قضية وحدة الماركسية في الصراع الفكري المعاصر منهجية النشاط العملي


الحزب الشيوعي العراقي
2004 / 8 / 22 - 11:33     

أعداد: قسم الدراسات - طريق الشعب

في عبارة بليغة الدلالة أشار ماركس الى ما يلي: " لم يفعل الفلاسفة غير أن يفسروا العالم بأشكال مختلفة، بيد أن القضية تتلخص بضرورة تغييره " (ماركس، أنجلز. المؤلفات، المجلد 3، ص 4). وبطبيعة الحال، قبل تغيير العالم يجب تفسيره. ويقدم عمل ماركس الأهم " الرأسمال " البراهين المعللة والمقنعة على أن الممارسة غير القائمة على الاعتراف بوجود العالم الموضوعي ومعرفة قوانينه كثيرا ما تصبح عديمة المعنى ومغامرة ومضرة.

إن عبارة ماركس المشار إليها أعلاه لا تعلن البتة إلغاء النظرية عن طريق تذويبها في الممارسة، ذلك إن النشاط الثوري التحويلي غير ممكن بدون النظرية العلمية. فمن المستحيل وضع العلم في طرف وبرنامج الأعمال الذي يعبىء الجماهير في الطرف الثاني.

فمن اجل التوجه في العالم المعاصر، في تشابك عملياته وتنوعها الهائل والاضطلاع بالدور الملائم في تنظيم وقيادة نضال الجماهير في سبيل السلام والتقدم والحرية والعدالة وغيرها، من الهام اليوم، تعلّم الجمع في وحدة متكاملة بين العلم والخبرة الثورية. وليست النظرية ضرورية من اجل التوجه الاجتماعي المستقبلي فحسب، بل ومن أجل كل خطوة نخطوها الى الأمام أيضا. وما من مسألة عملية كبيرة الى حد ما يمكن حلها حلا صحيحا بدون استيعابها نظريا.

كان ماركس وأنجلز يحلاّن مسألة الترابط بين النظرية والممارسة ليس، إذا جاز القول، حلا فلسفيا فحسب، بل وفي الواقع العملي أيضا، ذلك أن التاريخ وفّر لهما إمكانية الشروع في تطبيق افكارهما، ولبيّا هذا الواجب عن طيب خاطر. كما أن لينين لم يُقيد كذلك نفسه بشيء واحد: أما النظرية وأما الممارسة. وأصبح كتابه " المادية ومذهب النقد التجريبي " منبرا ليس للفكر الفلسفي فحسب، بل وللفكر الحزبي السياسي أيضا.

إن الذود عن أهمية العمل النظري لا يعني إطلاقا انسلاخا للنظرية عن الممارسة من اجل " نقاوة " النظرية ذاتها. بل على العكس من المهم والضروي الربط الوثيق بين النظرية والممارسة، ذلك أن النضال من اجل الماركسية، في حال انسلاخه عن الممارسة والحياة الواقعية، يؤدي الى الجمود العقائدي والانعزالية والابتعاد عن مهام العصر الملحة وقضايا الناس الأساسية. وحسب التعبير المجازي، فإن الجمود العقائدي عبارة عن استخدام أعمال الكلاسيكيين؟ العظام كمسطرة لتوبيخ التلاميذ في المدارس القديمة، ولا يمت بصلة الى السعي الحقيقي الى صيانة وحدة الماركسية وجوهرها.

ومقابل ذلك من الهام تجنب " البراغماتية المجردة "إذ أن إخضاع النظرية لمهام الممارسة الآنية بلا قيد أو شرط يحط من أهمية الأولى(النظرية) ويجعلها خادمة للثانية(البراغماتية)، ولا يسمح باعتماد النظرية كدليل في الخطوط الرئيسية العامة للحركة. ويصادف أن يلتقي المرء أحيانا بمناضلين مخلصين للقضية ينكبون على النشاط العملي ويبتعدون كلية عن العمل النظري، وإدراك الممارسة الفلسفي العقائدي وينطوون على النزعة الاقتصادوية الضيقة ويولعون بالمناورة السياسية، ويقعون، في نهاية المطاف، في أسر المذاهب النظرية البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة.


نظرية مفتوحة


تدل الخبرة التاريخية على ضرورة الصلات الوثيقة المتبادلة بين النظرية الماركسية والممارسة، بين منهجية المعرفة والنشاط السياسي.

تعتبر الماركسية نظرية مفتوحة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وليس ثمة أية مناطق أو قضايا "محرمة "عليها لا يمكن تناولها وتحليلها وإنتاج معرفة معللّة عنها. وتفترض احتمال اكتشاف ظاهرات جديدة مبدئيا من حيث طبيعتها وحتى في ميادين من الواقع تتطلب تناولات أصيلة وفرضيات جريئة. وطرح النصف الثاني من القرن العشرين قضايا لم يتم ولم يكن من الممكن أن يتنبأ بظهورها كلاسيكيو الماركسية. على سبيل المثال، في علم الطبيعة: التغلغل في العالم الصغير والعالم الكبير وفي بنية المادة الحية وأسرار الورائة، في التقنية: تطور الثورة العلمية التقنية وقضايا " العقل الجماعي " وغزو الفضاء الخارجي، في مجال الحياة الاجتماعية: " نشوء العالم الثالث " ونهوض الحركات الديمقراطية الجماهيرية، الخ.

وفي عداد القضايا المعاصرة للوجود الاجتماعي تتقدم الى المقام الأول القضايا العالمية. وفي هذا الصدد تنطرح أسئلة من قبيل: هل تحتفظ الماركسية باهميتها النظرية والمنهجية أمام هذه القضايا التي لا تندرج أحيانا، في إطار المقولات التقليدية للديالكتيك والمادية التاريخية، والاقتصاد السياسي، ونظرية الاشتراكية العلمية؟

إن الماركسية تفترض شرعية استكمال مضمونها، ليس بالمعطيات الفعلية والمعلومات فحسب، بل وإغنائها بالأفكار والمذاهب والقضايا وأساليب التحليل وتركيب المعارف. غير أن هذا الاستكمال لا يمكن أن يكون ميكانيكياً، إذ يجب إدراك مضمون الأساليب والمبادئ المدخلة فيها على أساس النظرية.


النقد والمعرفة


هناك من الايديولوجين والمنظرين من لا يعتبر في الماركسية شيئا مقبولا سوى الوظيفة النقدية، ويعتبرون الوظيفة الايجابية فيها زائدة وجامدة عقائديا. وتظهر أفكار ماركس في هذا التأويل على أنها مجرد نقد للمجتمع البرجوازي من موقع الطبقة العاملة نقدا منظماً. ويزعم هؤلاء أن أتباع ماركس إذ انتقلوا الى التركيز على صياغة العقيدة والايدولوجيا " نسوا وظيفة الماركسية الرئيسية هذه.

هذا، مع العلم بأن التحليل النظري الماركسي للواقع يفترض الكشف عن التناقضات في أي نظام متكامل، أو أي عملية وجوانبها المتضادة. وهنا يكمن جوهر المذهب النقدي في الماركسية. وان الأساس الايجابي فيه يرتبط ارتباطا لا ينفصم بالنقد والنفي. إن جوهر التحليل النظري الماركسي، يكمن قبل كل شيء، في تبيان التناقض الموضوعي الذي يشكل نواة هذه العملية الاجتماعية أو تلك، بغض النظر عن كونها " سيئة " أو " طيبة " من وجهة نظر هذه الطبقة أو تلك، هذا الفرد أو ذاك.


الديالكتيك والمادية


إن صيانة وحدة الماركسية العقائدية والمنهجية، كشرط لتطبيقها الناجح في الممارسة، تصبح مهمة متزايدة الحيوية تواجه الشيوعيين في سياق الصراع الإيديولوجي المعاصر.

وتشير التجربة الى نشاط محاولات خصوم الماركسية، الرامية الى شق وحدتها ومواجهة المادية بالديالكتيك، الاقتصاد السياسي بالفلسفة، النظرية الاجتماعية السياسية بالاقتصاد السياسي، الايدولوجيا بالنظرية، علم الأخلاق بالايديولوجيا......الخ. ومما له دلالته أن الأشكال المتنوعة من تفتيت الماركسية تبتدئ أو تنتهي عند خط انفصال واحد: وضع نظريتها ومنهجها على طرفي نقيض. إن المهمة تتلخص، قبل كل شيء، في ضرورة تبيّان الجذور النظرية لهذه المساعي الرامية الى تقطيع أوصال الماركسية والهدف الإيديولوجي لهذه المساعي.

وتتلخص الصفة المميزة للماركسية في الترابط الوثيق بين النظرية والمنهج. ويمكن اعتبار النظرية، بدورها، نقطة ارتكاز وأساسا ونتيجة لفعل المنهج. وتفترض وحدة النظرية والمنهج درجة عالية من التناسب بينهما تكفي، من جهة، لاعتبار الأسلوب معللا موضوعيا ومصاغ نظريا، ومن جهة أخرى لاستخدام المعرفة النظرية، عن ثقة، في عملية استقصاء الواقع وكذلك في الممارسة.

إن التناسب بين النظرية والمنهج في الماركسية ليس التناسب المطلق ولا يعني تشابها كاملا بينهما ولا اتفاقا بسيطا. إن هذا التناسب متناقض مثل كل وحدة ديالكتيكية، ولا يتجلى منهج الماركسية، مثلا، إلا في حركة المعرفة والفعل العملي ويعتبر، بالتالي، جانبا نشيطا وديناميا من الماركسية عموما. وان مجال استعمال المنهج أوسع بكثير من مجال موضوع النظرية الماركسية ذاتها.

خلاصة القول، يتلخص التناقض الفعلي بين نظرية الماركسية ومنهجها في عدم التطابق (النسبي، الجزئي) بين المنطق النظري ووسائل المعرفة، نمط الأعمال والأهداف، الجانب الأكثر تحركا ودينامية والجانب غير المتغير نسبيا في الماركسية.

إن التناقض الديالكتيكي بين النظرية والمنهج يحل باستمرار في مجرى المعرفة العلمية والممارسة. وان استخدام المنهج يبين درجة صحة المعرفة المتوفرة ويتطلب في حالة نقصها تطورا وتحسينا للنظرية. وان تطور هذه الأخيرة يوسع، بدوره، إمكانيات المنهج ويجعله أكثر مرونة وتنوعا وفاعلية. وان حل التناقض بين النظرية والمنهج يعد واحداً من أهم الحوافز في المعرفة. وحيثما تنفصم وحدتهما المتناقضة، تبهت كذلك الماركسية وتتحول إلى عقيدة جامدة، أي تفقد مغزاها الحقيقي.

وبغض النظر عما يطرحه بعض خصوم الماركسية بشأن وجود تناقض بين الماركسية ومنهجها من خلال وضع الديالكتيك والمادية على طرفي نقيض، فأنه في الحقيقة لا توجد أية مبررات لمثل هذا الطرح. فأولا إن المادية شأن الديالكتيك بالضبط، هي وحدة النظرية والمنهج. ثانيا، إن المادية والديالكتيك هما جانبان يتخلل احدهما الآخر في عقيدة فلسفية متكاملة. ذلك إن الديالكتيك المنسلخ عن أساسه المادي يؤدي الى النزعة الذاتية والتعسف في المعرفة والممارسة على حد سواء. كما أن التأويل الجامد عقائديا لمقولات المادية التاريخية لا يقل خطرا فهو يؤدي الى تفسير الظواهر الاجتماعية بصورة ذاتية. وقد كتب لينين، منبهاً الى خطر الجمود العقائدي قائلاً: " “يترتب على الماركسي أن يحسب الحساب للواقع الحي، لوقائع الحياة الدقيقة لا أن يتشبث بنظرية الأمس، التي هي، ككل نظرية، لا تفعل، في أحسن الأحوال، غير أن ترسم الجوهري، العام، غير أن تقترب من شمول تعقد الحياة” "(لينين. المختارات في 10 مجلدات، المجلد 6، ص 348. دار التقدم موسكو، باللغة العربية).