هل ستستعيد حركة اليسار دورها الفكري والسياسي على الصعيد العالمي؟ -الحلقة الثانية- ما العمل؟


كاظم حبيب
2010 / 9 / 2 - 13:53     

من أجل أن تستعيد قوى الحركة اليسارية على الصعيد العالمي دورها ومكانتها في النضال من أجل عالم أكثر أمناً واستقراراً وسلاماً وأكثر عدلاً وسعادة لبني البشرً, لا بد لها أن تعيد النظر ببرامجها النضالية على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية من خلال دراسة التجارب المنصرمة وأسباب النجاحات التي تحققت في المسيرة الطويلة منذ ما يقرب من قرنين من السنين وأسباب الإخفاقات التي تعرضت لها والنكسة الكبيرة التي رافقتها خلال العقدين المنصرمين والأزمة الراهنة التي تمر بها. كما يتطلب الأمر تشخيص المشكلات التي تجابه البشرية بشكل عام على الصعيد الدولي وأسبقيات النضال في المرحلة الراهنة وعلى مدى العقدين القادمين مثلاً.
إن الكف عن التفكير بخلق مركز للحركة اليسارية لا يعني الكف عن التشاور بين مكونات وأطراف هذه الحركة على الصعيد العالمي دون وضع عراقيل أو رفض مشاركة هذا الطرف أو ذاك منها, إذ أن التداول والتفاعل أمر ضروري والتقارب يساهم في بلورة الاتجاهات العامة التي يمكن أن تسير فيها الحركة دون إلزام لأي منها بذلك, إضافة إلى الاختلافات في الظروف والشروط المحلية لكل مكون من مكونات هذه الحركة الواسعة.
ويبدو لي أن اهتمام الحركة اليسارية على الصعيد العالمي يفترض أن يتوجه صوب النقاط التالية في المرحلة الراهنة, والتي يكون في مقدورها تعبئة المزيد من الرأي العام العالمي حولها من جهة, مع ضرورة قيام كل طرف من أطرافها في ربط تلك المهمات الدولية بالمهام الإقليمية والمحلية بصورة عضوية وفعالة من جهة ثانية, لخلق التناغم والانسجام في الحركة العامة, إذ أن مستويات تطور البلدان متباين بصورة كبيرة, وخاصة بين الدول الرأسمالية المتقدمة والتي تشكل مراكز العالم الرأسمالي والبلدان النامية التي تشكل محيط هذه المراكز والمستغلة فعلياً منها.
تبرز أمامنا مهمات كونية مثل:
** مخاطر وجود أسلحة الفتك والتدمير الشامل, وخاصة الأسلحة النووية والكيمائية والبيولوجية, في الكثير من دول العالم وسبل منع انتشارها أولاً, والعمل على إزالتها من جميع الدول صغيرها وكبيرها.
** رفض الحروب والعنف واستخدام السلاح ومنع استمرار سباق التسلح في العالم الذي يهدد المزيد من البشر بالموت المحقق, ومن أجل حل المشكلات والنزاعات حول الحدود والمياه والمشكلات الأثنية والحقوق القومية للشعوب, إضافة إلى معالجة القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والصراع العربي–الإسرائيلي, بالطرق التفاوضية السلمية وعبر المؤسسات الشرعية والإقليمية والدولية على أسس ديمقراطية وعادلة.
** العمل على مواجهة تفاقم الاحتباس الحراري والتغيرات الجارية على البيئة الدولية بسبب تفاقم التلوث بمختلف مكوناته واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتغيير نمط الحياة الاستهلاكية المتفاقمة في البلدان المتقدمة بشكل خاص. ولا بد من تشخيص حقيقة تفاقم الكوارث الطبيعية في العالم نتيجة الاستخدام غير العقلاني للثروات الطبيعية ونزعة الاستهلاك الموغلة بالتبذير والركض وراء معدلات النمو والربح من تلك القوى التي تستغل الطبيعة والإنسان أسوأ استغلال وترفض التعامل مع مشكلات البيئة تعاملاً حضارياً وإنسانياً.
** مع القناعة بان ظاهرة العولمة ليست سوى مرحلة جديدة من مراحل تطور الرأسمالية موضوعياً على الصعيد العالمي, وإنها من حيث المبدأ ليست ظاهرة سلبية بل هي حتمية مرتبطة بمستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية والقفزة العلمية الثورية الهائلة في التقنيات والاتصالات, ولكن لا بد من التصدي للسياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء شعوبها والفئات الكادحة منها على نحو خاص وإزاء شعوب الدول النامية, إذ إنها تعبر عن نفس جوهر السياسات الاستغلالية للرأسمالية العالمية في مرحلة الاستعمار القديم. ورغم صعوبة هذه العملية إلا أن في مقدور الدول النامية, وعبر منظماتها السابقة التي يستوجب تطوير مضامينها بما يتناسب والتغيرات الحاصلة في العالم, أن تحقق نتائج إيجابية لتقدمها بوتائر أسرع وتحسين ظروف حياتها ومشاركتها في التنمية وتحسين حصتها في الإنتاج والاستهلاك والتبادل التجاري الدولي, وتقليص سلبيات السياسات المبنية على هذه الظاهرة الموضوعية على شعوب البلدان النامية وكادحي الدول الرأسمالية المتقدمة.
** إن العالم الذي نعيش فيه عالم واحد, ولكنه مجزأ إلى عالمين غير متكافئين ومتصارعين, عالم الدول المتقدمة والغنية المكون من 20% من شعوب العالم والذي يهيمن على 80% من الثروة المنتجة في العالم, وعالم الدول المتخلفة والفقيرة المكون من 80% من شعوب العالم ولا يحوز إلا على 20% من الثروة المنتجة في العالم. كما أن كل بلد من بلدان هذين العالمين تتوزع الثورة في مجتمعاتها بصورة غير عادلة ومجحفة, فئات قليلة غنية ومتخمة, وفئات كبيرة وكثيرة فقيرة ومحرومة. كما أن مكانة ودور البلدان النامية في التقسيم الدولي للعمل وفي التجارة الخارجية, وخاصة الصادرات, ضعيف جداً وغير متوازن ولا متكافئ. وتلعب المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة دوراً سلبياً على اقتصاديات الدول النامية والتي يستوجب تغييره لصالح هذه البلدان.
** ويتبلور هذا الواقع في الفجوة الكبيرة جداً ليس في التباين الشديد والفجوة العميقة بين مستوى حصة الفرد الواحد من الدخل القومي في كل من هذين العالمين حسب, بل وبالأساس في مستوى تطور القوى المنتجة وطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في كل منها ومستوى تقدم أو تخلف البحث العلمي واستخدام التقنيات الحديثة والتصنيع وتحديث الزراعة ومستوى التعليم والأمية...الخ, إضافة إلى أن التباين في تقسيم العمل على الصعيد العالمي.
** من هذا الواقع غير العادل ومن مستوى التخلف الحضاري وغياب التنوير الديني نشأ وتطور التعصب والتزمت والتطرف الديني والذي نشأ عنه الإرهاب الديني وانجرار جماعات غير قليلة من البشر إليه, وخاصة في الدول التي أكثرية سكانها من المسلمين. حتى في الدول الريعية المالكة للنفط الخام أو موارد أولية إستراتيجية أخرى يلاحظ وجود فجوة كبيرة جداً في الدخول السنويةً, مما يسهم في إشاعة التعصب الديني وبروز حاد لظاهرة الإرهاب.
** إن السياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة على الصعيد العالمي والجموح الجشع لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الإنسان والطبيعة وتفاقم سياسات المضاربات المالية والفساد المالي المتعاظم على الصعيد العالمي تؤدي إلى تفاقم حالة الإخلال بالقوانين الاقتصادية الموضوعية والتي تنشأ عنها أزمات اقتصادية دورية وأزمات مالية واقتصادية عامة وشاملة على السعيد الدولي, كما في الأزمة الراهنة التي ستبقى فاعلة لفترة أخرى. ومع بروز إمكانيات أفضل للسيطرة عليها دولياً بحكم واقع العولمة الجارية, فأن عواقبها تقع على عاتق كادحي الدول الرأسمالية المتقدمة ومنتجي الثروات والفقراء فيها أولاً, وعلى عاتق شعوب الدول النامية والكادحين فيها على نحو أخص. وهو ما عاشت في أجوائه شعوب العالم خلال السنتين المنصرمتين ولا تزال لم تنته منه.
** إن العالم الرأسمالي الذي أجبر في سنوات الحرب الباردة على المساومة مع الطبقة العاملة والمثقفين ومع فئات التكنوقراط والتي تجلت في مكاسب جيدة تحققت لها في مجال تقليص ساعات وأيام العمل والأجور والضمان الصحي والاجتماعي وضمان الشيخوخة والعجز والعطل السنوية وتحسين ظروف العمل والسكن ومشاركة النقابات في الكثير من القضايا التي تمس العمل والعمال, فأن نهاية الحرب الباردة بين الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية وانهيار النظم السياسية في الدول الأخيرة, قد أنهى روح الاستعداد للمساومة لدى أصحاب رؤوس الأموال إزاء مطالب العمال والمنتجين الآخرين والمثقفين, وبدأت روح الجشع ورفض المساومة والإصرار على تحقيق أقصى الأرباح على حساب العمل الأجير. وهي سلبيات بدأت تبرز منذ العقد الأخير من القرن العشرين ولا تزال متواصلة في الواقع المعاش بشكل صارخ, كما سلبت الكثير من تلك المكاسب تدريجاً وعلى مراحل قصيرة خلال الفترة المذكورة, مما يجعل وضع المهمات الاجتماعية ضمن برامج حركة اليسار مهمة آنية وضرورية جداً في آن واحد.
** ويمكن تشخيص جملة من الظواهر السلبية المتفاقمة في هذه المرحلة من تطور المجتمع البشري, منها بشكل خاص انتشار الفساد المالي والإداري في هذا العصر وتنامي عصابات الجريمة المنظمة في مجال المتاجرة بالمخدرات وبالنساء وغسيل الأموال وبأعضاء جسم الإنسان وتهريب البشر, إضافة إلى تفاقم الهجرة البشرية بسبب الحروب المحلية أو الإقليمية. وتزداد نسبة الجماعات البشرية التي تصبح ضحية لكل من هذه الممارسات وغيرها المخالفة لحقوق الإنسان.
** كما تتعرض المرأة في الكثير من بلدان العالم إلى الظلم والاضطهاد ومصادرة الحقوق وانعدام المساواة بين النساء والرجال, إضافة إلى تعرض الملايين من الأطفال إلى المزيد من الظلم والاضطهاد وفقدان الحقوق والعمل في سن الطفولة والصبا والمعاناة من الجوع والحرمان والتعليم.
** وتسجل إشكاليات الهروب من الحروب الأهلية والصراعات القبلية والتغيرات المناخية وتلوث البيئة والتصحر والانهيارات والجفاف والشحة إلى حركة هجرة ولاجئين واسعتين جداً في ما بين المناطق والأقاليم المختلفة والتي تشكل عبئاً ثقيلاً على البشر وعلى المنظمات الدولية التي يفترض أن ترعى المهاجرين واللاجئين وغيرهم
** وإزاء كل هذه المشكلات كيف يمكن تنشيط المؤسسات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمحكمة الدولية في لاهاي ومحكمة حقوق الإنسان واليونسكو واليونسيف ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والكثير من المنظمات الإقليمية الأخرى لتلعب دورها الذي خبا لفترة غير قصيرة لصالح الدولة الأعظم, الولايات المتحدة الأمريكية, وعلى حساب دور ومكانة تلك المنظمات.
إن تشخيص هذه المشكلات على الصعيد العالمي من جهة, ومعرفة قدراتها في التأثير وتحريك الرأي العام العالمي والحكومات المختلفة بأساليب وأدوات نضالية سلمية من جهة أخرى, يساعدان الحركة اليسارية على صياغة المهمات الآنية على الصعيد العالمي لخوض النضال من أجل حلها لصالح الإنسان والتقدم الحضاري, إذ إن كل فقرة من الفقرات الواردة في أعلاه يفترض أن تصاغ في مهمة أو أكثر لتكون البوصلة والهدف اللذان تؤشران طريق النضال على الصعيد العالمي.
كما أن الربط العضوي في ما بين المشكلات الدولية والإقليمية والمشكلات المحلية سيسهم في وضع برنامج متكامل مرحلي لقوى اليسار بصورة مستقلة في كل بلد من البلدان بشكل ملموس ودقيق وقابل للتحقيق, إنه الضمانة لقوى حركة اليسار في الابتعاد عن الهروب إلى أمام أو النكوص إلى وراء.
إن لقاءات بين قوى اليسار في كل من القارات الخمس أو أقاليم فيها لتنشيط التبادل الفكري والتجربة المتراكمة والنقاش والتفاعل سيساعد على بلورة شعارات تعبر عن تلك المهمات على الصعد الإقليمية أيضاً, ومتابعة تنفيذها, وليس من أجل خلق وحدة شكلية في ما بينها, بل من أجل التنسيق والتنوير العام لمهمات النضال, في حين عليها ان تمارس مهماتها بصورة مستقلة مع ضمان تحقيق التضامن في ما بينها.
في الحلقة الثالثة سأحاول معالجة المشكلات التي تجابه قوى اليسار في منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظري الشخصية وكيف يمكن التنسيق في المهمات التي تواجهها الحركة.