عبادة الفرد نقيض الاشتراكية


حميد كشكولي
2010 / 6 / 26 - 23:26     

عبادة الشخصية قضية عايشتها بلدان ونظم و أحزاب شتى، وهي تختلف اختلافا جذريا عن الدور المميز للفرد في التاريخ الذي تحدده عوامل شتى لعل أهمها وجود قاعدة اجتماعية ناضجة ومؤهلة لحمل المشروع الجديد الذي يتماه وجود الزعيم الموهوب والصادق. ولا تنفك وسائل الإعلام البرجوازية عن ربط فكرة عبادة الفرد بالماركسية و الثورة البلشفية والاشتراكية التي تدين عبادة الفرد و تتناقض معها كليا ،إذ أن ماركس كان قد حذر مبكرا من هذه الظاهرة الظالمة و اللا إنسانية بعد أن حظي هو وانجلز بشهرة واسعة في منتصف القرن التاسع عشر حين ذاعت كتاباتهما ، ومواقفهما ، وكتب ماركس رسالة إلى الصحفي الاشتراكي ويلهم بلاس قال فيها : ( لا نعير لا أنا ولا انجلز أدنى أهمية للشهرة، وهذا دليل على ما أقول، فأنا لا أقبل أبدا بسبب الاشمئزاز الذي اشعر به إزاء كل عبادة للشخص أن تنشر ؟ عندما كانت الأممية قائمة- رسائل الإطراء العديدة التي يحرجني بها باعثوها من بلدان مختلفة ويقدرون فيها مؤهلاتي ، حتى أنني لم أجب عنها، وإذا فعلت فيكون ردي في شكل رسائل عتاب) ويضيف ماركس : ( لقد كان انخراطنا لأول مرة، إنجلز وأنا، في جمعية الشيوعيين السرية مشروطا بأن يحذف من أنظمتها الأساسية كل ما من شأنه أن يسهم في تقديس الزعامات).

وحين توالت أشكال التعازي والرثاء بالملايين لدى رحيل لينين عام 1924 وكانت الثورة الاشتراكية قد انتصرت واستقرت كدولة، قالت كروبسكايا رفيقته وزوجته، في رسالة منشورة للجميع.. ( لا تتركوا تمجيدكم لإليتشي يتخذ شكل عبادة لشخصه، لا تقيموا له النصب، لا تسموا قصرا باسمه ولا تنظموا من أجله حفلات لذكراه، فقد كان في حياته لا يعير اهتماما يذكر لمثل هذه الأشياء، فهي حسب نظره أمور زائفة للغاية، فإذا كنتم ترغبون في تكريم اسم لينين فشيدوا دورا للحضانة، وابنوا المدارس وروضات الأطفال، وأقيموا المكتبات والمراكز الصحية والمستشفيات ودور الإيواء للعجزة، وفوق هذا وذاك ضعوا مبادئه حيز التنفيذ).


و لكن ما أن توفى لينين عام 1924 حتى انفرد ستالين بالسلطة مستغلا مناصبه الخطيرة في الحزب والدولة، مفوضا للقوميات، و مفوضا لمفتشية العمال والفلاحين و عضوا في المكتب السياسي و أمينا للجنة المركزية ، ليقوم بتحنيط لينين وإقامة تماثيل ( أنصاب) له ما كان يعني قتل لينين و تجميد أفكاره بدل ابقائها حية مشعة تستهدي بها الجماهير العمالية ، و قام بتحويل الماركسية إلى إيديولوجية يكون هو بنفسه إمامها ، بل اله لها ، و راح يصفّي خصومه و منافسيه و يجهز على جميع أشكال المعارضة المنظمة و الغير منظمة بوحشيّة منقطعة النظير فقد قام بحملات تطهير واسعة راح ضحيّتها ملايين من خصومه و معارضيه و أيضاً من أتباعه و من الحزبيين و الموظفين و العمال و الجنود , كما جعل من أفكاره و معتقداته التي أسماها بـ " الستالينية " ديناً للحزب و الشعب و صارت أقواله و أفعاله معياراً للحقيقة و الوطنيّة و المرجع الأوحد للحكم على الأشياء . و في ضوء ذلك صارت الستالينية تعني عبادة الفرد ، والتي بنى عليها اشتراكيته ، ( اشتراكية القطاع العام الدولتية) التي أمست نموذجا يحتذي بها المستألهون من أمثال جمال عبد الناصر و صدام وأمثالهما.

إن البلدان التي تتعايش فيها قوميات وأمم مختلفة عديدة ، غالبا تضطر حكوماتها وقواها السياسية ( الممثلة للطبقات السائدة طبعا) إلى البحث عن زعيم كاريزماتيكي قوي لقيادة البلد ، والحفاظ على وحدته السياسية من التجزئة و التقسيم.
ففي العهد القديم كان الملوك والاباطرة ، يملكون حقوق ( الهية امبراطورية) ، وكان الرعية يعتقدون أن الحاكم يحكم بارادة الله.
وقد رأينا أحزابا أيضا لجأت إلى أسلوب عبادة الفرد للاحتفاظ على وحدتها ، مثل الحزب الشيوعي العمالي ، إذ نزلت التعليمات إلى جميع المنظمات الحزبية برفع صور القائد وهو في الحياة ، بزعم تحدي قادة البرجوازية و جعل منصور حكمت نقطة توازن ووحدة الحزب، لكن عبادة الفرد هذه أصبحت سببا اضافة إلى أسباب أخرى للانشقاقات و خروج عناصر عديدة من الحزب .. فكل انتقاد لفكر القائد كان يسبب انشقاق و خروجا عن الحزب .

حركات النهضة والتنوير و الثورات الديمقراطية وتطور العلوم و الاكتشافات العلمية و الفكرية ، حددت إلى أبعد الحدود من السلطات الشرعية الالهية التي كان يحظى بها الملوك والأمراء و طبقة النبلاء في الغرب ، وإلى حد ما في الشرق، إثر الاحتكاك بالغرب بطرق مختلفة.
لكن التطور القني من جهة أخرى ساعد كثيرا الزعماء و الدكتاتوريين ، مستفيدين من فن التصوير ، و التقنية الصوتية ، و انتاج الافلام ، أضافة إلى تقنية الاعلانات ، لكي يقدموا عن أنفسهم صورة ايجابية وملائكية أمام الشعب لم يسبق له مثيل في القرون التي سيقت... لهذا كانت القرن العشرون ، قرن الزعماء المغرورين ، والأفراد العبثيين...

في المجتمعات المغلقة، يجعل الزعيم من نفسه اسطورة ، و تفرغ الميديا من أي ّ مضمون إنساني شريف ، وتتحول الصحافة و ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة الرسمية إلى نفاق و مديح فارغ... و ليس من الضروري أن يصل الزعيم إلى هذا المقام الالهي في حياته، فأحيانا ، الزعماء و الحكام الذين يستلمون الزمام بعده، و في سبيل استحكام سلطتهم يمارسون هذا العمل .. فعبادة الفرد ظاهرة تطبع الدكتاتوريين ، لكن الديمقراطيات لا تكون في مأمن منها...


عبادة الفرد تشبه عبادة البطل القومي، الذي غالبا يكون زعيما سياسيا في عصرنا.. عبد الناصر ، صدام حسين والملا مصطفى البارزاني ، وعبد الله أوجلان . وقد كانت عبادة الفرد قبل القرن العشرين تطلق على أبطال غير سياسيين ، لكن المحللين في العقود الأخيرة من القرن العشرين أخذوا يطلقونها على الزعماء السياسيين و القادة الوطنيين.

عبادة الفرد في القرن العشرين عند موسوليني ، وهتلر ، وستالين و ماو وكيم ايل سونج وصدام و عبد الناصر وخميني ، كلفت البشرية الكثير ، بعد أن جعلوا من أنفسهم ، و بمساعدة وسائل الاعلام التي كانوا يجيرونها لأنفسهم ، آلهة بلا منازع و كانت صورهم و تماثيلهم في كل مكان لاثبات حضورهم الكلي الدائمي عند المواطنين ... و أصبحت مهمة الفنانين و الشعراء هي الثناء على " الأخ الأكبر"، والمنقذ والمخلص .

وعلى البشرية اليوم أخذ الدروس والعبر من هذا التاريخ الدموي ، وأن على القوى الشيوعية التي تعمل لبناء الاشتراكية الحقيقية في ضوء أفكار ماركس وانجلز و لينين ، عدم التراخي عن كشف الحقائق المرّة للجماهير ، والتطهر من كل الأفكار الغريبة عن الماركسية و الاشتراكية العلمية.


‏2010‏-06‏-26