى إقامة ديمقراطية دافعي الضرائب كما مورست خلال القرن 19 ، و هي و له>ا كانت مستعدة لعقد تسوية مع الملكية فيما كان نضال الطبقات الشعبية يعكس تطلعها إلى إقامة سلطة "شعبية".
لقد شكلت ه>ه التطلعات الشعبية أساس اللحظات الراديكالية التي طبعت الثورة الفرنسية : هكذا حاولت :الديمقراطية اليعقوبية" تجاوز ميل "الجيروندية" إلى التوافق من خلال نزوعها إلى إقامة سلطة "شعبية".
ب ـ إعادة صياغة منظور ماركسي لمنظومة حقوق الإنسان قادرة على دمج ه>ه المنظومة ضمن نسق الماركسية حتى لا تبدو و كأنها مجر إضافة كمية يسهل التخلص منها ، و للدقة نقول : إن المطلوب هو إحقاق تمفصل البعد الإنساني على البعد الطبقي ضمن أية استراتيجية ماركسية التغيير.
"إشتراكية أو بربرية" تلك مقولة ماركسية أصيلة تكشف رهانا ماركسيا بامتياز ، فالماركسية لا تجزم بتوجه العالم نحو الإشتراكية بل تضعه أمام خيار آخر هو البربرية الممكنة ... ألا يقدم عالمنا ، عبر مشاهد الموت جوعا أو احترابا في الصومال ، رواندا ، أفغانستان ... صورا رهيبة عن هذه البربرية الممكنة ...

و رغم الأزمة الراهنة للماركسية تبقى ثقتنا كاملة في قدرتها على تقديم بدائل للإنسانية تحميها خطر البربرية الزاحفة ، فتثاقل المشكلات و قوة الزلزال الرهيب الذي أصاب "الماركسية" في مصداقيتها لم يمنعا أبواب الأمل من أن تنفتح عبر ذلك النقاش الذي يجري عالميا حول قضايا إعادة بناء اليسار.