أن تكون يسارياً


معتز حيسو
2010 / 6 / 28 - 06:57     

إن السمات المحدّدة لليسار تتوزع على مستويين: مهام ديمقراطية اجتماعية تتحدد من خلال منظور المنظومة المعرفية الماركسية (إضافة إلى اصطفافات نظرية وسياسية تندرج اصطلاحا ضمن إطار اليسار) للمستوى الاقتصادي. بالتالي فإن الواقع الاقتصادي المتعيّن يجري إدراكه وتحليله على أسس نظرية ومعرفية وسياسية تتماهى وتعبّر بذات اللحظة عن التموضع الطبقي، و يأتي هذا في السياق العام للمنظومات الاجتماعية، بعيداً عن التحليلات السياسية التي تعتمد المرجعية الماركسية بكونها أداة تحليل ومرجعية نظرية وسياسية .
أما المستوى الآخر للديمقراطية فإنه يتجلى في المستوى والشكل السياسي، الذي من خلاله وعلى قاعدة الفكر السياسي المتحدّد على أسس طبقية واجتماعية يتم التعبير عن المصالح الطبقية: إذاً تحديد الهوية المعرفية بالمستويين الخاص والعام يتعين انطلاقاً من التموضع الطبقي، الذي يتحدد ويتعين على أساسه وبموجبه الميل السياسي .
بالتالي فإن الهوية الفكرية والسياسية الطبقية تتحدّد وتتعين في إطار منظومة معرفية متكاملة في سياق التناقض الديالكتيكي للبنى المجتمعية، الذي يتحدد في سياقه تطور أو إرتكاس البنى المعرفية، مما يعني بأن المنظومات المعرفية( وتحديداً الماركسية) بحاجة إلى ترسيخ وتوطيد دعائم وأسس الفهم المادي التاريخي، لكونها لا يمكن أن تنشأ وتتطور بذاتها ولذاتها. مما يعني بأن منشأ ومصدر الوعي والمعرفة النظرية والاجتماعية ليس العقل، بل نتاج واقع اجتماعي موضوعي متعيّن، فهي بداهةً نتاج تحليل ونقد واقع موضوعي موصوف ومتحدّد في لحظة تاريخية محددة. وخلاف ذلك يكون الإنبناء والتشكل العقلي المشخص عقلاً ذاتياً، أي يتحدد بناءً على وعي وتصورات وتخيلات وتأملات ذاتية ليس لها علاقة بالواقع الموضوعي المتطور في سياقه الزمكاني، أي يتشكل وفق آليات وأشكال مستقلة ومنفصلة عن الواقع. وفي هذا السياق يجب التأكيد بأن البنى العقلية المعبّرة عن الواقع في سياق تطوره الموضوعي تعبّر عن وعي عقلاني، ولذلك فإن العقلانية في كافة المستويات والأشكال تكون تعبيراً عن آليات عمل واشتغال وممارسة نظرية إبستمولوجية مرتبطة بالواقع ومعبّرة عنه وتتطور في سياق التطور الاجتماعي العام، بالتالي فهي ليست قضية نضالية أو مطلبية. ومن الضروري التنويه هنا بأن جوهر خلاف المنظومة المعرفية الماركسية عن ومع الفلسفات الذاتية والمثالية بكافة تلويناتها، هو أنها اشتغلت معرفياً على قاعدة أسبقية المادة للوعي، بالتالي من البداهة بمكان أن يكون الوعي انعكاسا ديالكتيكياً وجدلياً عن الواقع، بل و يتطور ويتغير في سياق التطور الموضوعي للمجتمع وفق أشكال ومستويات مختلفة ومتباينة، وعندما لا نمتلك المنظومة المعرفية القادرة على الولوج إلى عمق المجتمع وتحليل أبعاده بنيوياً، بالتالي لا يمكننا قراءة الواقع واستشراف آفاق تطوره، مما يعني حتى لو كان الظرف الموضوعي أو الشروط والعوامل الموضوعية للتغيير ناضجة ، فإن الشرط الذاتي يلعب لعبته، والتاريخ يطل برأسه الماكر.
وبما أن الواقع الاجتماعي متنوع ومتباين في مستوياته الخاصة بناءً على التموضعات المجتمعية ،السياسية، الاقتصادية، فإن هذا يقودنا إلى القول بأن غنى مستويات وأشكال تطور الواقع الاجتماعي يحدّ من إمكانية استغراقه واجتيافه و تجسيده وتعينه مفاهيمياً في منظومة معرفية واحدة تصادر في تحديدها سياقات ميوله التطورية، لتبقى إمكانية تحديد ميوله العامة دون الأشكال التي يمكن أن تتخذها مسارات التغيير واردة.....
وفي هذا الإطار وعلى قاعدة الفهم الديمقراطي، نرى ضرورة الاعتراف بالآخر، وبحقه في التعبير عن ذاته على قاعدة أن الحياة في التنوع والموت في التوحد والتطابق. مما يعني بداهة الابتعاد عن مفاهيم ومصطلحات / التخوين، الارتداد ، الانحراف .. لمن يخالفونا الرأي .
أما على المستوى الاقتصادي فإن تحديد هوية اليسار يفترض أن تبدأ من تحديد الموقع الاجتماعي والانتماء الطبقي و البرنامج الإقصادي الذي يجب أن يعبّر عن مصالح كافة الشرائح والفئات الاجتماعية المشكلة للقاع الاجتماعي والمتضررة من تناقضات النظام الرأسمالي العالمي، ومن التقسيم العالمي للعمل، والبرنامج التنموي يُفترض أن يكون مستوى من مستويات برنامج اقتصادي عام وشامل، تكون مهمته الأساسية تحقيق العدالة الاجتماعية في سياق التوزيع العادل للثروة. وهذا يقودنا للقول بأن المنظومة المعرفية الماركسية تحديداً تقوم على قواعد وأسس وقوانين شمولية تشكلت بكونها آليات تحليل وتحديد اقتصادي، وبذات اللحظة تشكل مرجعية معرفية تحتاج إلى عمليات النقد والتطوير بناءً على معطيات التطور العلمي، والاقتصادي والسياسي الموضوعي.. وإلا تحولت إلى وعي أيديولوجي مزيف، ومن باب الحرص والمحافظة على شباب الماركسية المتجدد، يفترض الوقوف على بنائها المفاهيمي في سياق التحولات والمفاصل التاريخية. وما أحوجنا إلى ذلك في سياق قراءتنا النقدية والتحليلية للأزمة البنيوية الراهنة للاقتصاد الرأسمالي العالمي. والتي يفترض أن تكون مترابطة مع إدراك موضوعي لمجمل المتغيرات الثقافية والاجتماعية.. المتحددة على قاعدة المتغير الاقتصادي، الذي يتحدد على أساسه وليس خارجه العقل السياسي بأشكاله السائدة.
وإذا كان التغيير الجذري الراديكالي الثوري بأشكاله الانقلابية لم يعد مطروحاً، فإن ولوج التغييّر بأشكاله المتنوعة ومستوياته المتحددة على أسس الواقع الموضوعي الخاص والعام، يتحدد في إطار الانتقال التدريجي على أسس منظومة معرفية شاملة تحدد في سياقها آليات العمل بما يتلائم ويعبر عن التحولات اللحظية، أي أنه لا توجد وصفة يمكن إطلاقها والعمل عليها دائماً، لأن التطور الاجتماعي بأشكاله ومستوياتها المتنوعة والمتعددة دائم التجدد في سيرورته التاريخية. أي أن التغيير بأشكاله ومستوياته يخضع لسياق تطور موضوعي، ولموازين قوى موضوعية وهذا بداهة يفترض حاضناً إجتماعياً نفتقده نسبياً، لأن البنى والمؤسسات المجتمعية لم تزل رهينة المؤسسات الرسمية والوعي الرسمي السائد، أي أننا بحاجة إلى كافة الجهود الوطنية بعيداً عن التخندقات والتموضعات الضيقة، للمساهمة في تشكيل حواضن اجتماعية تتشكل من خلالها آليات عمل سياسي، يتأسس على مفاهيم سياسية قاعدته الفهم الديمقراطي والممارسة الديمقراطية بأعمق مستوياته، بعيداً عن الإطلاقيات والتهويمات والتعميمات النظرية التي يتكئ عليها المتعبون . ويترابط هذا في سياق تحديدنا لشكل العقل، الحزب، القانون ... الذي يطالعنا الكثير بأنهم يريدونه حديثاُ ؟؟؟ ما معنى عقلاً أو قانوناً أو حزباً... حديثاً ألا يمثل مصلح / حديث / شكلاً للهروب من تحديد الأشكال والمضامين بشكل دقيق ... لهذا يجب التأكيد بأن العقل، الفرد،المؤسسة،الحزب،القانون...، نتاج بنية إجتماعية متحددة ومتعيّنة، يكون متطوراً في سياق تجاوز تناقضات اجتماعية محددة، والعكس. وهذا لا يعني مصادرة جهود العاملين في الحقل الإبستمولوجي لتطوير المجتمع بما يتوافق وتوجهاتهم واختصاصاتهم، سواءً كانوا أفراداً أو جمعيات أو أحزاب أو تجمعات.. .
ومن هذه الزاوية وبعيداً عن مفهوم الإقصاء وعلى قاعدة التناقض والتفاعل المتبادل، يفترض التأكيد على هوية اليسار الديمقراطي بالمستويين السياسي،الاجتماعي، والإشتغال على تطوير المجتمع، ليكون حاضناً لبرنامج اليسار ومشروعه الذي يحتمل التنوع والتعدد، بعيداً عن التمحور حول الذات والتمركز والإرتكاس لمفهوم الزعيم، أي بأننا بحاجة إلى رموز وشخصيات قيادية لكن ليس إلى زعيم ، ونحتاج إلى ورش عمل، وليس إلى ذوات منفصلة ومتعالية عن واقعها و مجتمعها.
==================================================