الاشتراكية أو البربرية محمد الخضر


نايف سلوم
2004 / 8 / 27 - 12:58     

في رائعة غوته يقول مينفستو لفا وست : لو أنك فقط تحتقر العلم والعقل الذين هما أكبر قوة للبشر عندئذ امتلكك تماماً .

وقبله ردد الغزالي متهماً الفلسفة والعلوم العقلية :بأن الفلسفة هي أس السفه والانحلال، مادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة .

قادت البرجوازية نهضة العقل والتنوير مدشنة مشروعها الحداثي محطمةً المقدس المتعالي الذي استثمره النظام الإقطاعي الكنسي ليأبد سيطرته .

ولأن البرجوازية ونتيجة لتنامي قوة النقيض الطبقي وبحكم قوانين الصراع تحاول تأبيد سيطرتها وأن تصنع العالم على شاكلتها فكان لا بد من إنتاج مقدس آخر لكنه مقدس معكوس ظلامي عدمي وبالتالي أنتجت ما بعد حداثتها لتلغي مشروع العقل والتنوير وتنشر اللاعقلانية على كافة الأصعدة الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية. اللاعقل كمقدس ظلامي عدمي يعمّي على الحقائق ويحاول أن يحرف الصراع الحقيقي إلى صرا عات هامشية وغير منتجة .

تتردد الكثير من المصطلحات في إطار الحرب الكونية الدائمة ملبّسة الفهم على كثير من الحقائق .

كان الخطر الشيوعي الذي يحاول قتل الحرية والرفاه في دول المسكر الإمبريالي هو الشغل اليومي لمكنة الأعلام والثقافة الإمبريالية في المراكز .

ونفس هذا الخطر .أي الخطر الشيوعي الذي يعمم الإلحاد وينشر الإباحية وينزع الملكية ويشيع الأرض والنساء ،هو الهم الأعظم في المكنات الإعلامية (( الثقافية )) عبر كل المنابر الممكنة وخاصة في المساجد والمواسم الدينية في دول العالم الإسلامي .

ومكنة الاستغلال الإمبريالية ماضية في نهب العالم في المركز والأطراف ممولة سباق التسلح المجنون بأرقام فلكية تضخ في مكنة الصناعات العسكرية لتصبح قاطرة لبقية قطاعات الاقتصاد وبالتالي إطالة عمر الرأسمالية وإطالة عذابات البشرية .

بعد سقوط المنظومة الاشتراكية كان لا بد من أجندة إعلامية جديدة فصراع الخير والشر يجب أن يستمر في مكنة ما بعد الحداثة الإمبريالية فكانت مصطلحات: الدول المارقة ومحور الشر هذا بالنسبة للأطراف . وبالنسبة للمراكز كانت مصطلحات : الشيطان الأكبر ـ اليمين المسيحي ـ المؤامرة اليهودية . وخاصة في عالمنا العربي والعالم الإسلامي .هذا الخطاب المجوهر ما قبل الحداثي يعّمي على الحقائق التي يجب كشفها وكشف زيف هذه الشعارات في المركز والأطراف . وإعلاء لشأن العلم والعقل والفلسفة ولإنتاج مشروعنا الحداثي برافعته الحقيقية بفكر الطبقة العاملة السياسي عبر علم التاريخ بمفهومه المادي وبمنهجه الجدلي لنعرف ونوصف حالنا وأين نقف في هذا العالم ومن نواجه وبما ذا نواجه .

لقد انتهت المذبحة العالمية الأولى [الحرب العالمية الأولى ] بتحطم اقتصاد المهزومين والمنتصرين،وحدها الولايات المتحدة الأمريكية خرجت الرابح الأكبر لدخولها الحرب قرب نهايتها ولهجرة رأسمال أوروبي كثيف إليها وهجرة كفاءات علمية وتقنية كبيرة إليها هرباً من أتون المذبحة العالمية ولأن الحرب والتوسع هو من بنية الإمبريالية فإن الإعداد لجولة أخرى من المذابح قد بدء الإعداد له .

نعم لقد انحطت الرأسمالية وتستمر في انحطاطها الذي سيكون مليء بالعذابات والدماء ويظهر هذا الانحطاط بصعود الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا والكم الهائل من الرأسمال الموظف في إنتاج أدوات الموت وتوسع الاستعمار ليشمل كل العالم الطرفي .

لقد بدأت الصناعات العسكرية كقاطرة للاقتصاديات الرأسمالية المأزومة إلى جانب النهب الكبير المتحقق من إعادة استعمار العالم وإعادة اقتسامه ونهبه حتى العظم ،كل ذلك لم يخرج الإمبريالية من أزمتها ولم ينقضي زمن طويل على انتهاء الحرب الأولى حتى بدأت أزمة اقتصادية عاصفة تدوخ النظام الرأسمالي وتجعل الدولة قائدة للاقتصاد عبر عسكرته الكاملة كما في ايطاليا وألمانيا وعبر تدخل الدولة في ضخ كمية هائلة من السيولة في التوظيفات في البنية الأساسية وفي الصناعات العسكرية .

خرجت هذه الإمبرياليات من أزمة نهاية العشرينات تترنح وحدها الإمبريالية الأمريكية تنتعش وتضخ المزيد من رأس المال في صناعة عسكرية مجنونة لتلبي طلب الأسواق التي بدأت تعد العدة لجولة جديدة .

كانت المذبحة العالمية الثانية أشد ضراوة ودموية وخرجت منها الإمبريالية العالمية كلها(عدى الولايات المتحدة الأمريكية )مهزومة واقتصادها مدمر، ونصف القارة تسوده الاشتراكية ، وحركات التحرر في المستعمرات بدأت تخوض الحرب الحقيقية للاستقلال .

الرابح الأكبر من هذه المذبحة كانت الولايات المتحدة التي تضاعف إنتاجها الصناعي ثلاثة أضعاف واستحوذت على 40% من الثروة العالمية.هذه المعطيات نقلت الهيمنة من الإمبريالية البريطانية إلى الإمبريالية الأمريكية التي بدأت وعلى نطاق واسع وعالمي تحاول تأبيد هذه الهيمنة عبر مجموعة من الأنشطة والاتفاقيات الدولية المغلفة بشعارات إنسانية كاذبة: من مشروع مارشال في أوروبا إلى مارشال آخر في أقصى الشرق، لتعاود مكنة الرأسمالية المنهكة العمل من جديد في أوروبا الرأسمالية وفي اليابان شرقاً مشكلة قوس حماية للعالم الرأسمالي وحصار للمد الشيوعي المفترض.

لقد لعبت الاتفاقيات الدولية التي أنشأت بموجبها مجموعة من المنظمات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة دوراً كبيرا في فرض عملة رئيسية للتداول العالمي هي الدولار الذي أصبح بحد ذاته سلعة تنتج بكثافة ،ضاربة عرض الحائط بالمعادل الذهبي وأصبحت المنظمات المالية العالمية هي الضامن الوحيد لهذه السلعة التي تحولت إلى إله واحد لمكنة الاقتصاد العالمي وللتجارة العالمية يبشر رسله الكثر بقدسية هذا الإله وبقدرته غير النهائية على فتح جنان الأرض لكل الراغبين بالتعبد في محرابه الأخضر، رغم أن كل المعطيات المنشورة وغير المنشورة ، تبين تهالك هذه السلعة وعدم قدرتها على شيء وأنها أصبحت بنية وهمية حيث تشير أكثر التقديرات على أن كتلة الدولار الموجودة في التداول تساوي أو تزيد على خمسين ضعف الكتلة الواجب وجودها كمعادل موضوعي لحجم الناتج الإجمالي القومي الحقيقي للولايات المتحدة: فلماذا لم يسقط هذا الإله ؟!

لقد تحول من إله جنات خضراء إلى رب جنود مدججين بالسيوف الطويلة والعربات الثقيلة وبالطيور التي تقصف السجيل فارضة صورته ومحرابه على كل العمل الاقتصادي العالمي .

لنرسم حدود الصراع جيداً والذي تريده الإمبريالية لتحافظ على هيمنتها ومعدل ربحها العالي جداً مع أن قوانين الاقتصاد الرأسمالي تقول بميل معدل الربح للانخفاض .ولتحافظ على هذا الربح العالي لا بد لها من أن تؤمن الحرية الكاملة لرأس المال في الدخول والخروج وعدم إزعاجه وفتح كل الأسواق أمام كل المنتجات،لا بد من إلغاء دور الدولة التدخليّ في الأطراف وبالتالي إتباع سياسة الخصخصة الكاملة. وتحرير رأس المال من كل أشكال الضرائب المفروضة إن أمكن، مع تعزيز دور الدولة في المركز لتأمين الهيمنة سياسياً وعسكرياً ولتقديم الدعم الاقتصادي عبر التوظيفات المباشرة والمساعدات للشركات المتعثرة إن لزم الأمر، وتعزيز الطبيعة الطفيلية للإمبريالية عبر أرباحها الكبيرة المتحققة كريوع من عمليات المضاربة الكبيرة والخيالية في الأسواق العالمية، عبر احتكار صناعة المعلومات والتقنيات المتقدمة في دول المركز للمحافظة على التقسيم الدولي الإمبريالي للعمل، استمرار النهب العلني والمنظم للمواد الخام وللطبيعة وتدمير البيئة وتلويثها الشديد ، نهب الإمكانات العلمية المتحققة في الأطراف عبر الهجرة إلى المركز وإن الآلاف من الأخصائيين والعلماء الذين دفعت دول الأطراف دمها ثمناً لتعليمهم، تأخذهم المراكز لقمة سائغة وبدون أي جهد كأي مادة أولية لازمة لمكنتها الصناعية .

يد الدولة المركزية المدججة بالسلاح والقوة لتفرض فتح الأسواق في كل العالم أمام الرأسمال ولحماية حقوق الملكية والعلامات التجارية هذا الاحتكار الذي تدفع البشرية ثمناً باهظاً له خاصة في قطاع الأدوية والمواد الزراعية ، إنتاج المزيد من سلع الخدمات غير الضرورية بل المضرة في أغلب الأوقات /تجارة المخدرات، تجارة الجنس /

ملكية وسائل الإعلام الكبيرة والمؤثرة لتستطيع تسويق نفسها وثقافتها وبالتالي سلعها ضاربة عرض الحائط بكل ما هو جميل وخير وإنساني محولة الإنسان إلى وحش متفرد يستهلك ويستهلك حتى الفراغ والعدم .

نعم الآن تتحقق نبوءة لوكا ش العلمية : بأنه في بلدان الاقتصاد الإمبريالي التي تبنت ونشرت اللاعقلانية ستنجب فاشستي سيظهر هتلر بجانبه بمظهر عامل متدرب، هذه الإمبريالية الأمريكية رأس الإمبرياليات تنتج البربرية والدمار والفاشيين الجدد محاولةً الذهاب بالعالم بما فيه سكان الولايات المتحدة إلى الجحيم ومهما كان الثمن .

لقد سوقوا مقولة العالم كقرية صغيرة وهاهو يتحول إلى حفنة من القصور ومجموعة هائلة من بيوت الصفيح. قلة يقتلها البطر وتقتلها التخمة والملايين يقضون من الجوع

سوقوا المشاركة العالمية لكل الشعوب ونحن نعرف أن من لا يملك يفقد القدرة على التدخل بل لقد تحولت مجموعات واسعة في العالم قاطبة إلى مهمشين وغير فاعلين.مشكلين بيئة ممتازة لإشعال الصراعات الدامية الأثنية والدينية .

لكن ما لعمل لوقف زحف البربريين والفاشيين الجدد ودحرهم .

نعم إن حركات الاعتراض العالمية على الهيمنة مهمة وحتى تكون لهذه الحركات فاعلية لا بد من تجذ ير هذا النضال، لنردد مع ماركس : نحن لا نقول للعالم كف عن النضال فكل نضالك باطل، إنما نعطيه فقط الشعار الحقيقي للنضال/رسالة ماركس إلى روغة 1843 / نعم إن شعارنا هو إما الاشتراكية أو البربرية. لينتصر خيارنا لا بد من حرب مواقع طويلة وصعبة وعلى عدة مستويات ثقافية ـ اقتصادية ـ سياسية ـ وعسكرية إن لزم الأمر .

لا بد من إعادة الاعتبار للفكر الماركسي الذي يحاول الكثير من المرتدين رميه في الظل وقول كل ما يمكن من الباطل تجاهه .

لا بد من كشف زيف الشعارات المطلقة والتي تعتمد على الثنائيات نحن /هم وكشف زيف الخصوصية المزعومة وجوهرة التاريخ وجوهرة النصوص، ومن كشف أكاذيب الأصوليات الدينية وتبيان حقيقتها كوجه آخر للعولمة الإمبريالية وجزء من المشروع الرأسمالي العالمي .

لا بد من العمل الحثيث على مشروع للنهضة العربية والتحديث قوامها العلمانية والديمقراطية ،لا بد من إعادة الاعتبار للعقل ومواجهة قوى ما قبل الحداثة وقوى ما بعد الحداثة وكشف زيفها وظلاميتها المشتركة.

وضمن النضالات الاقتصادية لا بد من الرد الفكري على السلع التي يروج لها أبطال الإعلان المأجورين لفكرة السوق.

1 ـ الوقوف بحزم ضد الخصخصة ، مع عدم إهمال دور القطاع الخاص في العملية الإنتاجية .

2 ـ عدم الاعتماد على الزراعة والصناعة التصديرية وبالتالي نهب الأرض والماء والإنسان والمستقبل وارتهانهم للسوق العالمية .

3 ـ تقوية دور الدولة التدخليّ في الاقتصاد عبر التخطيط والبرمجة المتوسطة والطويلة الأجل من أجل تنمية متكاملة .

4 ـ عدم تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي خاصة في التعليم والصحة والمرافق العامة .

5 ـ العمل العربي المشترك على إنشاء أسواق مشتركة قدر المستطاع .

6 ـ وضع ضوابط صارمة للرأسمال الأجنبي المستثمر وأن يخدم الخطة الموضوعة من قبل الدولة .

7 ـ عدم تعويم العملة والحفاظ على سعر الصرف بيد الدولة حتى لا نكون عرضة لتدخلات المقامرين والمضاربين الدوليين وبالتالي دماراً اقتصادياً في أية لحظة وفي سياق الصراع السياسي الضاري الواجب خوضه ضد قوى العولمة عالمياً وقوى السوق محلياً . إضافة إلى ما سبق لا بد من العمل على :

1 ـ الديمقراطية السياسية وحرية الرأي وسيادة القانون .

2 ـ قانون أحزاب عصري وقانون انتخاب جديد .

3 ـ استمرار العمل على المشروع القومي العربي الديموقراطي بروافعه الحقيقية .

4 ـ إنشاء تحالف حقيقي لليسار الديمقراطي منه والديموقراطي الماركسي.

5 ـ التصدي الحازم للفكر الانعزالي الأثني والطائفي .

6 ـ متضمنة كل ما سبق لا بد من نشر ثقافة المقاومة في كل الأوجه الممكنة .

أخيراً : أن هذا الجبار المهيمن الذي يعاني من نسبة تضخم فلكية والذي يعاني أزمة نقص استهلاك مستفحلة ناتجة عن نقص مدا خيل العمل وازدياد الفقر والتهميش ليس قدراً ألّا يهزم بل، أن هزيمته هي ضرورة الحياة .