القضية الوطنية الفلسطينية والاشتراكية


اسماء اغبارية زحالقة
2010 / 7 / 6 - 19:56     

ينعقد مؤتمرنا هذا في ظل ازمة سياسية واقتصادية كونية خطيرة جدا، تلقي بظلال ثقيلة على الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني. تحولات خطيرة أوصلت القضية الفلسطينية اليوم الى أحلك مراحلها – المفاوضات انتهت بالانتفاضة الثانية، اقامة الجدار الفاصل، إضعاف السلطة الفلسطينية وطريق مسدود سياسي؛ اما المقاومة المسلحة فانتهت بحرب مدمرة وحصار متواصل على غزة، وانشقاق داخلي دموي بين فتح وحماس، وانقسام خطير في العالم العربي، يُعجز الفلسطينيين والعرب عن مواجهة إحدى أكثر الحكومات الاسرائيلية تطرفًا وتعنتًا.

في هذه الوثيقة نسعى لتوضيح موقفنا من هذا الانقسام الخطير، وما البديل الذي نقترحه نحن لحل المسألة الوطنية؟ من البداية نوضح اننا لا نتحدث عن مجرد حزب يساري يدعم عن بُعد حق الفلسطينيين بتقرير المصير، بل عن حزب ثوري له جذور في حركة التحرر الوطني، انضم اليها بوصفها طليعة الحركات الثورية، وضحّى من أجلها. من هنا، لم يكن من المفهوم ضمنا، ولا من السهل، خروج حزب دعم ضد كافة التيارات في الحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها القومية، اليسارية والاسلامية، وذلك برفضه الاطار العام للمفاوضات التي قادت لاتفاقات اوسلو ورفضه ايضا نهج المقاومة المسلحة.

من أين استمد الحزب القوة للصمود على موقفه؟ من التحليل. في المؤتمر الرابع للحزب حددنا موقفنا المبدئي من القضية الفلسطينية في ظل العولمة (1999)، وذلك في وثيقة بعنوان "القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي – رؤية جديدة في عصر العولمة" (دار الشرارة للنشر، 1999). وقد بيّنا هناك ان اوسلو هو تعبير عن انقلاب التيار الوطني الفلسطيني على برنامجه. تخلي اليسار الفلسطيني عن برنامجه، دفعنا الى تحديد أسباب هذا التحول في سير الحركة الوطنية، وصياغة موقفنا من جديد بصفتنا حزب ثوري يبحث عن حليف ثوري لتحقيق برنامجه وهو التغيير الاجتماعي والطبقي الجذري.

استنتاجنا الرئيسي كان انه في اطار النظام الرأسمالي العالمي لا يمكن حل القضية الوطنية حلا عادلا على اساس دولتين لشعبين، وذلك بسبب موازين القوى المختلة لصالح اسرائيل. من هنا، فالحل يتطلب تغييرا في الاطار العام، أي في موازين القوى العالمية. وهنا بالضبط كان موضع الخلاف بيننا وبين سائر القوى اليسارية التي تنازلت عن امكانية التغيير الثوري اعتقادا منها بان النظام القائم غير قابل للتغيير وانه لا مفر من التحرك في اطاره. حزب "دعم" أصر على ان النظام الرأسمالي، ككل ظاهرة أخرى، هو أمر قابل للتغيير. وأشرنا في الباب الثاني من الوثيقة الى الأزمات البنيوية لهذا النظام، وقلنا ان انفراده بالسيطرة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيقود لمزيد من الازمات الاقتصادية والحروب وسيفتح المجال مجددا للبدائل.

كيف أثّر تبني حزب بدعم لوثيقة المؤتمر الرابع عام 1999 على نشاطنا اليومي وموقفنا من كل هذه الاحداث؟ وما العلاقة بين الموقف النظري الاساسي الذي اتخذناه قبل عشر سنوات وبين موقفنا اليوم؟ لا شك ان هذا الموقف أثّر تلقائيا على برنامجنا ونشاطنا، وكان المؤتمر نقطة فاصلة في حياة الحزب الذي تحول من الموقف "القومي" الى الموقف "الأممي"، سعيا لبناء قيادة وطنية بديلة على اساس طبقي. وفقط للمقارنة نذكر، انه في حين تزداد مصداقيتنا اليوم بعد عشر سنوات، كانت النتيجة السياسية للتحليل الذي اتّبعه اليسار الفلسطيني أن وجد نفسه في نهاية المطاف شريكا في حكومة سلام فياض.

طريق مسدود

الحال اليوم ان الشعب الفلسطيني يذوق الأمرّين بسبب سياسة الحواجز والجدران الفاصلة، الحروب او الهجمات المتوالية، الفقر والبطالة المزمنة، ولا يجد قوة لانتفاضة ثالثة حتى بعد ان دفن مئات الاطفال في حرب غزة الاخيرة. والأدهى والأمرّ ان الشعب الفلسطيني يقف عاجزا ويائسا ازاء فشل برنامج المفاوضات وبرنامج المقاومة المسلحة على حد سواء في مواجهة الوضع، اذا لم نقل في إنهاء الاحتلال. فشل الخيارين صار حقيقة واقعة تعترف بها عمليا كافة القوى السياسية. حركة فتح اعترفت بفشل الخيارين في مؤتمرها السادس، كما أعلنت القوى السياسية المركزية، بما فيها حماس، عن وقف العمل العسكري بعد الحرب على غزة.

المفاوضات العبثية التي تديرها السلطة الفلسطينية منذ اكثر من 17 عاما، لا تنجح في الخروج من الجمود، وهي تلعب ضمن موازين القوى القائمة والمنحازة بشكل سافر لاسرائيل. على مدار هذه الفترة، كان على القيادة الفلسطينية القبول باتفاقات افرغت الدولة الفلسطينية من أي مضمون وسيادة. وكان اتفاق اوسلو عبارة عن نظام سياسي اقتصادي متكامل جاء لخدمة اسرائيل، الامر الذي خلق عدم ثقة كبيرا وكراهية لاسرائيل، وأفقد السلطة ثقة الشعب بها وبطريق المفاوضات كوسيلة لحل النزاع حلا عادلا.

التعبير الساطع عن فقدان الثقة كان اندلاع الانتفاضة الثانية، وما تلاها من عودة الجيش الاسرائيلي لمناطق أ، وعملية السور الواقي التي جاءت لتقويض اركان السلطة الفلسطينية. ثم جاء الانفصال الاحادي الجانب عن غزة بحجة عدم وجود شريك، الامر الذي قوى شوكة حماس وقاد في نهاية المطاف للانقلاب في غزة والانقسام الداخلي.

غير ان المقاومة المسلحة التي تنتهجها حماس، تعجز هي الاخرى عن تقديم الحل. فحماس تلعب هي ايضا ضمن موازين القوى القائمة، وفي ظل عزلتها السياسية العربية والعالمية تستقي دعمها من المعسكر الايراني وعواطف الجماهير المقهورة. ومع ان هذا المعسكر يحاول تصوير نفسه كمنتصر بدعم إلهي في كل المواجهات مع اسرائيل (سواء الانسحاب من لبنان او من غزة)، الا ان طريق المقاومة قادت الشعب الفلسطيني اولا للانقسام الداخلي، وثانيا للحرب البربرية التي شنتها اسرائيل على غزة وحصدت فيها اكثر من 1300 قتيل. بعد كل هذا الدمار اضطرت حماس لوقف صواريخ القسام دون تحقيق أي مكسب وبالذات رفع الحصار او حتى فتح معبر رفح.

لا شك ان الازمة الحقيقية التي تعاني منها حماس هي فقدان الدعم السياسي سواء العربي او العالمي. البرنامج الديني لا يمكن ان يكون بحد ذاته برنامجا سياسيا للقضاء على الاحتلال، لانه يعتمد على غيبيات ولا ينظر بعين الواقع الى موازين القوى المادية الحقيقية التي تؤثر على عالمنا وتشكّله. كما ان المشكلة ان هذا النوع من الثقافة يُخرج الصراع من الاطار الوطني ناهيك عن الطبقي، الى اطار صراع الحضارات او الاديان الذي لا يمت للواقع بِصلة، علما ان الطرف الثاني المتمثل باسرائيل، لا يتعامل مع الصراع بنفس المفاهيم.

وما يزيد القضية الفلسطينية تعقيدا هو انها بسبب الانقسام الداخلي وقعت ضحية للتدخل المباشر من القوى السياسية اللاعبة في الشرق الاوسط، وفقدت بذلك الاستقلال بالقرار السياسي. فالانقسام بين فتح وحماس غير محكوم بقرارات محلية يمكن اتخاذها لحله، بل هو انعكاس لانقسام اكبر منه بين معسكر الانظمة العربية المتواطئة مع الولايات المتحدة واسرائيل، وتشمل مصر، السعودية، الاردن والسلطة الفلسطينية؛ وبين المعسكر الايراني الذي يضم ما يسمى بالقوى "الراديكالية" المقاوِمة وتشمل ايران، سورية، حزب الله، حماس والجهاد الاسلامي. ولكل طرف (او نظام) مصالحه وكل يجذب لاتّجاهه، وكل معسكر يتحرك ككتلة واحدة لفرض مصالحه على المعسكر الآخر.

ويبدو ان القوى السياسية في المنطقة باتت تصطف وتحدد مواقفها حسب الانقسام الجديد، بين مؤيد ومعارض لأحد الطرفين. اليسار الفلسطيني اختار دعم ابو مازن والمشاركة الفعلية في الحكومة التي شكّلها برئاسة سلام فياض. بينما اختارت الاحزاب العربية في اسرائيل (التجمع والجبهة والحركة الاسلامية) دعم حماس، بسبب شعبوية الطرح وانسياقا وراء الرأي العام اليائس والمحبط بعد ان فقد الثقة بنيّة اسرائيل انهاء الاحتلال من خلال المفاوضات؛ (هذا مع احتفاظ الجبهة في نفس الوقت بالموقف البراغماتي وهو دعم ابو مازن).

خلافا لكل التيارات السياسية التي غيرت وبدلت مواقفها حسب المناخ العام، واتخذت لها صفا (سواء ابو مازن او حماس، امريكا او ايران)، يمتنع حزب دعم عن الوقوع في الشرك، وينأى عن دعم طرف على حساب آخر، وليس لانه حزب محايد. السؤال الذي نستعرضه هنا هو كيف وصلت القضية الفلسطينية الى هذ الدرك؟ ما هي اسباب الانقسام، وما السبيل الى الحل؟

نتائج متوقعة

يرى حزب "دعم" في الطريق المسدود الحالي نتيجة طبيعية للطريق الذي سارت به منظمة التحرير الفلسطينية منذ انتهاجها نهج اوسلو. في تحليل مفصّل في وثيقة المؤتمر الرابع لدعم الذي انعقد عام 1999، أي عاما واحدا فقط قبل الانتفاضة الثانية، قلنا ان القضية الوطنية الفلسطينية وصلت الى طريق مسدود ولم تعد قابلة للحل حلا عادلا على اساس دولتين لشعبين، في ظل النظام العالمي وموازين القوى الراهنة. وأوضحنا ان البرجوازية الفلسطينية المتمثلة بحركة "فتح" خضعت لهذه الموازين، وانتقلت للخندق الامريكي تماشيا مع مصالحها الطبقية، وانقلبت على برنامجها الوطني. الاشارة لذلك هي توقيعها على اتفاق اوسلو الذي قضى على الحلم الفلسطيني باقامة دولته المستقلة.

وقد أسهبنا في شرح الخلفية النظرية والسياسية التي قادت التيار الوطني في منظمة التحرير الى هذا الموقف. وأوضحنا ان حركات التحرر القومي ليست دائما تقدمية، بل هذا متعلق بطبيعة برنامجها وبالقوى التي تدعمها وتخدم مصالحها في نهاية المطاف.

منذ تأسيسها وحتى مطلع التسعينات، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية طليعة الحركات الثورية التقدمية على مستوى العالم ككل، وليس على مستوى العالم الثالث فحسب، هذا في وقت خمدت فيه الروح الثورية في العالم الغربي. الدعم الذي حظيت به منظمة التحرير الفلسطينية من الاتحاد السوفييتي منحها قوة معنوية وسياسية كبيرة جدا، وهذا ما فقدته بانهيار الاتحاد السوفييتي. تزامن هذا مع اعلان نظام "العولمة" الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة، وكل من لم ينضم اليها حُكم عليه بالموت السياسي. من هنا كان اوسلو تعبيرا محليا عن العولمة وقبولا بالنظام الرأسمالي والهيمنة الامريكية على العالم، والتفوق الاسرائيلي في الشرق الاوسط.

التيار القومي في المنظمة بقيادة ياسر عرفات، تصرف تبعا لمصالح البرجوازية التي يمثلها والتي طمحت، كنهج الحركات القومية في العالم، لاقامة دولة من اجل تجسيد مصالحها الاقتصادية. وكان واضحا لها ان مصلحتها هي في الانضمام لركب العولمة والحصول من الامريكان واسرائيل على كيان فلسطيني باي شكل وبكل ثمن، وكانت مستعدة للمساومة لأبعد الحدود حتى لو كان المطلوب التنازل عن الثوابت الوطنية التي ناضلت لأجلها.

في ظل غلبة النظام الرأسمالي والانسياق وراء امريكا، تحولت الحركة الوطنية الى رجعية، وكانت النتيجة اتفاق اوسلو الذي وضع حدا للانتفاضة الاولى، كرّس الاستيطان وخدم التفوق الاسرائيلي، وخلق كيانا رئاسيا على شكل "السلطة الفلسطينية" التي يتلخص كل دورها في ادارة المناطق الفلسطينية وحماية الامن الاسرائيلي، أي ادامة الاحتلال بطريق غير مباشرز بالمقابل حصلت السلطة على دعم مالي كبير من الدول الاوروبية المانحة ومن اسرائيل، مما ادى لاستشراء الفساد بهدف شراء الولاء.

في هذا المجال لا بد من التذكير بان التيار الوطني البرجوازي تصرف من منطلق مصالحه الطبقية التي تتماشى مع النظام الرأسمالي، ولا تتناقض جوهريا معه. وليس هذا حال اليسار الفلسطيني الذي سار على نفس النهج واخترع نظريات جديدة لتبرير موقفه.

أين كان اليسار الفلسطيني؟

في الوثيقة ركّزنا على ان واجب اليسار دعم حركات التحرر الوطني ولكن فقط اذا كانت تقدمية، اما اذا انقلبت البرجوازية التي تقود هذه الحركات على برنامجها، فلا مجال للتحالف معها. ولكن ليس هذا ما فعله اليسار الفلسطيني، وخاصة الجبهة الديمقراطية التي أصرت على التحالف مع فتح كما لو كانت "الوحدة الوطنية" مبدأ مقدسا بكل ثمن وفي كل الظروف. هكذا، بدل الخروج ضد السلطة وفضحها والمطالبة بتقويضها، وطرح نفسه بديلا سياسيا جديرا بقيادة الشعب، أضاع اليسار فرصة ثمينة وتحول الى جزء من الازمة بانضمامه أخيرا لحكومة سلام فياض.

تنازل اليسار عن مهمته بناء نفسه كبديل بشكل تدريجي الى حين تسنح الفرصة لطرح نفسه كبديل واقعي، زاد في تلاشي قوته ونفوذه في الشارع. ولكن الأخطر من ذلك ان هذا عمّق أزمة الشارع الفلسطيني وأبقاه بلا قيادة علمانية، وقاد هذا الفراغ في نهاية المطاف الى ازدياد نفوذ حماس التي، خلافا لليسار، آمنت بقوة ببرنامجها وطرحته كبديل وحيد للسلطة الفلسطينية.

كيف وصل اليسار الى هذه الحال؟ مطلع التسعينات كانت فترة عصيبة لليسار الفلسطيني والعالمي. فانهيار الاتحاد السوفييتي ضرب معنوياته وقاد لاستنتاجات واستحداثات نظرية كان هدفها تبرير شطبها للبرنامج الثوري، والقبول بالنظام العالمي الرأسمالي الجديد كأمر واقع غير قابل للتغيير، وضرورة التوصل الى حل ضمنه. اليسار الفلسطيني اخترع فكرة التحرك ضمن "مسافة المصالح"، للاستفادة من تباين الآراء بين امريكا واوروبا بشأن القضية الفلسطينية. وكانت النتيجة انه من موقف معارضة الاتفاقات بشكل واضح، انتقل اليسار الى اقتراح "تجاوزها" والتعامل مع اوسلو كأمر واقع والوحدة مع السلطة بهدف تقوية موقع المفاوض الفلسطيني في الطريق لتحقيق الدولة الفلسطينية.

واذا كان اليسار الفلسطيني على طول مدة المقاومة الباسلة لمنظمة التحرير قد اخضع وميّع مصالحه وثقافته الطبقية العمالية لمصالح البرجوازية الفلسطينية بحجة وحدة الصف، واخترع لأجل ذلك معادلة "التناقض الرئيسي مع الاحتلال والتناقض الثانوي مع البرجوازية"، وأصر على الادعاء انه يسعى لجذب يسار فتح الى مواقفه، فما حدث كان العكس. فقد عملت البرجوازية الفتحاوية على إحداث انشقاق عميق في صفوف قيادة الجبهة الديمقراطية في الانتفاضة الاولى (1988).

هذه الاختراعات النظرية من جانب اليسار وإصراره على الوحدة مع السلطة رغم كل ما حدث، كان هدفها الرئيسي التغطية على انعدام البرنامج المستقل والواقعي. ومن جهة اخرى كان فيها تعبير عن الخوف من نزيف المزيد من الكوادر التي أرادت لنفسها مناصب في السلطة (اليوم صار بعضهم وزراء)، بعد ان فقدت الايمان ببرنامجها وبامكانية التغيير الاشتراكي.

علاوة على هذا، لم تكن للجبهة القوة السياسية للوقوف ضد حماس ايضا عندما بدأت عملياتها الانتحارية في التسعينات، ولم ترغب في تحديد موقف من العمليات بحجة ان الجماهير متحمسة للعمليات لذا لا يمكن الخروج ضدها، كيلا يفقدوا شعبيتهم بين الجماهير. ولكن لو كانت الجبهة تتصرف كحزب قيادي مسؤول لكان عليها الوقوف ضد التيار، تحديدا عندما يكون هذا التيار الجارف جنونيا ومدمرا ويسير باتجاه الكارثة. كان على الجبهة ليس الوقوف ضد التيار فحسب، بل ضد الكارثة التي يسيرون باتجاهها، بغض النظر عن تأثير الأمر على عدد كوادرهم. ولكن لم يكن لليسار الاستعداد اطلاقا للوقوف في وجه الرأي العام، ولهذا السبب بالذات لم يطرح نفسه ابدا كبديل. المفارقة ان هذا الموقف لم يمنع تلاشي قوة اليسار في نهاية المطاف.

وفي المحصلة، يمكن القول انه بسبب عدم الرغبة في طرح برنامج مستقل يمكن ان يكلّفه العزلة التي دخلها حزب "دعم"، وجد اليسار نفسه شريكا فعالا في حكومة سلام فياض الامريكي. نقول هذا لنبين ان التحليل السياسي امر يحدد مصير الحزب، فإما ان يحكم عليه بالبقاء او الفناء السياسي، ناهيك عما يسببه هذا الوضع من مآسٍ للجماهير.

دعم - من البرنامج القومي للأممي

عبّر حزب دعم عن معارضته لاتفاق اوسلو من خلال إعلانه تأسيس نفسه بشكل رسمي عام 1995. وكان هدفه بناء الحركة الوطنية من جديد على اساس التمسك بالثوابت الفلسطينية وبالطابع الاشتراكي الثوري للحزب، والايمان بان النظام الرأسمالي الحالي سيتغير لان مواطن الخلل فيه بقيت على حالها رغم انتصاره الساحق، وانها مسألة وقت الى حين تتغير الظروف وتسمح بطرح البرنامج الاشتراكي من جديد ويكون بالامكان حل القضية الفلسطينية حلا عادلا ضمنه.

كانت تلك فترة عصيبة بالنسبة للحزب، الذي أصر على خوض الانتخابات بموقفه المعارض لاوسلو ولحزب العمل، هذا في حين جرفت الاحزاب العربية دعما ساحقا من الجماهير العربية التي دعمت اتفاق اوسلو بكل جوارحها.

في الاعوام الاولى للحزب الذي قام على اساس قومي، تبلورت مفاهيمه الجديدة التي صيغت في مؤتمره الرابع عام 1999. وكان المؤتمر عبارة عن نقلة نوعية في طبيعة الحزب وبرنامجه وتمهيدا لانتقاله من الموقف القومي الى الموقف الأممي. في تلك الوثيقة أجرى الحزب محاسبة مع ماضيه السياسي وحلفائه من اليسار الفلسطيني، وبدأ يتجه نحو اعادة بناء الحركة الوطنية على اساس طبقي، أي من خلال تعزيز الدور السياسي للطبقة العاملة الفلسطينية لتضطلع هي بمهمات قيادة الشعب الفلسطيني نحو تحرره، بعد ان فشلت البرجوازية في مهمتها هذه.

وليس هذا فحسب، بل حدد دعم ان القضية الفلسطينية غير قابلة للحل ضمن النظام العالمي الجديد، وان اوسلو هو تعبير عن نهاية عهد الحلول الوسط العادلة، ونهاية عمليا لشعار دولتين لشعبين، بالمعنى الذي يضمن السيادة والاستقلال الناجز للدولة الفلسطينية.

واكد "دعم" ان أي تغيير في وضع القضية الفلسطينية مرهون بتحول في موازين القوى العالمية، بمعنى ان القضية الفلسطينية فقدت دورها الطليعي، خاصة بعد ان انقلب التيار الوطني الرئيسي فيها على برنامجه واستنفذ طاقات شعبه. اما طليعة التغيير فانتقلت الى موطن الرأسمالية نفسه، المكان المؤهل لتبلور حركات اجتماعية، يسارية او عمالية، تشكل قاعدة لبناء بدائل سياسية تقدمية. بدائل كهذه يمكن ان تشكل سندا جديدا لدعم نضال الفلسطينيين والعراقيين والافغان وسائر الشعوب المقهورة.

لم يكن من السهل التمسك بموقف كهذا بدا في تلك السنوات كالحلم. ولكن دعم اعتمد في تصوره هذا على الاعتقاد الراسخ بان النظام العالمي الذي فرض هذا الواقع وهذا الحل على الشعب الفلسطيني، وهو نفس النظام الذي فرض حياة الفقر والاستغلال والاستعباد على البشرية قاطبة من خلال نظام العولمة - هو نظام قابل للتغيير. وهذا هو الفارق النوعي الاساسي بين دعم وبقية القوى السياسية سواء الوطنية او اليسارية.

ولتأكيد تصوره حلّل دعم وضع النظام الرأسمالي واشار الى انه بقي معرضا للازمات، ولفت في الوثيقة ذاتها الى مكامن الازمة وبالذات الانتقال من الانتاج الحقيقي للمضاربة كوسيلة اساسية لصنع الارباح، مما خلق بطالة عالية في المراكز الصناعية ذاتها. وأشرنا ايضا الى ما يمكن ان تسببه هذه الازمات من حروب. وكان في هذا التحليل دقة بالغة، ثبتت بعد عام واحد فقط مع انفجار فقاعة الهاي تك متمثلة بانهيار شركة انرون عام 2000، وما تبعها من ازمات متوالية وحروب أبرزها الحرب على العراق، وصولا الى الازمة الحالية اليوم المتمثلة بانفجار فقاعة العقارات. وتؤكد هذه الازمات المتوالية صحة مواقفنا بالنسبة لامكانيات تغيير النظام العالمي، وان الوضع غير ثابت على حاله.

يسار اجتماعي في اسرائيل

هذا التغيير ينعكس ايضا على اسرائيل بوصفها جزءا من العالم الغربي المتطور سياسيا واقتصاديا، ومتأثرة بما يحدث فيه، الامر الذي يجعل طرحنا اكثر واقعية بمرور الوقت.

ويتبين ان العولمة لم تقض فقط على مفهوم الوطن كسوق اقتصادية مستقلة وخلقت كيانا فلسطينيا مشوها وقضت على امكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة من الناحية الاقتصادية، ولكنها بشكل جدلي غيّرت ايضا طبيعة دولة اسرائيل. يتجلى التغيير في تركيبة المجتمع الاسرائيلي الاجتماعية نتيجة اتباع سياسة الخصخصة وتآكل دولة الرفاه، وما سبّبه ذلك من فجوات طبقية تعتبر الاكبر في العالم الغربي. ويؤدي هذا التغيير الى تراجع الاستعدادات للتضحية في الجيش، واهتزاز التماسك والتكافل الاجتماعي الذي ميّز الدولة في عهدها الاول.

اليوم، في ظل الازمة العالمية، من المنظور ان تتأثر اسرائيل ايضا كونها جزءا من هذا العالم، سواء من ناحية التصدير او الاستثمارات او المضاربة في البورصة الامريكية، حتى لو ان الازمة لم تضربها بعد بسبب احتفاظها ببقايا نظام دولة الرفاه والضوابط المرافقة لها على رأس المال.

ولكن مع ان اسرائيل تتباهى باستمرارية النمو، فهو محصور في نخبة اقتصادية معينة تشمل رؤوس الاموال الكبار والهاي تك. اما الازمة فبدأت تضرب الطبقات الوسطى التي تنسحق تدريجيا وتشعر بالركود، ناهيك عما يحدث من اتساع للفقر في الشرائح العمالية اليهودية ايضا.

هذا الوضع يعيد للساحة السياسية في اسرائيل مصطلحات مثل "الاشتراكية" او "الاجندة الاجتماعية"، وهو يفسح المجال لطرح برنامجنا ونشاطنا بقوة ويجعله واقعيا. اجندتنا الاجتماعية التي ركزت في البداية على مكافحة البطالة بين العمال والعاملات العرب وحققت مكاسب ملموسة، خلقت تقديرا عاليا للحزب والنقابة خاصة بسبب العمل الدؤوب والصعب، ومنحتهما تجربة غنية جدا. هذه التجربة مكّنتنا مؤخرا من التوجه ايضا الى العمال اليهود والبدء بتنظيمهم، وذلك بسبب التحولات الاجتماعية في الشارع اليهودي ايضا.

علينا ان ندرك اننا لا نقوم بهذا العمل من منطلق خيري، بل من منطلق اعادة بناء الطبقة العاملة وتثقيفها على قيم التضامن الاجتماعي والطبقي بغض النظر عن الفوارق القومية او الدينية. وهو ما نفعله من خلال نشاطنا مع الشبيبة والنساء في كلا المجتمعين العربي واليهودي، حيث نسعى الى بناء قاعدة شعبية تشكل اساسا لبناء يسار اجتماعي-سياسي جديد.

هذه هي زبدة موقفنا الذي نص على الانتقال من الموقف القومي الى الموقف الأممي، أي بناء يسار بديل معتمد على الطبقة العاملة، كخيار ثالث على الساحة السياسية مستقل عن الطرحين القومي والديني.

ولا نوهم انفسنا بان تنظيم عمال عرب ويهود سيكون امرا سهلا، كلا. فالكراهية بين الشعبين عميقة جدا، ولكلٍّ روايته السياسية التي يتمسك بها، وكل طرف خاضع للمناخ العام في مجتمعه سواء القومي المتعصب اليهودي او القومي-الديني العربي. ولكن القواسم المشتركة في الجانب الاقتصادي، أي لقمة العيش، امكانية إنهاء الشهر بمعاش الحد الادنى، دوس الحقوق وسلب الكرامة، ومواجهة حكومة تصر على خصخصة كل مرافق الرفاه بما فيها العمل والصحة، كل هذا يخلق تحديا كبيرا امام الطبقة العاملة من كلا المجتمعين، وفي هذا الامتحان سنكون هناك مع برنامجنا.

حتى الآن يثير نشاطنا التقدير من الكثيرين واعتراف بنا على مستويات رسمية. ويشكل هذا النشاط قاعدة وتربة خصبة بدأت تجذب عناصر جديدة للحزب على اساس البرنامج الاجتماعي السياسي. في القاعدة الميدانية نقوم بتثقيف الكوادر النقابية والسياسية لتكون مؤهلة لقيادة التغيير السياسي.

هذا اليسار مختلف نوعيا عما هو معهود في اسرائيل، حيث هناك اليسار السياسي الذي يشمل حزب العمل وميرتس، علما انهما يمثلان البرجوازية والطبقة الوسطى، أي انه من الناحية الاقتصادية يعتبر يمينا، اذ يدعم برامج الخصخصة ويهتم بالحفاظ على امتيازات الطبقة التي ينتمي اليها.

علاوة على هذا، فاليسار الاسرائيلي يمثل الشرائح اليهودية الصهيونية بالذات، الساعية للحفاظ على التفوق الاسرائيلي والامتيازات التي حصل عليها الشعب اليهودي على حساب العرب. الامر الذي من شأنه ان يفسر ولو جزئيا الطريق المسدود السياسي الذي وصله هذا اليسار، اذ لم يعد يدري كيف يواجه الوضع القائم ويتوصل لحل مع الفلسطينيين يحفظ دولة اسرائيل يهودية ديمقراطية، ويضمن في نفس الوقت التفوق على الفلسطينيين.

الازمة الاقتصادية رافعة للتغيير

اليوم، ونحن في خضم الأزمة الاقتصادية التي يواجهها النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، يمكننا الجزم بوضوح ان تحليلنا كان دقيقا للغاية. ولا نقول هذا لنتشفى او لنحاجج بأن "قلنا لكم"، بل لاننا بالفعل نرى في هذه الازمة فرصة ذهبية ورافعة اساسية لاحداث التغيير السياسي والاجتماعي العام. تغيير كهذا يمكن ان يخلق قوى سياسية واجتماعية جديدة، تفتح المجال لانفراج في القضية الفلسطينية، وكافة القضايا التي تواجهها الشعوب، سواء الاستعمار (العراق، افغانستان) او الاستغلال الاقتصادي والفقر.

وحتى لو اننا لا نرى بعد الجماهير العمالية المنظمة في امريكا والغرب، الا ان مجرد اهتزاز النظرية التي تعتمد على قبول الامر الواقع كوضع لا يقبل التغيير والتي قادت للفوضى والدمار، امر يقوي عزيمتنا ويضعف القوى الاخرى المستفيدة من الوضع القائم والمعنية بدوامه لانه يضمن مصالحها. وهي فرصة لليسار لاعادة محاسبة نفسه ومواقفه واستنهاض قواه النضالية.

من جهة اخرى، سيكون لعامل الوقت تأثيره، فكلما تعمقت الازمة، كلما ازدادت الحاجة لبديل. ولا شك ان احد البدائل المطروحة ستكون الفاشية، والسؤال اذا كان اليسار سيستجمع قواه لطرح نفسه كبديل.

نحن كحزب دعم نأتي لهذه المرحلة مستعدين، فكريا وسياسيا وبرنامجيا، ونواصل إعداد العدة وتثقيف كوادرنا للفترة المقبلة التي ستشهد بلا شك نمو بدائل جديدة، ونرى في طرحنا مساهمة في بناء حركة عمالية يسارية عالمية جديدة، تقدم الاشتراكية كبرنامج واقعي مؤهل لإدارة المجتمع بعد فشل الرأسمالية في هذه المهمة.

المؤتمر الفكري لحزب دعم، نيسان 2010