بعد 35 عاماً على النصر التاريخي... فييتنام تحث خطى التنمية والتطوير المتسارع


داود تلحمي
2010 / 5 / 13 - 18:04     

يوم الجمعة، الثلاثين من نيسان/أبريل المنصرم، احتفلت فييتنام بالذكرى الـ 35 للإنتصار على قوات التدخل العسكري الأميركي، واستكمال تحرير البلد وإعادة توحيده، وذلك حين تم، في ذلك اليوم من العام 1975، تحرير عاصمة جنوب فييتنام التي كان اسمها حتى ذلك اليوم سايغون، ثم تحوّل بعد ذلك الى "مدينة هو تشي مين"، على اسم قائد ثورة فييتنام وحروب تحريرها المتعاقبة منذ مطلع الأربعينيات، ضد الإحتلال الياباني والإستعمار الفرنسي أولاً (1941- 1954)، وضد الأميركيين خلال العقود الثلاثة التالية.
ذلك أن فييتنام، التي تكبدت خسائر بشرية ومادية هائلة في مواجهة الإحتلال الياباني، وفي مجاعة العامين 1944-1945، ثم في حرب التحرير ضد الإستعمار الفرنسي، لم تعرف السلام والهدوء مع إنتهاء هذا الإستعمار إثر توقيع اتفاقية جنيف في أواسط العام 1954. فقد سارع الأميركيون، الذين سبق وتدخلوا لدعم المستعمرين الفرنسيين، لاستغلال فرصة تقسيم فييتنام الى قسمين، وهو تقسيم كان يفترض وفق إتفاقية جنيف أن يكون مؤقتاً، فكثّفوا تدخلهم المباشر في القسم الجنوبي، بحجة مواجهة "خطر التمدد الشيوعي". وقاموا، مع النظام المرتبط بهم في الجنوب، بتعطيل عملية الإنتخابات التي كان من المفترض أن تجري في العام 1956، وتختار قيادة لعموم البلد، بحيث يقرر الشعب عبرها، بالتالي، مصيره.
ومنذ ذلك الحين، تعاظم الوجود الأميركي في الجنوب، مما اضطر الوطنيين الفييتناميين، منذ مطلع الستينيات، لإعادة حمل السلاح وتنظيم صفوفهم في الجنوب لخوض معركة تحرير جديدة، ستكون، في نهاية المطاف، أكثر كلفةً بشرية ومادية من الحرب الأولى. خاصة وأن القوات الأميركية، الأكثر تسليحاً وقوة من القوات الإستعمارية الفرنسية، وصل تعدادها في أواخر الستينيات الى ما يقارب نصف المليون عسكري، مدعومين بالأساطيل البحرية والجوية، بالإضافة الى قوات أجنبية أخرى من دول المنطقة المرتبطة بالولايات المتحدة، وكل ذلك ضد شعب فقير ومحدود الإمكانيات المادية، والذي بالكاد استطاع أن ينهض من مآسيه السابقة. وأكثر من مرة خلال تلك الحرب، لوّح قادة عسكريون وسياسيون أميركيون باحتمال استخدام السلاح النووي (الذي قيل بان له نسخةً تكتيكية) ضد فييتنام، وبـ"إعادة البلد الى العصور الحجرية"، كما تبجّح قائد القوات الأميركية في فييتنام، الجنرال ويليام ويستمورلاند، الذي بات اليوم اسمه (الذي بالكاد يذكره من عايش تلك الحقبة) مرتبطاً بتلك الهزيمة المرة.
وكان الإنتصار الحاسم للثورة اليسارية في الصين في مطلع خريف العام 1949 قد وفّر سنداً جغرافياً ومادياً هاماً لكفاح شعب فييتنام المتاخمة لها. حيث كان الدعم الصيني، والدعم الذي يمرّ عبر الصين، من الإتحاد السوفييتي ودول أخرى، حيوياً لتدعيم صمود فييتنام وتوفير السلاح والغذاء لشعبها المستهدف بالحرب. ولكن سر "معجزة" الصمود الفييتنامي والنصر البيّن لحربه التحررية يكمن، بالدرجة الأولى، في الكفاءة العالية للقيادة الفييتنامية على مختلف الصعد، في المجال العسكري كما في مجال تنظيم طاقات الشعب بكل مكوناته واكتساب ثقته وقناعته بالنصر، خاصة وأن تلك القيادة كانت تعيش كما يعيش شعبها، وتتسم بدرجة عالية من التواضع والتقشف والبساطة في الحياة والمسلك. هذا، بالإضافة الى الكفاءة الفييتنامية في التعامل مع الرأي العام العالمي، بما في ذلك الرأي العام الشعبي داخل الولايات المتحدة نفسها. وهي كفاءة لعبت دوراً هاماً في شل آلة الحرب الأميركية ومنعها من استخدام الأسلحة النووية، وإن لم تتورع عن استخدام أسلحة فتاكة أخرى، كان من أشهرها، في تلك الحقبة، سلاح النابالم الحارق للبشر وللشجر والحجر.
ولذلك كانت "المغامرة" العسكرية الأميركية في فييتنام محكومة، في النهاية، بالفشل، وهو فشل تكلل بنهاية مذلة للوجود الأميركي في البلد، حين اضطر سفير واشنطن في سايغون، غراهام مارتن، الى الهروب بالطوافة من على سطح السفارة الأميركية هناك، مع مساعديه وحراسه، بعد أن تمكنت قوات جيش التحرير الفييتنامي من اقتحام المدينة والسيطرة على مرافقها كافة. وهو المشهد الذي شاهده مئات الملايين في أنحاء العالم على شاشات التلفزة. وهكذا انتهى التدخل الأميركي في فييتنام الى هزيمة كاملة، أكثر وضوحاً من نصف الفشل في الحرب الكورية، التي خيضت بقيادة أميركية أيضاً بين العامين 1950 و1953، وانتهت الى تثبيت تقسيم البلد الى شمال وجنوب هناك أيضاً. وهو التقسيم الذي لا زال قائماً حتى الآن.
120 ربيعاً لـ"العم هو"
وفي التاسع عشر من أيار/مايو 2010، تحتفل فييتنام بالذكرى الـ 120 لميلاد قائد مسيرتها التحررية هو تشي مين (يُكتب اسمه أحياناً، بالعربية، هو شي مينه). و"العم هو"، كما كان يُلقّب تحبباً، لم يعش ليشهد هذا الإنتصار الكبير. حيث توفي في الشهر التاسع من العام 1969، أي قبل هذا الإنتصار بزهاء الست سنوات. ولكن القيادة الجماعية التي خلفته في إدارة المعركة والبلد واصلت المسيرة بدرجة الكفاءة والصلابة ذاتها، الى أن انتهت بتحقيق الهدف الذي كان قد تحدد خلال حياته، والذي لخّصه بعبارته الشهيرة التي كان يرددها في كلماته الى شعبه: "لا شيء أغلى من الإستقلال والحرية". ولم يكن مستغرباً أن تخرج مجلة "تايم" الأميركية الأسبوعية (العدد المؤرخ 12/5/1975) بعد النصر الفييتنامي بغلاف يحمل رسماً لخارطة فييتنام الواحدة، غير المقسّمة، والى جانبها رسم كبير لوجه هو تشي مين، وتحت الرسم، وبأحرف بارزة، تعبير يلخّص الحدث: "ذي فيكتور"، أي"المنتصر".
وكانت القيادة الفييتنامية الجماعية التي خلفت هو تشي مين بعد وفاته قد اتخذت قراراً في مطلع ربيع العام 1975، بعد أن تمكنت قوات التحرير الفييتنامية من تحرير معظم جنوب فييتنام، يقضي بإنجاز التحرير الكامل للجنوب قبل ذكرى ميلاد هو تشي مين، أي قبل 19/5/1975. وهو ما تحقق فعلاً.
وكان مخرج سينمائي كوبي مبدع ومعروف عالمياً، هو سانتياغو ألفاريس، قد أعدّ بعد وفاة "العم هو" بفترة وجيزة فيلماً وثائقياً عنه، وصفه أحد النقاد الغربيين بأنه قصيدة وفاء شعرية. وحمل الفيلم عنوان "79 ربيعاً"، استخدم فيه المخرج تقطيعاً زمنياً يرتكز الى مراحل عمر القائد الفييتنامي، فبدأ بالحديث عن 19 ربيعاً، ثم 29 ربيعاً، وهكذا، حتى وصل الى 79 ربيعاً، وهو العمر الذي توفي فيه "العم هو". وكان المخرج يقصد بهذا التعبير أن يظهر الحيوية والصلابة المستمرتين اللتين واصل بهما قائد شعب فييتنام ومعركته التحررية مهمته التاريخية التي بدأها منذ شبابه المبكر، واستمر بها طوال حياته، وهي مهمة تحرير البلد واستعادة وحدته، وإعادة بنائه "أجمل مما كان"، كما كان يردد "العم هو" أيضاً.
احتفال مهيب في عاصمة الجنوب... في أجواء من التفاؤل الشعبي بالمستقبل
الاحتفال الرئيسي بالذكرى الـ 35 للإنتصار التاريخي جرى في "مدينة هو تشي مين"، سايغون سابقاً، وليس في العاصمة هانوي، بحضور الآلاف من القادة والمقاتلين الفييتناميين، القدامى والحاليين، وبحضور شخصيات عالمية بارزة، الى جانب عدد من العسكريين الأميركيين السابقين، الذين تحوّل بعضهم الى مواقف متعاطفة مع فييتنام، وعدد كبير من الصحافيين الأجانب الذين ساهموا في تغطية الحرب. والى جانب كل هؤلاء، كان هناك، طبعاً، الآلاف من المواطنين الفييتناميين الذين عاصر بعضهم الحرب، والعديد من الشبان الذين ولدوا بعد الحرب، وهم الآن زهاء 60 بالمئة من السكان، في بلد يقترب عدد سكانه حالياً من الـ 90 مليون نسمة (ويأتي في المرتبة 13 من حيث عدد السكان بين بلدان العالم). غائب كبير واحد من بين القادة الأحياء لمسيرة التحرر الفييتنامية وأحد أبطالها وكبار استراتيجييها العسكريين، المعروفين والمقدّرين عالمياً، كان الجنرال فو نغوين جياب، مخطط الإنتصار الكبير على الإستعمار الفرنسي في معركة "ديين بيين فو" في العام 1954 والقائد العام ابان معركة تحرير جنوب فييتنام في السبعينيات. تغيب الجنرال جياب عن الإحتفال بسبب كبر السن والإعتلال الصحي، حيث قارب عمره المئة عام (هو من مواليد العام 1912).
تقارير وكالات الأنباء العالمية أشارت الى أن الإحتفال جرى في أجواء من البهجة والإرتياح الشعبيين، نظراً للإنجازات الكبيرة التي حققتها فييتنام في السنوات الأخيرة على صعيد التنمية الإقتصادية، ونجاحها في إخراج غالبية السكان من خانة الفقر، الذي كان سائداً في السنوات الأولى بعد التحرير، إثر أكثر من ثلاثين عاماً من المجاعات والحروب المتواصلة.
وكالة "أسوشييتد برس" الأميركية أوردت تقريراً يوم 29/4 الماضي عن استطلاع للرأي أُجري مؤخراً في فييتنام، وشاركت الوكالة في تنظيمه، واعتبرته الأوسع من نوعه هناك، أبرز أن 85 (خمسة وثمانين) بالمئة من الفييتناميين يعتبرون أن اقتصاد بلدهم هو اليوم أفضل مما كان قبل 5 سنوات، وأن 87 بالمئة يتوقعون أن يكون أفضل بعد خمس سنوات من الآن. واعتبر 81 (واحد وثمانون) بالمئة أن البلد يسير في الإتجاه الصحيح. ونوه تقرير وكالة الأنباء الأميركية الى أن هذا التفاؤل الفييتنامي هو على النقيض من المناخات التي تسود الولايات المتحدة، حيث نسبة كبيرة من السكان هناك تعبّر عن تشاؤمها بشأن مستقبل الإقتصاد وتعتقد أن البلد لا يسير في الإتجاه الصحيح، وفق التقرير. وهي مفارقة، لا شك، مثيرة. فما الذي حصل حتى انقلبت أوضاع فييتنام بهذا الشكل خلال العقود الثلاثة الماضية؟
في زيارة قمنا بها لفييتنام في أواخر السبعينيات الماضية، أي بعد سنوات قليلة على تحريرها، كان المشهد الذي فرض نفسه هو أن البلد الذي خرج مدمراً ومنهكاً من الحروب التي تعرّض لها يعيش في حالة فقر شديد، الى حد أن السفير اليمني في العاصمة هانوي كان يروي أنه شاهد أخيراً بلداً أشد فقراً من اليمن! وحالة الفقر هذه، بالإضافة الى عوامل أخرى متعلقة بالتطورات الخارجية، وخاصة بدايات اتضاح مدى تأزم الإقتصاد السوفييتي في أواسط الثمانينيات، هي التي دفعت القيادة الفييتنامية الى اتخاذ قرار في العام 1986 بانتهاج سياسة اقتصادية جديدة أُطلق عليها تعبير "ذوي موي"، بالفييتنامية، ويعني "التجديد". وهي، باختصار، سياسة تقوم على تجاوز المركزة الشديدة لإدارة الإقتصاد، وفتح المجال أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة، خاصة في مجال الإنتاج السلعي والزراعي، مع احتفاظ الدولة بالسيطرة على قطاعات الإقتصاد الإستراتيجية وصناعاته الرئيسية وقطاع المصارف. وفي إطار هذه السياسة، وصل حجم الإنتاج الصناعي للقطاع الخاص في العام 2003 الى حوالي ربع الإنتاج الصناعي الإجمالي للبلد. وتزامن هذا الإنفتاح الداخلي على المبادرات الخاصة مع انفتاح على الإستثمارات الأجنبية، التي تزايدت بشكل مضطرد. وهي صيغة من الواضح أنها قريبة من الصيغة التي اتبعتها الصين العملاقة المجاورة في الفترة ذاتها تقريباً.
ويقول تقرير وكالة أسوشييتد برس المشار إليه أعلاه ان معدل النمو الإقتصادي السنوي خلال العقد المنصرم كان بحدود الـ 7 بالمئة. وفي العام 2005 كان معدل النمو أكثر من 8 بالمئة (8،4 بالمئة)، وهي نسبة تأتي في الدرجة الثانية بعد النسبة العالية التي كانت تحققها الصين من بين الدول الصاعدة إقتصادياً في العالم. كما يشير التقرير الى أن نسبة السكان المعتبرين تحت خط الفقر انخفضت من 58 بالمئة في العام 1993 الى 11 بالمئة في العام 2009. وتشير مصادر أخرى أن هذه النسبة هي أقل من 8 بالمئة حالياً.
وعلى هامش الإستطلاع المشار إليه أعلاه، عبّر 58 بالمئة من الفييتناميين المستطلعة آراؤهم عن رفضهم للحرب الأميركية على العراق، و55 بالمئة للحرب على أفغانستان، مقابل 3 بالمئة فقط اعتبروا الحربين مبررتين، والبقية لم يعبّروا عن رأي بشأنهما. وهي مشاعر مفهومة لدى الأجيال التي عاشت أهوال الحرب (خسائر البلد في الحرب ضد الأميركيين تقدّر بحوالي 3 ملايين مواطن، معظمهم من المدنيين). لكن الأجيال الجديدة التي لم تعش الحرب تبدو من خلال هذه النتائج معادية للحروب أيضاً، بمعزل عن كون العلاقات بين فييتنام والولايات المتحدة قد تم تطبيعها في العام 1995، حين تم تبادل التمثيل على مستوى السفراء، وبمعزل عن كون الولايات المتحدة قد أصبحت أحد أهم المستوردين للمنتجات الفييتنامية. وكانت فييتنام قد انضمت الى منظمة التجارة العالمية في العام 2007، وهو ما فتح أمامها أسواقاً جديدة في العالم، وفي الوقت ذاته، وضعها أمام منافسة السلع والمنتجات الآتية من بلدان العالم الأخرى، وهو ما شكّل حافزاً إضافياً، كما هو الحال بالنسبة للصين التي سبقتها للإنضمام الى هذه المنظمة (عام 2001)، لتطوير المنتجات المحلية ورفع قدرتها على المنافسة.
وهكذا، من بلد كان يعاني من الفقر الشديد، ومن تقنين في المواد الغذائية الرئيسية، وخاصة الأرز، المادة الغذائية الأهم في شرق آسيا، سواء بسبب الخراب الناجم عن الحرب أو تعاقب الفيضانات والجفاف في بعض السنوات أو مشكلات المركزية المفرطة في إدارة هذا القطاع الحيوي تاريخياً في البلد، أصبحت فييتنام الآن ثاني أكبر بلد مصدّر للأرز في العالم، بعد تايلاند، بالإضافة الى كونها المنتج الأول في العالم للبهار الأسود ولفستق الكاشو. كما تقوم فييتنام بتصدير القهوة والشاي والمطاط والأسماك، ومواد منجمية ومصنعة أخرى. ذلك ان نسبة الزراعة في ناتجها القومي تضاءلت من 42 بالمئة في العام 1989 الى أقل من 20 بالمئة حالياً، بسبب تنامي وزن منتجاتها الصناعية وكذلك قطاع الخدمات، بما في ذلك مجال التقنيات العالية وتكنولوجيا المعلومات. فقد تطور ناتجها الداخلي الإجمالي الصناعي بين العامين 1994 و2004 بنسبة سنوية تتجاوز الـ 10 بالمئة. وتنتج فييتنام، وتصدّر، حوالي أربعمئة ألف برميل من النفط الخام يومياً. كما قامت بمضاعفة إنتاجها من الفحم، المصدر الآخر للطاقة، من أقل من 10 ملايين طن في العام 1999 الى 19 مليون طن في العام 2003.
وبالتنامي المتسارع للناتج الداخلي الإجمالي للبلد، باتت فييتنام في المرتبة الـ 44 بين دول العالم من حيث القيمة الفعلية للناتج. ويتوقع أحد المراكز المالية الأميركية أن تصبح فييتنام القوة الإقتصادية رقم 17 في العام 2025. وميزة هذا التطوير الإقتصادي السريع انه يقود، خلافاً لما يحدث في دول أخرى، الى تقليص نسبة الفقر ورفع مستوى معيشة السكان، بالرغم من أن حجم السكان ما زال يتطلب سنوات أخرى للوصول الى مستوى البلدان ذات الدخل المتوسط للفرد. وتذهب معظم صادرات فييتنام الى الصين واليابان وأستراليا، بالإضافة الى دول صناعية متطورة أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول أوروبا. ولكن وارداتها تكاد تكون محصورة في دول آسيا الشرقية وجنوب شرق آسيا، من الصين الى ماليزيا.
يبقى أن نقول أن التنمية الإقتصادية الجارية في فييتنام لها، بطبيعة الحال، جوانبها السلبية أيضاً، من زاوية تنامي الفروقات في المداخيل ونمو شريحة من الأثرياء وظواهر سلبية أخرى تترافق مع تنامي اقتصاد السوق. لكن هذه التجربة، كتجربة جارتها العملاقة الصين، تفتح الباب، من جهة أخرى، أمام تجاوز الفقر والتخلف الإقتصادي، مع الإستمرار المعلن للتوجه الإستراتيجي نحو الإشتراكية. وقد بات واضحاً للقيادتين في كلا البلدين الجارين، بعد تجارب القرن العشرين، أن الإشتراكية لا تُبنى على الفقر والتخلف، وان تحققها يفترض مستوى عالياً من التطور الإقتصادي والعلمي والثقافي، بالترافق مع تحولات إقليمية وعالمية مساعدة. ويمكن أن تكون الأزمة الكبرى الحالية للنظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي مؤشراً على إمكانية حدوث تحولات كهذه في مستقبل مرئي، وإن كان ما زال من الصعب تحديد مداه.
يبقى أن نشير الى كون الثورة الفييتنامية ومقاومتها الكفؤة والناجحة لثلاث قوى عظمى في عالم القرن العشرين قد ألهبت حماس أجيال متعاقبة من الشعوب في أنحاء العالم. فالإنتصار الفييتنامي الأول على فرنسا في العام 1954 كان حافزاً مهماً لانطلاقة الثورة التحررية في الجزائر ضد نفس الإستعمار الفرنسي في أواخر العام ذاته، خاصة وأن قوات الإستعمار الفرنسي في فييتنام كانت تضم في صفوفها مجندين من المستعمرات الفرنسية الأخرى، بما في ذلك من الجزائر. والأمر نفسه ينطبق على ثورات أخرى جرت في إفريقيا في السنوات اللاحقة. أما بطل الثورة الكوبية الأسطوري إرنستو "تشي" غيفارا، الأرجنتيني المولد، والذي جرت تصفيته بعد أسره إثر معركة في جبال بوليفيا في أواخر العام 1967، فكان يرفع شعار مساندة فييتنام عبر إيجاد "فييتنامات" أخرى في أميركا اللاتينية وفي قارات العالم المضطهد الأخرى. وهو ما كان يحاول أن يفعله في بوليفيا، وهو البلد الذي تحوّل اليوم، بعد ثلاثين عاماً على استشهاد غيفارا فيه، الى الخيار الإشتراكي الذي كان يدعو إليه. وليس غريباً كذلك أن تزدهر حركة تحرر السود في الولايات المتحدة في الفترة ذاتها تقريباً، مع اتساع نطاق الحركات المعارضة للحرب الأميركية على فييتنام داخل الولايات المتحدة نفسها في الستينيات الماضية.