هل لا تزال الماركسية ضرورية؟


عبد الحسين شعبان
2010 / 7 / 28 - 12:39     

ثلاث مفاجآت لفتت انتباهي في الأسابيع القليلة الماضية. المفاجأة الأولى هي صدور كتاب عن مركز «الأهرام» بالقاهرة عن «مأزق الحركة الشيوعية المصرية» وهو من تأليف طلعت رميح وقدّم له د. وحيد عبدالمجيد، وأهمية الكتاب تأتي من تجربة كاتبه الذي عمل في صفوف الحركة الشيوعية ثم قام بنقدها من داخلها ولكن هذه المرّة من منظار إسلامي، ولكن مقدّم الكتاب يجد أن الإنسانية ستظل بحاجة إلى الماركسية، ليس فقط باعتبارها منهجاً علمياً، ولكن لأن هذا المنهج هو دليل عمل ومرشد إلى مستقبل أفضل.
المفاجأة الثانية هي أن الاهتمام بالماركسية لم يعد محصوراً على الماركسيين أو «المتمركسين» بألوانهم المختلفة، فقد دفعت الأزمة الرأسمالية العالمية، بشقيها الاقتصادي والمالي جامعات ومراكز أبحاث ومختصين إلى دراسة الظاهرة الجديدة بالاستفادة من المنهج الجدلي- الماركسي. وقد كان اجتماع قمة الدول الثمانية (الكبار) وبعدها اجتماع قمة الدول العشرين المنعقد في تورنتو (كندا) في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي، قد توقف عند بعض الإجراءات لمعالجة تأثيرات الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة، سواءً بتعزيز دور الدولة، ومساعدة بعض المصارف والشركات، والطلب منها التريّث إزاء مسألة الإقراض وزيادة الرقابة والشفافية وغيرها، لكن الأزمة حتى الآن ما تزال مستفحلة ومتفاقمة!
العودة إلى الماركسية لا تعني العودة إلى ماركس رغم أن طيفه حسب جاك دريدا يظلّ مخيماً، لكنها تعني العودة إلى منهجه لاستخدامه في تحليل الظواهر الجديدة، وبخاصة في ظل علوم القرن الحادي والعشرين وليس علوم القرن التاسع عشر، التي استفاد ماركس منها ووظّفها على نحو متميز، فالماركسية بقراءاتها التأويلية في عهد العولمة والحداثة أو ما بعدها، هي غيرها عمّا قبلها، وماركسية القرن التاسع عشر تختلف عن الماركسية المطبقة في الأنظمة الاشتراكية في القرن العشرين، وهذه اختلفت عنها قبل وبعد انهيار جدار برلين العام 1989، الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار.
ويمكن القول إن ماركسية ماركس كانت بداية «للتمركس» وليس نهاية له، فالماركسية باعتبارها علم الرأسمالية، ظلّت منهجاً مفتوحاً لاسيَّما قراءته الجدلية لقانون تطور التاريخ الإنساني، فضلاً عن اكتشاف قانون فائض القيمة، باعتباره ملازماً للاستغلال، خصوصاً في ظل الرأسمالية، مهما تغيّر شكلها أو تبدّل اسمها، لأن جوهرها في نهاية المطاف، ظلّ واحداً، وهو أمر موضوعي ملازم لها.
الماركسية الوضعية النقدية هي إطار مفتوح ومتخالق لما بعد ماركس وطبقاً للمنهج الجدلي، فهي لم تكن ترى ماركس كلياً في عمله النقدي، بقدر ما كان نقدياً في علمه الكلي، أما مرحلة ما بعد ماركس، أي الماركسية دون ماركس، فنموذجها الأول الذي سقط هو الاشتراكية المطبقة، أما الماركسية المستقبلية، التي تأخذ منهج ماركس الجدلي بقراءات تأويلية للحداثة وما بعدها في عصر العولمة، فهي ما تزال حيوية في تحليلها وتفسيرها ونقدها للنظام الرأسمالي.
أما بخصوص علم المستقبل فهناك جزء مهم من الماركسية لا يزال تخيّلياً أو افتراضياً، وبحاجة إلى فحص وتدقيق ومراجعة مستمرة من خلال قوانين وأدوات وأساليب وتطبيقات، تتعلق بالانتقال إلى مرحلة إنسانية جديدة، ولكنها قد تطول وتأخذ أشكالاً مختلفة.
المفاجأة الثالثة: إن بعض الإسلاميين بدؤوا يهتمون بماركس، وقد لمست ذلك من خلال مداخلات عميقة ومنفتحة لعدد منهم خلال حلقة دراسية لمناقشة كتابي «تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف» الذي تضمن قراءات ارتجاعية في ضوء النقد الذاتي لتجارب تاريخية، وذلك في منتدى الجاحظ في تونس الذي يرأسه المفكر الإسلامي صلاح الدين الجورشي.
وكان أحد المتدخلين قد سألني إذا كانت الاشتراكية قد تهاوت في عقر دارها فما معنى الحديث عن راهنيتها وحيويتها، وماركس نفسه كان قد قال إنه ليس ماركسياً؟
يحلو للبعض تفسير كل نقد لماركس أو بعض جوانب من الماركسية كأنه ارتداد عن الماركسية أو براء منها أو التخلي عن منهجها، لاسيَّما وقد استدار كثيرون بعد انهيار التجربة الاشتراكية العالمية نحو الضفة الأخرى بعيداً عن محتوى ومضمون الماركسية تحت زعم الأمر الواقع وبحجة التغيير والتجديد، والبعض الآخر تمسك بقشور الماركسية وتطبيقاتها المشوّهة، واعتبر أي حديث عن المراجعة والتطوير سيعني تدنيسها، وأن أي نقد لماركس أو للماركسية السائدة في تطبيقاتها، سيخدم العدو الطبقي ويصّب الماء في طاحونته، حتى وإن حمل نوايا طيبة.
إن قراءة النص الماركسي تأويلياً والاستفادة من المنهج والبحث عن تعاليم تصلح لعهدنا، بعد أن كانت تعاليم ماركس تصلح لعهده، سيعني قراءة جديدة وحيوية وراهنية للماركسية دون ماركس، الذي لم يكن سوى حلقة من حلقاتها، لاسيَّما وهي ليست كاملة أو تمامية، وإنما مفتوحة في إطار الوضعية النقدية.
ولعل قصة قول ماركس إنني لست ماركسياً، تعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر وقبل وفاته بفترة قصيرة (1883) حين برز خلاف بينه وبين اثنين من مؤسسي الحركة الاشتراكية العالمية في فرنسا وهما جول غيد وبول لافارغ (زوج إحدى بنات ماركس) وبخاصة حول برنامج الحزب الجديد، لاسيَّما في قسمه الاقتصادي، وكان غول غيد يعتقد أن الثورة العمّالية مسألة مطروحة في وقت قريب وحتى مرئي، في حين أن ماركس كان قد قرأ المشهد بصورة مختلفة، خصوصاً بعد فشل كمونة باريس 1871، وهو ما دفعه لاتهامهما «بالجملة الثورية» ومحاولة حرق المراحل والاستخفاف بالنضالات العمالية التي ينبغي تعزيزها للحصول على بعض المكتسبات حتى في ظل النظام الرأسمالي.
وكان انجلز هو الذي نقل عن ماركس عبارته الشهيرة التي قال فيها تعليقاً على برنامج غيد ولافارغ وتطبيقاته: إذا كانت هذه هي الماركسية، فمن المؤكد أنني، أنا، لست ماركسياً. وكانت تلك المداخلة الساخرة لمؤسس الماركسية والمدرسة الاشتراكية تنبع من كونها تنطلق من عنوانين أساسيين:
العنوان الأول: إن تراث ماركس ونصوصه ليست كاملة أو منتهية، كما أنها لا تقدّم وصفة جاهزة قابلة للتطبيق لكل زمان ومكان، وإن التراث الفكري قابل للنقد، ونصوصه ليست معصومة أو مقدسة، قائمة على الإيمانية والتسليم العقدي، بقدر ما هناك قوانين عامة واستنتاجات خاصة بعد دراسة الواقع، الذي بطبيعته نقيض القراءة الجاهزة والمصنوعة التي تقدم الإرادة الذاتية والرغبة الخاصة عليه.
وبقدر ما كانت الماركسية في عهد ماركس تعي أهمية التراكم لإنجازات مباشرة وحتى محدودة، فإنها تدرك أن علم التنبؤ بكيفية إنجاز مهمة التحوّل وآلياته العملية أمر صعب، رغم ما تؤشر إليه القوانين العامة والاستخلاصات التي يمكن الوصول إليها عبر ذلك.
وهكذا كانت كتب واستنتاجات ماركس وانجلز مساهمات غنيّة للفكر الإنساني والتراث التقدمي والثوري العالمي، وهذا هو العنوان الثاني.
لعل الماركسية هي مجموعة قوانين وأفكار مفتوحة في إطار الوضعية النقدية، قابلة للإضافة والحذف والتطوير والإغناء، من خلال جهد معرفي تحليلي متواصل للواقع، خصوصاً إذا ما أخذت الاكتشافات الحديثة بنظر الاعتبار، وإذا كانت القوانين العامة صحيحة، فذلك لأن النظام السائد ما زال رأسمالياً بامتياز ومهيمناً ومستغلاً للعالم أجمع، ولذلك تبقى الإنسانية بحاجة إلى الماركسية وهو عنوان عرض كتاب «مأزق الحركة الشيوعية المصرية» كما جاء في صحيفة الشرق الأوسط!