الطبقة العاملة والحزب والنقابات ( 1 - 2 )


بدر الدين شنن
2010 / 8 / 14 - 16:18     

ثمة حاجة في الوقت الراهن ، لإجراء مقاربة لسيرورة وواقع الحركة العمالية في سوريا ، تستدعيها متغيرات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية ، جرت معاكسة لمصالح الطبقة العاملة خلال العقود الصاخبة السيئة الماضية . كما تستدعيها المتغيرات الكبيرة ، التي طرأت على بنية هذه الحركة في القطاعين العام والخاص ، وعلى العلاقة الجدلية بين الطبقة العاملة والحزب والنقابات ، كما تستدعيها المبادرات الملحوظة لدى جيل جديد من المهتمين بالشأن العمالي والاجتماعي .. الطامحين إلى ا ستعادة دور الشيوعيين الغائب في نضالات الحركة العمالية المطلبية ، وا ستعادة دورهم التاريخي في إغناء نضالات هذه الحركة ضد إجراءات ، تجري في البلاد على قدم وساق ، في العملية الاجتماعية السياسية الاقتصادية ، المتمثلة بإجراءات الخصخصة المتعددة الأشكال والوسائل ، والانفتاح على الرأ سمال الأجنبي وشروطه المذلة الجشعة ، واقتصاد السوق الليبرالي ، المغطات بالخيانات الطبقية ، وبإجراءات القمع ، والتشريعات العمالية التعسفية المتوالية ، وتغييب حق الإضراب وحق التنظيم النقابي المستقل .

ومن أجل أن تكون هذه المقاربة ، أكثر احتواء للموضوع ، لابد من أن تنقسم إلى قسمين . الأول ، مرحلة ماقبل انقلاب 8 آذار 1963 ، والثاني ، مرحلة ما بعد الانقلاب . وحتى تكون هذه المقاربة أكثر موضوعية وأمانة .. لابد من شيء من التاريخ .. وكثير من النقد المبدئي . وفي هذا المقال سوف نبدأ بشيء من التاريخ ..

كان المشهد العمالي ، حتى نهاية القرن التاسع عشر ، يقتصر على العمال في الحرف اليدوية الحيوية ، في المدن السورية الكبيرة بعامة ، ولاسيما في مهن صناعة الزجاج ، والصابون ، والأحذية ، والحدادة ، والنجارة ، والنسيج اليدوي ، والبناء على اختلاف فروعه ومتمماته المتعددة . حيث كان عدد العمال في المشغل الواحد ، أو الورشة الواحدة ، لايتجاوز أصابع اليد الواحدة . وقليل جداً ما كان العدد في بعضها يبلغ العشرة عمال . والتمركز العددي المهني النوعي الرئيس ، كان يتمثل في حرفة النسيج اليدوي عامة والنسيج الحريري خاصة . إذ كانت تضم مجمعات الأنوال اليدوية المنشرة في عشرات " القيسريات " ألوف العمال في كل من دمشق وحلب وحمص . في مدينة حلب كان قيد العمل خمسة عشر ألف نول يدوي ، وكذلك العدد نفسه في دمشق ، وأقل قليلاً في حمص ، التي كانت منتجاتها تؤمن احتياجات السوق المحلية وفائضاً لابأس به للتصدير إلى الخارج .

وهذا الواقع الانتاجي الحرفي كان محكوماً بشرط الحكم العثماني المتخلف ، الذي كان يعوق تطوره ، بالقمع ، وإلغاء السياسة والأنشطة المدنية ، والضرائب الباهظة ، والسيطرة المركزية على السوق ، وسياسة جذب وتمركز الحرف الحيوية وصناعها في مركزه ا ستانبول بالدرجة الأولى ..
وبذا لم يكن للعمال آنئذ معرفة ، في مجتع شبه أمي ومقموع بالأطر النقابية أو بالأطر السياسية . بل كانت الأعراف المهنية الموروثة هي مرجعية الأحكام في المظالم ، التي تنشأ عن علاقات العمل ، فيما يتعلق بمدة العمل وبمستويات الأجور ، بين العمال والأجراء من جهة وبين المعلمين ( أصحاب العمل ) من جهة ثانية ، وكذلك الخلافات التي تنشأ بين " المعلمين " أنفسهم ، خلال المنافسة النوعية في الانتاج وفي التسويق لمنتجاتهم . حيث كان " شيخ الكار " أو شيخ الطائفة المهنية ، هو الحكم المسموعة .. والمطاعة .. كلمته في هذا الصدد .

ومن البديهي أن لايكون للعمال ، في ذلك الحين ، معرفة بالوعي الطبقي ، إلاّ بحدود الشعور بالفوارق المعيشية بين الفقراء والأغنياء ، وأن لايكون لديهم آفاق سياسية اجتماعية لتحررهم الاجتماعي السياسي .. بيد أنه ، على الرغم من هذا المشهد العمالي الحرفي ، المحكوم بالموروث العرفي الحرفي ، وبالقمع المهيمن على المجتمع كافة ، يمكن القول ، أنه منذ ذلك الحين بدأت تتبلور الملامح الجادة الأولى لتشكل الطبقة العاملة السورية .

مع أوئل القرن العشرين ، بعد التحرر من النير العثماني ، وسيطرة السلطات الفرنسية الاستعمارية على البلاد ، نشأ في خضم الصراع الوطني من أجل الاستقلال ، وعلى الرغم من تضييق سلطات الاحتلال على المنشآت الاقتصادية الوطنية ، نشأ مناخ سياسي اقتصادي جديد ، ساعد على إحداث تغييرهام في المشهد العمالي كماً ونوعاً . حيث برز عدد من الأنشطة الصناعية والاقتصادية المحلية والأجنبية . وبدأت تنتقل ورشات حرفية عديدة إلى مستوى المعمل أو الشركة . تمثل ذلك بانطلاق نحو مئتي شركة ومعمل ما بين 1929 - 1933 فقط في المجال الصناعي . وبدأت بعض التجمعات العمالية في المراكز الانتاجية تضم مئات أو آلاف العمال في صناعات وخدمات أساسية ، أهمها ، صناعة السكر ، والزيوت ، والنسيج الآلي المتنوع ، والسكك الحديدية ، والكهرباء والمياه والحافلات .

وقد أفضى هذا التغيير في المشهد السياسي والاقتصادي ، الذي تنامى بنشوء الأحزاب السياسية ، وانتشار السياسة الوطنية التحررية ، أفضى إلى نشوء التجمعات العمالية الكبيرة ، وإلى بدء تبلور الوعي النقابي .. والوعي الطبقي .

في أواسط القرن العشرين ، بعد الاستقلال ، مع تأسيس آلاف الشركات الجديدة ، التي عملت في المجالات الصناعية والخدمية والزراعية ، لاسيما في الصناعات الغذائية والزراعية ، وصناعة الجلود ، والغزل والنسيج ، والسكر ، والاسمنت ، والكبريت، والخشب المضغوط ، وفي النقل ، والتعهدات ، والمصارف ، توسع المشهد العمالي أفقياً ونوعياً ، وتعمق أكثر الوعي النقابي .. والوعي الطبقي .. والمفهوم الطبقي ..

وكان لهذا التطور الاجتماعي الاقتصادي منعكسه النقابي والسياسي . فظهر في توقيت متزامن لافت ، ظهر الحزب الشيوعي وأولى النقابات العمالية ( نقابة عمال الطباعة بدمشق ) عام 1924 ، ثم تلتها نقابة عمال التريكو عام 1925 . ثم توالى ، خلال سنوات قليلة جداً ، تأسيس النقابات في المهن المختلفة ، وصولاً إلى تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال عام 1938 . وقد لعبت النقابات العمالية في عهد الاحتلال وبعد الاستقلال ، لعبت دوراً ناشطاً وفعالاً في القضية الوطنية ، وفي الدفاع عن الحقوق العمالية . وأصبحت ، حتى انقلاب 8 آذار 1963 ، قوة اجتماعية لها تأثيرها الهام على مجمل العملية الاجتماعية الاقتصادية السياسية .

ويعود هذا الدور النقابي المتميز في تلك المرحلة ، إلى أن الحزب الشيوعي ، قد وضع الحركة النقابية في مركز اهتمامه ، ورفدها بخير ملاكاته الحزبية ، وتبنى في سياساته الرئيسية القضايا العمالية المطلبية والحريات النقابية ، في مواجهة تعسف أصحاب العمل ، وقمع السلطة ، وتخلف التشريعات العمالية ، وبخاصة من أجل 8 ساعات عمل ، وتعويض إصابات العمل ، وتعويض التسريح ، ومن ثم منع التسريح التعسفي ، وحماية القطاع العام وكافة مؤسسات الدولة الخدمية ، ومن أجل حماية المتغيرات الاجتماعية ، التي طرأت على المجتمع ، نتيجة إجراءات الاصلاح الزراعي ، وتأميم المعامل الكبرى ، وبناء البنى التحتية ، ودفع البلاد نحو السمت الاشتراكي .

ومع تنامي وعي الطبقة العاملة واتساع قاعدتها ، واكتسابها أهمية متزايدة في البنية الاجتماعية الاقتصادية ، ومع بدء انتشار الوعي النقابي والنضال المطلبي ، برزت الحاجة إلى فهم أرقى أكثر .. وعملي أكثر .. للعلاقة المتبادلة بين الطبقة والحزب والنقابات .

كانت نظرة الحزب لهذه العلاقة مشحونة بمقولات مثل ، " أن الحزب حامل الوعي الاشتراكي للطبقة العاملة " و " أن الحزب هو حزب الطبقة العاملة .. حزب كل الذين يعملون بأيديهم وعقولهم " و " أن الحزب هو هيئة أركان الطبقة العاملة في نضالها من أجل تحررها من الاستغلال الطبقي .. من أجل قيادة ثورتها الاشتراكية " ما أدى بديهياً ، إلى أن تكون نظرة الحزب إلى الحركة العمالية والنقابات على أنها حقل تابع لأنشطة الحزب ، ومجال لتوسعه ولنشر أفكاره وسياساته ، فكان الهدف الحزبي في النقابات المرتبط بالسياسة العامة واليومية للحزب قبل الهدف النقابي المرتبط عضوياً بالمصالح العمالية المباشرة ، كما أدى إلى إمحاء الحدود بين الحزب والنقابة في عقلية الشيوعيين النقابيين ، وإلى ربط دينامية الحركة العمالية بدينامية الحزب . وكان هناك لدى القيادة أحياناً خوف من نموالزعامة النقابية في الحزب .

على أن النتائج الأخطر لممارسة النظرة التاريخية الحزبية للطبقة العاملة والنقابات ، هي عندما يقدم الحزب على ممارسة سياسية في مسائل عامة كبرى ، تتجاوز ما هو الطبقي المباشر إلى ما يمس قناعات جماهير العمال القومية أو الأيديولوجية ، فحينها يحصل الشرخ بين الشيوعيين النقابيين والطبقة العاملة . وهذا ما حدث إبان إعلان تأييد الحزب لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود ، وإبان عدم إعلانه موافقته على قيام الوحدة بين سوريا ومصر ، وإبان تأييده لحكومة الانفصال التي ألغت الاصلاح الزراعي وقرارات التأميم الصادرة في عهد الوحدة السورية المصرية . وبذلك فقد الحزب مواقعه النقابية السابقة التي كسبها مناضلوه النقابيون بشجاعتهم وتضحياتهم ، وفقد القدرة على تجسيد مقولاته النظرية .. وخاصة نقل الوعي الاشتراكي إلى الطبقة العاملة .

ما يمكن ا ستنتاجه من تجربة جدلية " الطبقة العاملة - الحزب - النقابات " الماضية ، هو أن الحركة العمالية لاتزدهر ولاتتطور ولاتحقق أهدافها النضالية ، إذاهيمن الحزب على حراكها ومضامين أهدافها ، وحولها إلى ملحق تابع لآلياته .. وإلى ديكور في علاقاته العامة والسياسية . لقد كان لسيلسة نقابية مستقلة عن سلطة الحزب البيوقراطية وعلى رأ سها صنمية عبادة الفرد ، وعن عقلية الإستعراض ، كان لها أن تحافظ على دور مميز قوي دائم للحركة العمالية في المجتمع ، وأن تحافظ بالتالي على مواقع مرنة دائمة للحزب في الحركة ، وأن تحافظ بفاعلية أكثر على حقوق الطبقة العاملة المكتسبة ..

ما بعد انقلاب 8 آذار 1963 ، بدأت مرحلة جديدة في حياة الطبقة العاملة .. وفي حياة الحركة العمالية .. وفي مفهوم جدلية " الطبقة العاملة - الحزب - النقابات " هي المرحلة الأسوأ مما كان سابقاً ، وهي تحتاج إلى مقاربة جادة .. لمصلحة عودة الحزب .. حزب الطبقة العاملة حقاً .. وعودة الحركة العمالية المناضلة .. لمصلحة حماية وتحرير الطبقة العاملة من الاستغلال ، الذي يزداد سوءاً وتدهوراً ، مع إجراءات اقتصاد السوق الليبرالي وتداعياته الاجتماعية المؤلمة .