التربية الثورية بمنظور فريري


الاخضر القرمطي
2010 / 4 / 30 - 11:24     

المقدمة
                           
                            "تكمن كفاءةُ التربية في إستحالةِ تحقيق كُلّ شيء"
 
 
لقد درجنا على ان نستقبل معظم افكارنا التربوية الحديثة اما من العالم الراسمالي واما من العالم الاشتراكي السابق، فهناك يتم انتاج الفكر الذي يضيف جديدا الى بنية الفكر التربوي وما على شعوبنا الا ان تمارس وظيفتها المعتادة في الوقوف عند حد استهلاك الفكر المنتج والآتي من هناك..... ان الحق الذي يجب ان يقال ان دول العالم الثالث خالية تماما من الانتاج الفكري التربوي الجيّد، الذي يمكّننا ان نضيف ان مشكلة مجتمعات هذه الدول تكمن في ما عبر عنه ابن خلدون بقوله "المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب". ورغم ذلك فقد اتيح لواحد من المفكرين التربويين الذين ينتمون لما يسمى العالم الثالث(او العالم النامي-على طور النمو وما على شاكلتها من تسميات..) ان يحصل على مكانة مرموقة في عالم الفكر التربوي المعاصر.وقد استطاع هذا المفكر ان يخرج بفلسفة تربوية شُيدت في ظل ظروف من فقر واستغلال وتبعية ما زالت اقسام واسعة من مجتمعاتنا ترزح تحت وطأتها القاسية.
 
                 هذا المفكر التربوي هو البرازيلي باولو فريرِ، الذي انتج فكرًا اصيلاً يسعى الى تغيير الواقع الاجتماعي، رافضًا ان تكون نظرياته التربوية مجرد نسخة مقلدة لما ينتجه المجتمع الرأسمالي الغربي الصناعي، وبذلك تـُكسر القاعدة التي تفترض ان الغرب ينتج الفكر وما على الشعوب الاخرى الا ان تستهلكه.
 وقد عُرّفَ فريري مِن قِبل المربي السويسريِ المشهورِ بيير فورتي Furter  كأسطورة في عصره بعد ان أَصْبَحَ رقماً بارزاً في العالمِ الأكاديميِ لمجموعتِه الفريدةِ للنظريةِ بالتجربةِ العمليةِ في حقلِ تعليمِ البالغين. وان كان قد إشتهرَ في أوائل الستّينات لطريقتِه القويَّةِ لتدريب معرفة القراءة والكتابةِ، لكن كتاباتَه تَجاوزتْ تقنياتَ مجرّدَ تدريب معرفة القراءة والكتابةِ وأصبحتْ مَعْلَم لعِلْم أصول التربية في جميع أنحاء العالم.
يتضح من خلال كتبه ومقالاته، ان باولو فريري ينتمي الى ذلك الاتجاه النقدي في التربية، وهو عبارة عن توليفة بين الفلسفة الماركسية وظروف ومتغيرات المجتمع الغربي الرأسمالي، والذي قام بهذه التوليفة اليسار الجديد الذي آمن بكثير من مقولات الماركسية لكنه في نفس الوقت وجد نفسه ملزما بألا ينسى أساليب ومناخ المجتمع الغربي الذي قام على الرأسمالية، فجاء نفر من علماء الاجتماع والتربويين ليؤكدوا أن الازمة ليست ازمة تعليم بقدر ما هي ازمة مجتمع وانه ليس بالتعليم وحده يمكن تغيير المجتمع بل ان استمرار التعليم في ظل استمرار المجتمع المختل يجعل من التعليم اداة لتكريس الخلل وعلى رأسها الطبقية . وكان لابد للعالم النامي أن يجد نفسه في هذه الفلسفة، تعكس همّه الاساسي الا و هو انه يعيش قهرا مكّن لقوى الاستغلال أن تمتص دماءه لا بالقوة العسكرية فقط وانما عن طريق تربية قطيع ليس عليه الا ان يطيع ويسمع, ليكون همّها الاساسي هو الاحتجاج على هذا النوع من التربية (الذي هو تربية القهر) داعية الى نوع اخر من التربية هو التربية للتحرير يقوم على المناقشة والنقد والحوار والاعتماد على الذات.
 
 
                 واهمية باولو فريري بالنسبة للوضع القائم في لبنان والعالم العربي اليوم، يكمن في التشابه بين الاوضاع الاقتصادية والسياسية التي حاول فريري تغييرها عبر التربية في بلدان اميركا اللاتينية وافريقيا، والاوضاع الاجتماعية الحالية لمجتمعاتنا التي ما زالت تعيش تحت اشكال متنوعة من الظلم الاجتماعي والقهر السياسي والاستلاب، وما زالت سجينة لمفاهيم اخلاقية ومجتمعية هي اقرب الى الاسطورة منها الى الفكر العقلاني العلمي. وحيث ما زالت البرامج والآليات التعليمية والتربوية تنتج اجيال مفككة ومهددة بالغرق في مستنقعات الفكر الظلامي الغيبي، وتتعايش في الآن نفسه مع احدث التقنيات الى جانب التمسك بالانتماء والخضوع الى مجالات ومفاهيم اجتماعية محافظة وتقليدية، تنتمي الى نمط اجتماعي اقطاعي بائد ضمن بيئة رأسمالية حديثة على المستوى الاقتصادي. فلا عجب ان يعاد تكرار الحروب الاهلية والازمات المعيشية وحالات التفكك والتهميش الاجتماعيين.
حياة باولو فريري
من الفقر إلى تعليم الفقراء[1]
ولد باولو فريري Paulo Freire في التاسع عشر من سبتمبر عام 1921 في مدينة ريسيف Recife بالبرازيل، وهي ميناء يقع في الشمال الشرقي من البرازيل. كان أبواه ينتميان للطبقة الوسطى، لكنهما كانا يعانيان من مشاكل مالية ضخمة خلال فترة الركود الاقتصادي، وهو الأمر الذي جعل فريري يعايش الفقر والجوع منذ نعومة أظفاره.
وبعد تحسن أوضاع الأسرة استطاع فريري أن يلتحق بكلية الحقوق في جامعة ريسيف، وفي الجامعة قام بدراسة الفلسفة وعلم نفس اللغة، بجانب دراسته الأساسية للقانون، بينما كان يقوم بالعمل لبعض الوقت كمدرس للغة البرتغالية في إحدى المدارس الثانوية، وفي نفس تلك الفترة أيضا انهمك في قراءة أعمال ماركس وسارتر و تشي غيفارا واريك فروم وعدد من المفكرين الكاثوليكيين أمثال ماريتين وبرنانوس ومونييه الذين أثروا تأثيرا قويا في فلسفته التعليمية.
وبعد تخرجه في الكلية عمل لفترة قصيرة كمحامٍ، لكنه اختار الاستمرار في مسيرة التعليم التي بدأها أثناء دراسته (تحديدا منذ عام 1941)، فاستمر في تعليم البرتغالية بالمدارس الثانوية حتى عام 1947. وخلال تلك الفترة تزوج من "إلزا أوليفيرا" التي كانت تعمل بالتدريس أيضًا، والتي أنجبت له 3 بنات وولدين، وقد زادت أبوته من اهتمامه بتعميق قراءاته في مجالات نظريات التعليم والفلسفة وسوسيولوجيا التعليم.
وفي الفترة من عام 1948 إلى عام 1960 عمل في مجال تعليم الكبار وتدريب العمال، وهو المجال الذي كرس له حياته التالية، والذي برز فيه؛ فصار السمة المميزة لفلسفته وكتاباته بقية حياته. ففي الفترة من عام 1961 حتى عام 1964 عمل كأول مدير لقسم الإرشاد الثقافي بجامعة ريسيف، وهو المنصب الذي أهَّله لوضع البرامج التعليمية للفلاحين في شمال شرق البرازيل، وهي البرامج التي حققت نجاحًا وشهرة؛ حيث إنه كان ينجح في تعليمهم القراءة والكتابة في 30 ساعة.
أول حروف القلم
وقد حظي نجاحه في تعليم الكبار باعتراف عالمي دفع الحكومة الثورية في البرازيل لاختياره عام 1963 رئيسًا للمجلس القومي للثقافة الشعبية. وخلال تلك الفترة احتك احتكاكًا مباشرًا بفقراء الحضر، وبدأ في بلورة طريقته الخاصة في التواصل معهم من خلال برامج تعليم الكبار القائمة على "الحوار"، كما استمر في علاقته بالجامعة من خلال عقد حلقات نقاشية عن تاريخ وفلسفة التعليم، ومن ثم تم منحه درجة الدكتوراة في تعليم الكبار عام 1959.
وفي عام 1964 عقب الانقلاب العسكري الذي وقع هناك عُدّ فريري محرضًا سياسيًّا خطرًا على النظام، وأُلقي به في السجن 70 يوما، وخلال سجنه بدأ في كتابة أول أعماله التي كانت بعنوان "التعليم كممارسة للحرية"
وبعد انقضاء سجنه نُفي لمدة 15 عامًا، بدأها بفترة قصيرة في بوليفيا، ثم ما لبث أن انتقل إلى شيلي حيث قضى 5 أعوام يعمل لعدد من المنظمات الدولية العاملة في إطار حركة الإصلاح الزراعي المسيحي الديمقراطي، وفي عام 1969 عمل بالتدريس والبحث بجامعة هارفارد في مجال التعليم والتنمية والتغيير الاجتماعي. وقد أتاحت له الفترة التي قضاها بأمريكا أن يوسع من مفهومه حول العالم الثالث من المعنى الجغرافي إلى المغزى السياسي، وذلك حين اطلع على ما تعانيه الأقليات في أمريكا من ألوان القهر؛ حيث إن أمريكا كانت تموج في تلك الفترة بحركة الأقليات المطالبة بحرياتها المدنية. وخلال تلك الفترة أصدر فريري أشهر كتبه قاطبة، ألا وهو "تعليم المقهورين"
وفي بداية السبعينيات انتقل إلى جنيف للعمل كمستشار لمجلس الكنائس العالمي لشئون التعليم ورئيس للجنة التنفيذية لمعهد الفعل الثقافي Institute for Cultural action، وقد أتاح له منصباه أن يجوب العالم معلما ومرشدا للعاملين في محو الأمية وتعليم الكبار وبخاصة في البلدان حديثة التحرر في آسيا وأفريقيا. وقد كانت أهم محطاته في تلك المرحلة غينيا بيساو التي عمل كمستشار لحكومتها الثورية في مجال تعليم الكبار من مايو 1975 حتى أكتوبر 1976؛ وهو ما أثمر عن كتاب من أهم كتبه، وهو "ممارسة التعليم-الرسائل إلى غينيا بيساو".
وفي عام 1979 سمحت له الحكومة البرازيلية بالعودة من منفاه؛ حيث التحق بالعمل في جامعة ساو باولو. وفي عام 1988 عُين كوزير للتعليم في مدينة ساو باولو؛ مما أتاح له الإشراف على برامج إصلاح التعليم في ثلثي مدارس البرازيل.
وبعد أن أمضى فريري 18 عامًا في البرازيل، وتحديدا في الثاني من مايو عام 1997 توفي باولو فريري بأزمة قلبية في ريو دي جانيرو، بعد أن ترك تراثًا عمليا وفكريا ثريا.
كتابته أَثّرتْ على حركة تحرير النِساءِ وتعليمِ العمال في أوروبا، وتحليلاته على دورِ تَحرير عِلْم التربية في المجتمعاتِ المتقدّمةِ صناعياً (حيث اعتمدت كتبه لدى العديد من الحركات الثورية كالجيش الجمهوري الآيرلندي IRA) موضوعَ مهمَ حالياً للنِقاشِ والتَفْكير التربويِ.و هي لَنْ تَكُونَ مبالغةً لمقارنته بجون ديوي الذي كَانَ الشخصية المسيطرةَ في عِلْم أصول التربية في النصف الأوّلِ مِنْ القرنِ العشرين،كونه كَانَ المحفّزَ للإبداعِ التربويِ في النصف الثاني من القرن المنصرم.
 
 
 
 
 
 
 
 
ماهية التربية
 
"التعليم عملية سياسية كما ان السياسة عملية تربوية"
" لايوجد تعليم محايد فهو اما للقهر واما للتحرير"
                 يرى باولو فريري ان المجتمع بأكمله ينقسم الى فئتين متمايزتين هما طبقة القاهرين الذي يمسكون بمقاليد السلطة ، وطبقة المقهورين الذين يرضخون للطبقة الاولى وحتى يساهمون في ديمومة مجتمع القهر من دون وعي منهم، ويرى فريري ان الطبقة الثانية يسودها ما يسميه "ثقافة الصمت" نتيجة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتسلط الابوي. ومن هنا يبدو النظام التربوي في كل المجتمعات التي يسودها القهر والتمييز الطبقي مكرسًا لخدمة ثقافة الصمت وبالتالي السلطة ومصالحها.
والقهر هو " اي وضع يستغل فيه انسان انسانًا آخر او يعطل قدراته في تحقيق ذاته(...) ذلك ان مثل هذا السلوك يحول دون ممارسة الكينونة الذاتية للانسان".[2] والسلوط القهري يعني ان اقلية قاهرة تحول دون ممارسة الاغلبية لوجودها الانساني.
                 واذ ينطلق من فكرة مغايرة لما هو شائع بين التربويين من ان التربية هي التي تشكل المجتمع، وبالاخص تلك التربية النظامية المقصودة، يرى فريري ان "التربية لا تشكل المجتمع وانما المجتمع هو الذي يشكل التربية وفقًا لمصالح اولئك الذين يمسكون بزمام السلطة فيه"[3]  اي تلك الفئة التي يطلق عليها تسمية القاهرين. وتنحصر مهمة التربية في مجتمع مبني على القهر في السهر على مسيرته وتأبيده. وبالتالي فان تغيير النظام التربوي جذريًا يبقى مرتهنًا بالتغيير الجذري للمجتمع. وان تأسيس نظام تربوي انساني لن يكون سوى نتيجة من نتائج انسنة المجتمع بالغاء ظروف القهر والفقر والجهل والتمييز الطبقي.
                 ورأى ان  أيّ منهج تربوي تعليمي يُهملُ التمييز العنصري , والجنسي، و إستغلال العُمّالِ، وأشكال أخرى مِنْ الظلمِ في نفس الوقت يَدْعمُ الوضع الراهنَ.و يَمْنع ُاي عملٍ إجتماعي مبدع ومُحرّر[4].
ان ممارسة التعليم هيِ جزء من البناء الفوقي لأيّ مجتمع.و لذلك السبب بالذات، فان  الممارسة التربوية، بالرغم مِنْ أهميتِها في العملياتِ التاريخية لتغييرالمجتمعاتِ، الا انها في ذاتها ليست المفتاحِ إلى التغيير، و لكن بشكل جدلي التغيير  في نفسه تربويِ. من هنا يجب اعتبار التربية عنصرًا مساعدًا من عناصر التحرير الاجتماعي والتغيير الجذري،" وعلى الذين يريدون الاسهام في التحرير ان يبذلوا جهدًا مضاعفًا داخل النظام التربوي وخارجه على السواء، وبالتالي تصبح التربية عملاُ جماعيًا يتشارك فيه المعلمون والمتعلمون وكل الذين يسعون الى التغيير الاجتماعي"[5].
                 وفي سياق نقده لمشاريع التنمية التي اتبعتها مجتمعات العالم الثالث غداة استقلالها، يرى فريري ان انظمة الحكم المستقلة في هذه المجتمعات اخفقت اخفاقًا فاضحًا في مسيرتها التنموية والسبب الرئيسي في ذلك يعود الى ان انسان هذه المجتمعات لم يؤخذ بعين الاعتبار، عنصرُا اساسيًا ومحوريًا في اي خطة تنمية، بل بالعكس فرض عليه الممسكون بالسلطة الخضوع ، واسسوا بنية اجتماعية تثبت علاقات القهر والتسلط وتؤسس لاجيال مقهورة وراضخة دومًا.
                 البنية النفسية للمقهورين
                 وباستناده الى تحليلات المفكر اريك فروم[6]، يرى فريري ان لوضعية القهر آثار مدمرة على التكوين النفسي والعقلي للانسان، وابرز هذه الآثار هي الرغبة في الخضوع والهيمنة، اي تنامي الرغبات السادية والمازوشية لدى المقهورين. وتظهر المازوشية بوضوح في مشاعر الدونية والعجز واللاجدوى والتقليل من الذات لصالح التبعية والرضوخ لاشخاص آخرين او لمؤسسات قوية كالدولة والسلطة الحاكمة. ولكن الى جانب هذه الميول المازوشية تتنامى لدى المقهورين الميول السادية، وان كانت هذه الميول هي الطاغية لدى القاهرين، الا انها تجد مكانًا لها في التركيب النفسي للمقهورين الذين ما ان يتخلصون من القهر حتى يمارسونه على الآخرين. وتتميز شخصية المازوشي-السادي يموقفه من السلطة حيث انه "يعجب بالسلطة ويميل الى الخضوع لها، ولكن في الوقت نفسه يكون هو ذاته سلطة ويكون عنده آخرون يخضعون له"[7].
                 وهكذا فان "نرعة القاهرين في امتلاك كل شيء حتى الانسان هي ضرب من السادية (...) ويتضح من ذلك ان اهم مقومات الشخصية القاهرة نزعتها نحو السادية [فهي] تجنح بالضرورة الى تدمير الطاقة الابداعية التي تكمن في الحياة".[8] واذ يتقمص المقهورون شخصية القاهرين فان القوة التدميرية المختزنة داخلهم لا تتوجه بالعنف نحو الواقع المظلم الذي يعيشون فيه، بل يتحول هذا العنف نحو زملائهم من اجل اتفه الاسباب.
ويرى فريري ان الخوف من الحرية هو "الذي يجعل المقهورين راغبين في انتحال ادوار القاهرين (...) وبمجرد ان يتمثل المقهور دور القاهر ويحتفظ بملامحه داخل نفسه يغدو خائفًا من االحرية".[9]
وازمة المقهورين المأساوية، تكمن في الصراع الذي يختلج داخلهم بين " ان يلعبوا دورهم الحقيقي وبين ان يلعبوا دور قاهريهم، بين ان يتكلموا بصراحة وبين ان يلزموا الصمت مكبلين طاقاتهم في الابداع واعادة الابداع من اجل بناء عالمهم الجديد"[10].
                 ومن خصائص شخصية المقهور تحقير الشعور الذاتي، وقد اسمتد المقهور هذه الحقيقة من استبطانه لآراء القاهر المتأصلة في نفسه، فكثيرًا ما يسمع عن نفسه انه لا يصلح لشيء ولا يعمل شيئًا، وليس له الاستعداد لتعلم اي شيء، وهو غير منتج، ولكثرة تردد هذه الاقوال يقتنع بها ويفقد الثقة بنفسه ويزداد ثقة بقاهريه الذي يمثلون بنظره المعرفة والقدرة على تسيير الامور لصالحه.
وهذه الازمة هي ما يجب ان يهتم لها نوع التعليم الذي يخضعون له منذ طفولتهم. فكيف يساهم النظام التربوي في القهر؟
البذور التربوية للقهر منذ الطفولة
                 تلعب التربية العائلية دورًا جوهريًا في تأسيس ظروف مجتمع قهري. فمنذ الطفولة تسعى التربية الى استئصال التلقائية وكبت تطور الفردية الاصلية للطفل، ومن الاهداف الرئيسية للتربية استئصال رد الفعل المعادي والمتمرد الذي يسلكه الطفل، عبر سيل من التهديدات والعقوبات التي تشوش الطفل وتجعله يقلع عن عداوته، ليبدأ "بالتنازل عن التعبير عن شعوره واحيانًا ما يتنازل عن شعوره نفسه"[11]. ويجري تعليم الطفل على ان يكون لديه مشاعر ليست على الاطلاق مشاعره هو، ويصبح الطفل مجرد آلة، ذات وعي ساذج وبسيط، يتوقع منها ان تستجيب لمؤثرات خارجية بشكل غير نقدي او تشكيكي.
                 وباسم الحب والتفاني تغرس الام في نفوس اطفالها التبعية لتشل عندهم كل رغبات الاستقلال، فيصبحون كملكيتها الخاصة، وباحطاتهم بعالم من الخرافات والمخاوف ينشأ الاطفال انفعاليين وخرافيين وعاجزين عن التصدي للواقع من خلال الحس النقدي والتفكير العقلاني.
                 اما الاب، فيكمل عمل الام، من خلال ما يفرضه من تسلط وهيمنة على الاسرة، فيغرس الخوف والطاعة في نفس الطفل الذي يتعرض لسيل من الاوامر والنواهي باسم التربية الاخلاقية و تحت شعار قدسية الابوة وحرمة الامومة.
وبتأثير الاهل والام على الاخص، يحمل الطفل معه الى المدرسة، مجموعة من الافكار البائدة والممارسات الخرافية والنظرة الغيبية، كالغيلان والعفاريت والجن والاشباح والارواح، وهي افكار لا تجيبه عن تساؤلاته حول اسرار الوجود اجابة مرضية وصحيحة، بقدر ما تننمي لديه شعور الخوف والكذب.
                 وفي المدرسة تنفصم شخصية الطفل، حيث لا يتم اقتلاع هذه الافكار الوهمية، لا بل تتعايش مع نظريات علمية يتلقاها ايضًا من دون مناقشة او نقد وتفرض عليه، ولكن تبقى قشرة خارجية "تسقط عند اول اختبار امام الازمات الحياتية، بينما تظل التجربة الخرافية للوجود متأصلة في الاعماق، وبالطبع لا يساعد هذا مطلقًا على اكتساب العقلية العلمية المنهجية"[12].
                 ان ما يحدث في المنزل يتكرر في المدرسة ايضًا "حيث يكتشف الطلاب انهم كي يحققوا بعض التوافق مع النظم المدرسية فلا بد لهم ان يمتثلوا لما يملى عليهم من فوق، وما يملى عليهم هو الاقلاع عن التفكير"[13].
                 وهكذا فبسبب استبطان السلطة الابوية القائمة على صرامة العلاقة والتي تغذيها المدرسة، فان هؤلاء الطلاب حين يشبون ويصبحون رجالاً متخصصين يبدأون في اعادة نفس الاساليب التي اسيء تعليمهم بها.
                 وفي كل المراحل الدراسية يسير الامر على نفس المنوال حيث يعيش الطلاب اغترابًا نتيجة التعارض والتناقض بين ما يتلقونه من نظريات علمية ومن افكار اخلاقية مثالية وبين الواقع الذي يعيشونه والمشكلات التي تعترضهم وتعترض المجتمع باسره يوميًا. وتستمر التربية التلقينية التجزيئية في المدرسة لتساهم في تفكك شخصية الطلاب وتمنعهم من رؤية الواقع بشموليته، وتعترض محاولاتهم للنقد والتشكيك والابداع.
                 وحتى عندما ينتهي الشخص من العميلة الدراسية فانه يصطدم بنظام تربوي عام تفرضه السلطة الرسمية القاهرة عبر الاعلانات والشعارات والخطابات والانظمة والقوانين التي تشدد على التسامح والاخلاقية وقداسة المحافظة على التقاليد الاجتماعية والوطنية، والتي تهدد بالعقوبات لكل من يحاول تغيير الوضع القائم. وهذه الآلية التربوية العامة تخفي، بحسب، فريري، رغبة القاهرين في تأبيد سيطرتهم وديمومة النظام الاجتماعي الذي يؤمن مصلحتهم كسلطة؛ اي بمعنى آخر تهدف هذه الآلية الى تشكيل مجتمع من المقهورين المسلوبي الارادة والمفككي الشخصية والخاضعين، لعدم تمتعهم بالحس النقدي وبالمنهجية العقلانية العلمية في التفكير والممارسة.
               آليات القهر التربوي
                 وبالرغم من ان البنية الكلية للمجتمع، بما تحتويه من فقر وتخلف وتقسيم طبقي، تفرز بطبيعتها ما يشكل سلوك المقهورين، الا ان هناك عددًا من الوسائل والآليات التربوية المتكاملة التي يلجأ اليها القاهرون لاتمام عملية صياغة الشخصية المقهورة، واهم هذه الوسائل هي:
1-الغزو: والغزو ضرب من السيطرة الاقتصادية والثقافية قد تمارسه دول على مجتمع ضعيف او طبقة على اخرى. وقد يكون هذا الغزو ظاهرًا او مقنعًا، حيث يراد من المقهورين ان ينظروا الى واقعهم نظرة القاهرين، وبان يقتنعوا بدونيتهم اعترافًا بعلوية الغزاة.ويراد من الغزو الثقافي ان يتمثل المغزوون بغزاتهم من خلال طريقة مشيتهم ولبسهم وسلوكياتهم الاجتماعية، وبذلك يترسخ الازدواج في شخصياتهم ولا يدرك المقهور التناقض بينه وبين القاهر. لا بل يتم ايهام المقهورين بانهم يقررون بانفسهم ولانفسهم بكل حرية.
وضمن آلية الغزو، لا يؤمن القاهرون باسلوب الحوار، بل يسعى القاهر الى هزيمة الآخرين بكل الوسائل المتاحة، العنيفة والمهذبة، القامعة والابوية. "ويعمد الغازي في كل الظروف الى فرض اهدافه على المغزو حتى يجعله جزءًا من ممتلكاته الخاصة ، ولكي يمارس المغزو حياته فانه يستبطن شخصية الغازي في داخله وبذلك يمارس وجودًا مزدوجًا يحوله من طبيعته الانسانية الى مجرد شيء (...) و [هذه] هي النتيجة الحتمية للعمل اللاحواري."[14]
وهذا ما سنجده في التعليم البنكي كآلية من آليات النظام التربوي.
2-فرق تسد: ويتلخص "في انه ما دامت الاقلية في مجتمع المقهورين هي التي تخضع الاغلبية لسيطرتها فان سبيل بقائها في الحكم رهن قدرتها على تفريق كلمة المقهورين"[15] وذلك عبر القهر البيروقراطي والتضليل الثقافي والسياسي الذي يوحي للشعب ان القاهرين يقومون بمساعدتهم تحت شعارات طنانة كالتنمية الاجتماعية وعبر الايحاء للمقهورين انه يتم حمياتهم من المتطرفين والمشاعبين واعداء الدين والوطن. ويبدو هذا المبدأ جليًا خلال تفاقم الصراعات الطبقية كالتدخل في العمل النقابي واستغلال بعض جوانب الضعف في الطبقات المقهورة..."ان ما يرغب فيه القاهرون بالفعل هو اضعاف المقهورين وعزلهم وتعطيل قدراتهم في الابداع وتعمبق الهوة التي تفصل بين تفكيرهم المشترك(...) ولعل اخطر وسائل القهر الثقافي هو ما يقوم به بعض المتخصصين الذين يركزون فكرهم في قضايا جانبية وجزئية يحجبون بها الناس عن رؤية الواقع في صورته الشاملة".[16]
3-الاستغلال: حيث يحاول القاهرون استغلال المقهورين عبر سيل من الاساطير والخرافات كأسطورة الرجل العصامي والنجاح الفردي واسطورة السوبرمان...وبوسيلة الاتسغلال تحاول الطبقة المتسلطة ان تجعل كتلة الناس تتوافق مع اهدافها. "وكما الغزو فان الاستغلال ايضًا هو محاولة لتحييد الناس وصرفهم عن التفكير في الواقع، ذلك ان التفكير في الواقع يؤدي بهم الى القيام بالعمل الحقيقي (...) ولما كانت الطبقة المسيطرة تدرك ذلك تمامًا فانها تعتمد الى استخدام جميع الوسائل بما فيها العنف لمنع الناس من التفكير في هذا الاتجاه وتردك هذه الطبقة ان الحوار يؤدي بالضرورة الى نزعة النقد".[17]
وتتوضح الآلية التربوية للقاهرين في النظام التعليمي. وانتقادات باولو فريري للنظام التعليمي التقليدي او البنكي اتت نتيجة المشاهدات واللقاءات والدراسات الميدانية وفي مدارس محو الامية ،و التي قام بها في عدد من بلدان اميركا اللاتينية، حيث اختبر مباشرة الآلية التربوية التي تفرضها السلطات القاهرة على الفئات العمالية والفلاحين والفقراء.
التعليم كسبيل للثورة
التعليم عند فريري سبيل للثورة على القهر، وصولا إلى الحرية وإلى تمكين المقهورين من مقدراتهم، ومنهجه في تحقيق ذلك يرتكز على "الحوار" الذي يتبادل فيه المعلم والمتعلم أدوارهما؛ فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل إلى تعليمهم. وهذا المنهج مناقض للمنهج الذي أسماه فريري بـ"التعليم البنكي" (Banking Education) الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات "سابقة التجهيز" في أدمغة المتعلمين، الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات. وكلما كان المعلم قادرا على اداء اسلوب التعليم البنكي كان ذلك دليلا على كفاءته.
نقد التعليم البنكي او التعليم من اجل التطويع
                 يرى باولو فريري ان اهم ما يميز التعليم البنكي هو لهجته المتعالية وعدم قدرته على احداث التغيير، لينحصر دور الطلاب في "الحفظ والتذكر واعادة الجمل التي سمعوها دون ان يتعمقوا مضمونها، وليس من هدف لهذا التعليم التلقيني سوى تعويد الطلاب اسلوب التذكر الميكانيكي لمحتوى الدرس وتحويلهم الى آنية فارغة يصب فيها المعلم كلماته الجوفاء"[18].
 يحول التعليم البنكي المعلم الى مصدر للبيانات ومودع للمعلومات فيما يبدو الطالب مجرد مستقبل للمعلومات يملأ بها رأسه ويخزنها دون وعي، مما يحرمه من فرص الابداع والتطوير. وحتى الاخطاء التي يرتكبها المعلم لا يُسمح باثارتها او التعليق عليها، وليس من الوارد الاعتراف بها من قبل المعلم.
                 يبدو الدرس، في التعليم البنكي، ملك خاص للاستاذ وليس موضوعًا يستثير الحاسة النقدية بين الطالب والاستاذ، ولا يشترط في الطلاب بهذا الاسلوب ان يعرفوا الدرس بل المهم ان يتذكروه ويحفظوه.
ويكتب باولو فريري رسائل الى المعلّمين الذين يتجاسرون على اتخاذ التدريس مهنة، ويعَنون احدى رسائله "من مجرد الحديث الى الطلاب الى الحديث اليهم ومعهم ومن مجرد الاستماع اليهم الى جعلهم يستمعون الينا". ويرى ان المعلمين اذا كانوا يمثلون التسلط بانتظام فهم دائما الذين يبدأون بالكلام بينما الطلاب خاضعين لخطابهم وهم في هذه الحالة يتحدثون الى وعن وحول الطلاب وليس معهم،موقع علوي الى مستوى ادنى, واثقين من صحة كل ما يقولونه حتى عندما يتحدثون مع المتعلمين يشعرون كما لو انهم يقدمون لهم معروفا, مؤكدين على قوة اصواتهم وسلطتها.
ان التعليم البنكي بالنسبة لباولو فريري يجسد سيطرة المجتمع الابوي البطريركي على النظام الاجتماعي بأكمله، ويصبح التعليم منحة يتفضل بها من يعتبر نفسه ممتلكًا للمعرفة على اولئك الذين لا يعرفونها. وهنا تتبين "فلسفة القهر" التي يمارسها التعليم البنكي عبر اضفاءه صفة الجهل على المتعلمين، ويظهر ذلك بوضوح عندما يقدم المدرس نفسه امام طلابه على انه الصورة المضادة لهم، فهو باضفائه صفة الجهل عليهم يبرر وجده كأستاذ. وعلى نفس المنوال تضفي السلطة القاهرة صفة الجهل والتهميش على المقهورين لتبرر وجودها على صعيد المجتمع ككل.
                 ثم هناك حلقة اخرى من حلقات القهر الذي يمارس على مختلف المستويات في حياة الانسان المقهور من حيث المستويات فان المواد الدراسية تظل اجمالا غريبة عن الاطار الحياتي للتلميذ. انه يتعلم عموما اما محتويات دراسية مستوردة من خارج المجتمع (نظريات وعلوم الغرب مطبّقة على ظواهره مثلاً) في المراحل العليا واما مواد لا تمت الى واقع التلميذ من الفئات الشعبية في المراحل الابتدائية والمتوسطة, فمعظم المناهج التي تعالج تنتمي الى حياة الطبقة المسيطرة وتغرس في نفس الطفل المثل العليا السائدة لهذه الطبقية والتي لايمكنه عمليا وواقعيا ممارستها في حياته اليومية.
                 و النقد الذي يوجهه باولو فرير للتعليم البنكي لا يهدف فقط الى نقد هذا النوع من التعليم بحد ذاته، بل الى تبيان الدور السلبي الذي يقدمه هذا التعليم في تنشئة كائنات متأقلمة وسهلة الخضوع، وتحاول دائمًا التأقلم مع الواقع المفروض عليها، عبر التقليل من القدرة الابداعية والابتكارية النقدية من اجل خدمة اغراض تلك الفئة القاهرة والتي تمسك بزمام السلطات الاقتصادية والسياسية والايديولوجية في المجتمع. فالقاهرون يتصرفون بغرائزهم ضد اي محاولة في التعليم تستهدف تنمية الملكة النقدية وترفض النظرة الجزئية لحقائق العالم.ومن شأن ذلك التعليم البنكي أن يخرج قوالب مكررة ومدجنة من البشر تساهم في "تكريس" الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع جائرة. "والحقيقة هي انه كلما تأكدت حقيقة ان الطلاب مجرد مخازن للمعلومات كلما قل وعيهم بالعالم المناط بهم تغييره، فقبولهم لهذا الدور السلبي المفروض عليهم يعني بالضرورة تأقلمهم المستمر مع الواقع المفروض عليهم والمعرفة المبتسرة التي اريد لها ان تملأ عقولهم".[19]
                 ان التعليم البنكي الذي يطبق في المدارس يشكل حلقة من سلسلة الآليات التربوية التي تفرضها السلطات القاهرة لتهميش المقهورين وتأبيد الامر الواقع، ومن الطبيعي ان يرى فريري في المعلم الذي يعتمد هذا النوع من التعليم ممثلاُ-عن قصد او غير قصد-للسلطة المستبدة، وعائقًا امام التغيير الاجتماعي، مما يستوجب تكوين شخصية جديدة للمعلم تجعله في صف الثورة والتحرير اكان ذلك في المجال التعليمي ام في المجال الاجتماعي الاشمل.
من مظاهر التعليم البنكي
1-الاستاذ يعلم
الطلبة يتلقون
2-الاستاذ يعرف كل شيء
الطلاب لا يعرفون
3-الاستاذ يفكر
الطالب لا يفكر
4-الاستاذ يتكلم
الطالب يسمع
5-الاستاذ يختار ويفرض اختياره
الطالب يذعن للاختيار
6-الاستاذ هو قوام العملية التعليمية
الطالب نتيجتها
التعليم الحواري ومنهج طرح المشكلات
وبالتناقض مع التعليم البنكي، يرتكز التعليم الحواري على الادراك اكثر مما يركز على نقل المعلومات، وبذلك تقف مادة التعليم في وضع وسطي بين الطالب والمعلم، لتنشأ بين الاثنين علاقة حوارية تساعدهما على الوعي بمادة التعليم.
معالجة المشكلات
"الكلمة ليست حكرًا على طائفة معينة من الناس"
ويستند التعليم الحواري على قاعدة معالجة المشكلات،حيث تطرح المشكلات (التحديات) التي تواجه الطلاب والمجتمع بشكل مباشر او غير مباشر،و حيث تختفي العلاقة التراتبية بين الاستاذ والطالب، لتحل مكانها علاقة جديدة هي علاقة الاستاذ والطالب والطالب والاستاذ معًا في حل المشكلات. وفي هذه العلاقة "لن يصبح المدرس هو وحده الذي يدرّس لان المدرس في العلاقة الجديدة يتعلم ايضًا من خلال حواره مع الطلبة، كما ان الطلبة لا يدرسون فقط بل انهم يعلّمون ايضًا (…) [اي ان] الجميع يتبادلون المعرفة حيث يتوسطهم العالم في هذه الممارسة"[20].
والمدرس في طريقة التعليم عن طريق معالجة المشكلات، لا يتخذ من الموضوعات ملكًا خاصًا له بل يستخدمها للاشتراك في التبصر بها مع طلابه، وبهذه الطريقة يمارس عملية اصلاح مستمرة مستمدة من رؤيته ورؤية طلابه. ودور هؤلاء الآخرين "لا يقتصر على الاستماع فقط بل هم من يشاركون بالنقد والبحث والحوار مع المدرس وبصورة ايجابية، [اما] دور المدرس فيتركز في تحضير المادة للطلبة للنظر فيها. اما دوره في طريقة عرض القضايا والمشكلات فيتلخص في مشاركة تلاميذه في تهيئة المناخ الملائم لعملية التعلم."[21]
 وبذلك يمكّن هذا النوع من التعليم كلا الطلبة والاستاذة من تجاوز ظاهرة الاحتكار الثقافي والخضوع للتصورات الكاذبة عن العالم كتلك التي بدأت مع المراحل الاولى للتربية وصولاُ الى تلك الآليات التربوية التي فرضها القاهرون.
ان اسلوب طرح المشكلات انما "ينشأ وينظم من خلال آراء الطلاب عن العالم ولاجل ذلك فان موضوعه يتوسع ويتجدد باستمرار باختلاف تصورات الطلاب"[22] . والتعليم عن طريق طرح المشكلات يساعد الطلاب على تطوير ملكتهم النقدية، حيث يبدأون في رؤية العالم على انه حركة متطورة، مما يستفز عندهم نزعة الفهم والتبصر بحقائق الوجود ويجعلهم على ثقة من كونهم نقطة البداية في اي تحرك عملي تغييري.
                 وفي اساس منهج طرح المشكلات اعتبار الناس كائنات في مرحلة الصيرورة، يمارسون وجودًا غير مكتمل وهذه ظاهرة تميز الانسان عن سائر الكائنات، ولذلك فان نظام طرح المشكلات لا يعترف بالحاضر المشرق ولا بالمستقبل المحدد سلفًا، ولكنه يعترف دومًا بحقيقة الوجود الانساني المتسامي والمتجه دومًا الى الامام والذي يعتبر الجمود تهديدًا له بالفناء وهو يعتبر الماضي مجرد وسيلة يتفهم بها الحاضر والمستقبل.
 
الحوار المشترك
لا يقتصر دور التلاميذ في التعليم الحواري على الاستماع فقط، بل يشاركون بالنقد والبحث والحوار مع المدرس وبصورة ايجابية. ذلك ان على التعليم الحواري ان يخلق نوعًا من القلق المستمر والتحدي الدائم لسلسلة من المشكلات الواقعية امام الطلاب الذين يشعرون بمسؤوليتهم في مواجهة التحدي، ليبدأوا عملية الاتصال بواقع حياتهم الفعلية، وليتحلوا بمزيد من الفهم والالتزام.
 دعا فريري الى تأسيس "حلقات ثقافية" تجمع المعلمين والطلاب حيث تناقش دومًا مشاكل الواقع الراهن عبر الحوار المشترك. و قد راجت هذه الطريقة في الحلقات التي اقامها في مدارس محو الامية.
ويقول فريري ان الحوار هو "المواجهة الحقيقية بين البشر من اجل تسمية العالم حولهم" وهو بالتالي "ابداع واعادة ابداع لا يمكن لها ان تتم في غياب الحب الذي هو اساس الحوار بل لعله هو الحوار نفسه (...) ولما كان الحب موقفًا شجاعًا لا يحفل بالخوف فانه يعترف بالآخرين وحقهم في الحياة وهو حق يتمثل في تحقيق الحرية لهم و(...) الغاء القهر هو وحده الذي يحقق الحب لان القهر يعارض الحب بالضرورة، فاذا لم استطع ان احب العالم والحياة والناس فلن يكون في مقدوري ان اقيم معهم اي نوع من الحوار."[23]
ان الحوار يستلزم الحب كما يستلزم التواضع، والثقة بين المعلمين والمتعلمين بما يتناول قدرتهم الابداعية والنقدية التغييرية، وهو بالتالي علاقة تضامن وأمل مشترك، في معرفة العالم وادراكه. ومن هنا تظهر الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية، التي تبدأ حين يسأل المعلم نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعًا للحوار مع طلابه، لتصبح المادة موضوع المعالجة والحوار مشتركة في بنائها بين الطالب والاستاذ.
وهكذا يكون الحوار:
1.                                     نوع من أنواع العلاقة بين المعلمين والمتعلمين.
2.                                     منهج بحث  كأداة للوعي بوقائع العالم .
3.                                     و تنمية مهارات الاصغاء، ، تبادل للمعلومات وسعي إلى اقتناع مشترك مبني على الثقة والتواضع والأمل.
 
 
ويقول باولو فريري عن الحوار، مبرزًا اهمية "الكلمة" في تسمية وتغيير العالم:
"الحوار ظاهرة إنسانية. و"الكلمة" جوهر الحوار. الكلمة تأمل وفعل، في حالة تفاعل جذري مستمر. الحوار " ضرورة وجودية" تجمع بين الفكر والعمل، إدراك العالم والعمل على تغييره، تشمل جميع الناس. الحوار مع الجماهير ليس تنازلاً أو منحة، وليس تكتيكا للسيطرة. الحوار- كلقاء بين الناس لتسمية العالم- شرط أساسي لإنسانيتهم الحقة.
 لكي يتم الحوار ويكون مثمرا يجب توافر بعض الشروط:
لا يمكن أن يوجد حوار في غياب حب عميق للعالم والحياة والناس.
لا يمكن أن يتم حوار مع وجود نزعة الإستعلاء على الآخرين، أو الشعور بالتفوق عليهم.
لا يوجد حوار دون وجود الأمل. فاليأس نوع من الصمت، من إنكار العالم والهرب منه. ليس معنى الأمل أن يجلس الإنسان ساكنا ينتظر أن تحقق آماله. بل ينبغي أن يدفع الأمل إلى الصراع من أجل تحقيق الهدف.
يشترط للحوار توافر الإيمان القوي بالإنسان، والثقة في قدرته على الخلق، والتحرر من العبودية والسيطرة والاستغلال. ثم الثقة المتبادلة بين الناس.
لا يمكن أن يقوم حوار دون أن يتضمن تفكيراً ناقداً، لا يفصل بين الإنسان والعالم، أو بين التفكير والممارسة، ينظر إلى الحقيقة على أنها عملية مستمرة وليست شيئاَ ثابتاً جامداً.
قيمة الحوار، هو السمة الأساسية للإنسان، و السبيل إلى المعرفة، و أسلوب العمل الاجتماعي. يصبح الحوار منهجا ومذهبا في نفس الوقت، عندما يدخل المعلمون والمتعلمون في حوار من أجل معرفة العالم وتغييره."[24]
ويهدف ذلك المنهج الحواري لدى فريري إلى خلق حالة من "الوعي النقدي" (Critical Consciousness)؛ وهو ما يمثل قلب منهج "التعليم التحريري" (Libratory Education) لديه.
 والوعي النقدي-وهو لا يقتصر فقط على الطلاب- هو مستوى من الوعي يتميز بالعمق في تفسير المشكلات التي يعيشها الفرد المقهور، والتي ربما يكون الفرد ذاته جزءًا متآلفًا ومتعايشًا معها بل ومبررًا لها. وهو وعي ينبني من خلال كفاح مجموع المقهورين ومراجعاتهم الدائمة لأعمالهم وأفكارهم من خلال خلق حالة حوارية دائمة ومتصلة.
والوعي النقدي هو وعي بالوضعية الانسانية القائمة، "ذلك ان الانسان في نقده لوضعه يبدأ في اكتشاف الآخرين الذين هم في مثل وضعه، فالرجال يبدأون عادة في الخروج من واقعهم الذين هم فيه لاكتساب القدرة على تغييره بعد تعريته"[25]. ان الوعي النقدي هو مستوى من الوعي يعمل بالعمقِ على تفسيرِ المشاكلِ، من خلال االاختبار المباشر للمشاكل التي تواجه الطلاب والمجتمع بشكل عام، بهدف اكتشاف الامكانيات المتاحة للتغيير. ويرى فريري ان الوعي النقدي ليس عملاً فرديًا يخص المعلمين او الطلاب كل على حدة، بل عمل جماعي يرتبط بالممارسة والفعل الاجتماعي.
وهذا الوعي يجعل المقهورين-وعلى رأسهم الطلاب- ينتفضون على واقع "ثقافة الصمت" (Culture of Silence) التي يفرضها عليهم القاهرون بتحكمهم في المدارس وسائر المؤسسات التي تسهم في تشكيل وعي المجتمع، والتي تخلق وعيًا سلبيًّا لديهم يجعلهم يستبطنون صورًا سلبية عن ذواتهم، وتجعلهم يشعرون بعدم قدرتهم على إدارة شؤونهم بأنفسهم، وبأنهم دائما في حاجة إلى قاهريهم. ويهدف فريري من إكساب المقهورين ذلك الوعي النقدي إلى بث الثقة في نفوسهم وتعليمهم الأمل"Pedagogy of Hope" بقدرتهم على الفعل الإيجابي لتغيير واقع القهر الذي يعيشونه.
ويهدف فريري من تلك السلسلة المترابطة من المراحل إلى: (تعليم تحريري) قائم على الحوار يؤدي إلى (وعي نقدي) محدثا (فعلا جماعيا) لتغيير واقع القهر بما يؤدي إلى (أنسنة Humanization) المجتمع البشري بقاهريه ومقهوريه، وإزالة ثقافة "نزع الأنسنة" (Dehumanization) التي تسود العالم، وتحوله إلى غابة تتصارع فيها الحيوانات الاجتماعية للفوز بأكبر نصيب من فرائس الدنيا، وهو الصراع الذي لا مكان فيه للضعفاء والمهمشين والمقهورين.
ويتكلم فريري عن معالجة النصوص، فهذه يجب ان تخضع لمنهجية تتلائم مع تنمية الفكر النقدي التغييري، وبناء الوعي القادر على التغيير الاجتماعي.
وتعتمد منهجية تربوية النص[26] على:
1.                                     الحوار والنص
2.                                     المعرفة
3.                                     الوعي
4.                                     النقد البناء
1.      الحوار:
اسلوب للاتصال والاقناع المشترك المبنى على احترام اراء الاخرين وتقديرها.
2.      المعرفة:
فهم واضح لشيء أو لمعلومة أو لحالة أو لأمر ما، تعتمد على عنصرين مترابطين لشكل وثيق: النظرية والتطبيق.
مثال:
النظرية: نظف أسنانك كل يوم
التطبيق: شراء فرشاة ومعجون أسنان وتعليم الأطفال على كيفية استعمال الفرشاة بالشكل الصحيح.
الأداة المعرفية هي:
أهم أداتين للمعرفة هما اللغة والرياضيات، وهما معرفة مكتسبة تسمح بامتلاك معارف أخرى.
3.      الوعي:
الوعي هو العملية التي يستطيع الإنسان عن طريقها معرفة الظروف التي يعيش فيها والتي تؤثر فيه والعمل على تغيير هذه الظروف.
أي انه وعي للواقع الذي نمارسه  وبالتالي نعمل على تغيير هذه الممارسات.
4.      النقد البناء:
القدرة على نقد مدى ملائمة المعارف المكتسبة مع الواقع، فالمعارف المكتسبة يجب أن تكون عملية، أي لا تفسر الواقع فقط بل تقود إلى أفعال تؤثر في تبديل الواقع.
 
المعلم الحواري
 
ولكن التعليم الحواري يتطلب وجود معلم" ثوري" تتفق اهدافه مع اهداف التلاميذ الذين يرغبون شغل انفسهم بالتفكير النقدي الذي يحقق لهم انسانيتهم، وهذا المعلم يثق ثقة كبيرة بطلابه وقدراتهم الابداعية، فلا نجده يقوم بدور المتسلط بل بدور المتشارك، منطلقًا من مبدأ ان التفكير الحقيقي يتم دائمًا مع الطلاب مقترنًا بالعمل المتصل بهذا العالم.
يصبح المعلم بالنسبة لفريري مصلح اجتماعي وطليعي من اجل التغيير الاجتماعي، وليس مجرد مصدر للمعلومات او مجرد "أداة" لتوضيح بعض المفاهيم والمسائل المدروسة.
                 ويستند فريري في هذا الخصوص الى تجربة الثوري ارنستو شي غيفارا وهو يريد ان يجعل من تلك التجربة مثالاُ للصفات التي يجب ان يتحلى بها المعلم الحواري، حيث عليه ان يؤمن بالعمل الجماعي المشترك وان يكشف عن طاقة الحب الكامنة في قلبه امام طلابه ليتم التعاون على احسن ما يرام، ومن صفاته ايضًا التواضع والثقة مع من يتعامل معهم على الرغم من ضرورة معاقبة بعض العناصر المارقة من اجل المحافظة على تماسك العلاقة بين المعلم وطلابه.
ان تفكير المعلم الحواري الثوري لا ينسجم مع تفكير الصفوة لان محوره يتركز في تحرير الناس وليس في احكام السيطرة عليهم.
آليات التربية التحريرية
وعلى النقيض من الآليات التربوية التي اتبعها القاهرون لا بد ان يعتمد التعليم الحواري على آليات تحررية جديدة من حيث طبيعتها وفلسفتها واهدافها:
1-التعاون: في تربية التحرير يلتقي المتحاورون من طلاب واساتذة في علاقة تعاونية، حيث "نحن نفكر ونعمل" بدل "انا افكر واعمل". تتضمن نظرية التعليم الحواري اناسًا لهم هدف مشترك هو تطوير العالم بعد فهمه وتمييزه، رغم اختلاف هؤلاء الناس في التخصصات والمواقع.
2-الوحدة من اجل التحرير: ان تماسك وتعاون وتشارك المقهورين من الطلاب تتطلب بالضرورة وعيًا طبقيًا اي الاحساس بالظلم الاجتماعي من اجل ان يكتشف القاهرون حقيقة وضعيتهم. وان كانت التفرقة من صميم ايديولوجية القاهرين فان الوحدة هي عمل ثقافي يتأتى من خلاله للمقهورين من ان يعرفوا اللماذا والكيف، من اجل معرفة الواقع على حقيقته وتغييره في سبيل الحرية.
3- التنظيم : كنقيض لنزعة الاستغلال التي يمارسها القاهرون وكرد على آلية التفرقة التي تمارسها السلطة القاهرة.
4-التآلف الثقافي: ان العمل الحواري يستهدف احتواء المتناقضات، وبذلك يتمكن من تحقيق حرية الناس. في آلية التآلف الثقافي لا يدخل المربون على الطلاب دخول الغزاة والمعلمين بل دخول المتعلمين الذين يندمجون مع الطلاب ليصبحوا مشاركيم معهم في العمل الذي يقومون به معًا تجاه العالم.و التآلف الثقافي "لا يرفض الاختلاف في وجهات النظر لانه مبني على مثل هذا الاختلاف، ولكنه يرفض الغزو الثقافي الذي تمارسه فئة على فئة ويؤيد الدعم الذي تقدمه فئة الى فئة".[27]

المصادر والمراجع
1.               تعليم المقهورين، باولو فريري، ترجمة وتقديم الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم بيروت،الطبعة الاولى 1980.
2.                                     فلسفات تربوية معاصرة،الدكتور سعيد اسماعيل علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 198، 1995.
3.                                     المراجع الالكترونية:
 
1.                                     http://www.islamonline.net
2.                                     http://www.alsadeeq.net
3.                                     http://www.aurora.icaap.org
4.                                     http://www.nl.edu/academics/cas/ace/resources/Documents
( Issues in Freirean Pedagogy)
5.                                     http://www.infed.org/thinkers/et-freir.htm
 
 
اهم مؤلفات باولو فريري
1.                                     التعليم كوسيلة من أجل التحرر ،البرازيل،1967 )بالبرتغالية)
2.                                     تعليم المقهورين،وقد دونه في الولايات ، ونشر في لندن،1972. (مترجم إلى العربية).
3.                                     الفعل الثقافي من أجل الحرية،لندن،1972
4.                                     التربية في التطور: الرسائل إلى غينيا بيساو، نيويورك ولندن،1987
5.                                     أهمية فعل القراءة،سان باولو،1982
6.                                     تعلم السؤال-تربية التحرر،جنيف،1989
7.                                     تربوية الامل
8.                                     تربوية الحاضرة (المدينة(
 
 


[1] (http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?hSection=ACAFS&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture/ACASection)
 
[2] فريري، باولو، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم،1980، ص36.
[3] علي، د.سعيد اسماعيل، فلسفات تربوية معاصرة، سلسلة عالم المعرفة، 1995، العدد198، ص165.
[4] Issues in Freirean Pedagogy http://www.nl.edu/academics/cas/ace/resources/Documents
[5] http://aurora.icaap.org/index.php/aurora/article/view/45/58
[6] اريك فروم (1900-1979) عالم نفس وفيلسوف الماني، ينتمي الى التيار الفرويدي الماركسي، اشتغل بالتدريس في الجامعات الامريكية، ومارس العلاج النفسي، ولذلك توفرت له رؤسة شاملة للاضطراب النفسي والاجتماعي، وتوسعت نظريته لتصبح انسانية شاملة ترمي الى تحقيق السعادة للبشر في ظل نظام اجتماعي يوفر الصحة النفسية والاجتماعية للجميع. وقد ظل فروم طوال حياته عرضة للنقد والذم من قبل الفرويديين والماركسيين والرأسماليين على حد سواء.
[7] فلسفات تربوية معاصرة ، ص 170
[8] تعليم المقهورين، ص39.
[9] فريري، باولو، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم،1980، ص30.
[10] المصدر نفسه، ص31.
[11] المصدر نفسه ص172
[12] المصدر نفسه، ص173
[13] فريري، باولو، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم،1980، ص 115.
[14] المصدر السابق، ص103.
[15] المصدر السابق ص105.
[16] المصدر السابق، ص106.
[17] المصدر السابق، ص111.
[18] فريري، باولو، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم،1980، ص 51.
 
[19] المصدر السابق، ص53.
[20] المصدر السابق ص58.
[21] المصدر نفسه، ص59.
[22] نفس المصدر ص81.
[23] نفس المصدر، ص69.
[24] http://www.alsadeeq.net/forum/forum_topics.asp?FID=23&PN=2
[25] المصدر السابق ص80.
[26] http://www.alsadeeq.net/forum
[27] تعليم المقهورين، ص137.