فلاديمير لينين- الذكرى الثمانون لوفاته - اهمية افكاره اليوم

روب سوول
2004 / 7 / 29 - 10:39     

قبل ثمانون سنة، و في الواحد العشرين من جانفي 1924 توفي قائد الدولة السوفياتية و الاممية الشيوعية بعد مرض طويل. كان عمره عند وفاته 53 سنة. و حفلت حياته بسنوات من الهزات و الازمات و التحول. فقد توجت الفترة الممتدة من اخر ربع في القرن التاسع عشر الى الربع الاول من القرن العشرين بالحرب العالمية الاولى و بالثورة اللبلشفية في سنة 1917. عرف باسم لينين، وهي كنية اكتسبها من خلال عمله السري وهو بدون شك كان اعظم ثوري في عصره، رجل عظيم غيرت اعماله مجرى التاريخ في القرن العشرين.
ان الاتي ليس جردا تفصيليا لحياة لينين، فمثل هذا المشروع يتطلب مجلدا او اكثر. و للغرض، ندعو قراءنا للاطلاع على كتاب الن وودز حول البلشفية و كتاب تاد غرانط حول روسيا للحصول على تفاصيل ضافية. ففي ذكرى ميلاد لينين الغرض من هذا المقال هو تلخيص الافكار و الدور التاريخي لهذا الثوري الماركسي العظيم. و بهذا فهو دفاع عن لينين الثوري ضد كافة الهجومات و الافتراءات التي الحقت باسمه، مثل شلالات نياغارا، خلال حياته و مماته على السواء. و هذا ليس اطراءا لبطل ثوري و انما تكمن قيمته في مساعدتنا على معرفة لينين الحقيقي، واسهامه الثوري و كذلك المهام الملقاة على عاتقنا في العصر الحاضر، عصر الثورة و الثورة المضادة. و لا سيما استخلاص العبرة و المعرفة لمعارك اليوم.
و بالعودة الى ماركس، حذر لينين ضد اولائك الذين سيقومون بعد مماته بالثلم في رسالته الثورية: "خلال حياة الثوريين العظماء تمارس الطبقات المضطهدة قمعا لا هواهدة فيه ضد الثوريين و تواجه ادبهم بشتى انواع العداء وحشية و اشدها كراهية و حملات شعواء من الاكاذيب و الافتراءات. الا انه بعد رحيلهم تحاول هذه الطبقات ان تجعل منهم قديسين طيبين و ترفع من مكانتهم و تحيط اسماءهم بهالة "لتعزية" الطبقات المضطهدة (بفتح الهاء) و بهدف خداعهم و تقوم في نفس الوقت بخصي و تشويه الفحوى الحقيقي لنظرياتهم الثورية و عملهم الثوري. (لينين، "الدولة و الثورة").
و هذا ما وقع للينين. فعلى ايدي الرجعية الستالينية تم تحريف افكاره من اجل تبرير كل سياسة مضادة للثورة تنتهجها البيروقراطية السوفياتية. و ما سر البرجوازية العالمية هو ان المبررين للستالينية قاموا بدون حياء بتشويه الروح الثورية لدى لينين و حولوها الى نقيضها من اجل اخفاء جرائمهم ضد الطبقة العاملة. و بهذا يحاول المؤرخون البرجوازيون دائما تصوير ان الستالينية على انها اللينينية او الشيوعية بهدف تشويه اسم لينين.
ولد فلاديمير ايليتش لينين في العاشر من افريل من سنة 1870 في سمبريسك على نهر الفولغا. و كان الثالث من ستة اطفال ولدوا في عائلة ميسورة. في ذلك الوقت كانت روسيا القيصرية تمر بتحولات هائلة. و قد عبر قانون التطور المركب و اللامتكافئ عن نفسه احسن تعبير في وقت كانت روسيا الشبه الاقطاعية قد استعارت اكثر النماذج الراسمالية تطورا التي كانت قد اقيمت بوضوح في بريطانيا و المانيا وفرنسا. فقد تم الغاء القنانة في سنة 1861 و بدات تاثيرات غربية جديدة تحدث تخمرا في صفوف الانتلجنسيا الروسية التي عانت طويلا من القمع القيصري. و قد وجدت عائلة اوليانوف نفسها في خضم هذا التيار و سارت فيه الى الاخر. كانت تلك فترة النارودنايا فوليا او ارادة الشعب، وهي حركة ثورية مثالية كانت تسعى للاطاحة بالقيصر عن طريق الارهاب الفردي. في 1881 نجحت في اغتيال القيصر الكسندر الثاني و كان النجاح الحقيقي هو ما تلى ذلك من اضعاف لارادة الشعب بسبب موجة القمع.
و كان شقيق لينين الاكبر الكسندر قد التحق بالنارودنايا فوليا وشارك بصفة مباشرة في محاولة اغتيال القيصر الكسندر الثالث. و تم القبض عليه و شنق مع اربعة اخرين في ماي 1887. و خلفت هذه الماساة الشخصية اثرا كبيرا على لينين الشاب وهو في السابعة عشر من عمره. و في خريف نفس السنة التحق لينين بجامعة كازان لدراسة القانون. و لكن سرعان ما وقع طرده من الجامعة لمشاركته في احتجاج طلابي ضد السلطات، و هو ما مثل بداية حياته الثورية.
مع انه كان للينين متعاطفين مع اراء اخيه فانه قرر الالتحاق بحلقة ماركسية في كازان اين درس "راس المال" و "انتي دوهرنغ" و مؤلفات اخرى." وبفضل الهجرة التي فرضها القيصر"، يقول لينين، "اكتسبت روسيا الثورية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر روابط دولية جيدة وفهم عال لاشكال نظريات الحركة الثورية لم يكتسبها بلد اخر". (لينين، اليسارية، مرض الشيوعية الطفولي).
كان لينين بدون شك ماركسيا باتم معنى الكلمة. و لم يكن التزامه للماركسية ليتحقق بسهولة. فليس قبل 1891 و بعد دراسة دقيقة و مركزة للادب الماركسي اصبح لينين ماركسيا عن اقتناع و كرس نفسه من اجل الثورة الاشتراكية. فتبنى مهنة جديدا، محورا لحياته، مخضعا كل شيء لهذا الهدف. و تخلى عن موقعه الاجتماعي المحظوظ و التحق بكل حماسة و حب بصفوف البروليتاريا. و قد غيرت هذه التجربة في الحركة الثورية المبكرة كامل حياة لينين.
واجهت الافكار الجديدة للماركسية جملة من الاتجاهات المشوشة لبقايا النارودنيين (الثوريون الاشتراكيون لاحقا) الذين عظموا من شان الفلاحين و انكروا ضرورة التطور الراسمالي لروسيا و اعتبروا المجموعة القروية كقاعدة لبناء الاشتراكية. و كما راينا فقد برر النارودنيون الارهاب الفردي كوسيلة للقضاء على الاضطهاد. و بالمقابل اعتبرت الماركسية ان نمو الراسمالية في روسيا و معها نمو حفار قبرها المتمثل في الطبقة العاملة امرا حتميا. فعلى نقيض الارهاب الفردي طرح الماركسيون الصراع الطبقي بوصفه السلاح الثوري الوحيد القادر على الاطاحة بالاوتوقراطية و تحقيق الثورة الاشتراكية. "تمضي الراسمالية في طريقها"، كتب بليخانوف، اب الماركسية الروسية، "انها تقتلع المنتجين المستقلين من مواقعهم المتقلبة و خالقة لجيش من العمال في روسيا بنفس الطريقة التي كانت قد جربت و في الغرب ." الا ان الماركسين انفسهم كانوا منقسمين و يتمظهرون في شكل لاثوري قانوني (الماركسية الشرعية) بزعامة ستروفي و التي اعتنقت تحليل ماركس الاقتصادي للراسمالية و لكنها بقيت بعيدا عن استنتاجات هذا التحليل الثورية.
و جورج بليخانوف، الذي يعتبر مؤسس الماركسية الروسية، كان في الاول عضوا نشطا من النارودنيك. و عندما يئس من هذه الحركة قام بالاتصال بفريدريك انجلز. و مذاك اصبح ماركسيا عن اقتناع. لقد قام بليخانوف بتاسيس اول منظمة ماركسية روسية – مجموعة تحرير العمال – في جينيف في 1883 و ناضل ليس ضد النارودنيك وحسب و انما كذلك ضد تحريفية برنشتاين و ما يسمى بالماركسية "الشرعية" و منتجا خلال ذلك مؤلفات ماركسية كلاسيكية، خاصة في الفلسفة.
و خاض لينين نفسه هذا النضال. ففي روسيا و بحلول سنة 1895 اثمر عمله المتماسك تكوين "اتحاد نضا ل و تحرر الطبقة العاملة"، جنين حزب العمل الديمقراطي الاشتراكي الروسي. و لكن قامت السلطات بايقاف لينين و بعد سنة من السجن تم نفيه الى سيبيريا حيث قضى ثلاث سنوات اخرى. و في الظروف السرية تلك اكمل عمله الكلاسيكي تطور الراسمالية في روسيا. ثم سرعان ما التحقت به كروبسكايا التي كانت كادرا سياسيا رئيسيا في منظمة بترسبورغ. و منذ ذلك الوقت واصلا العمل معا كرفيقين و زوجين الى حد مماته سنة 1924. "في العموم"، كتبت كروبسكايا متذكرة، "لم يكن النفي سيئا جدا فقد كانت تلك سنوات من الدراسة الجدية".
في سنة 1898 تكون حزب العمل الديمقراطي الاشتراكي الروسي خلال انعقاد في مؤتمره الاول في منسك. و كان لينين لا يزال في المنفى. و لم يتم المؤتمر اشغاله، فقد تم اقتحامه و اوقف جميع المشاركين فيه تقريبا.
في الاثناء برز اتجاه تحريفي انتهازي داخل الاممية الثانية حول شخصية الالماني الاشتراكي الديمقراطي ادوارد برنشتاين. فقد حاول تحريف الماركسية معتبرا ان النظرية اصبحت قديمة و تحتاج الى التاقلم مع الوضع الجديد. و مع ان برنشتاين انهزم سياسيا فان هذا التيار التحريفي ظهر في روسيا تحت قناع "الاقتصادوية". و ذهب هذا التيار الى القول بان السياسة تتعدى عقول العمال و ان الحركة الديمقراطية الاشتراكية تحتاج الى التركيز على الاقتصاد اي المطالب اليومية. و هي مقاربة اهملت الحقل السياسي لصالح البرجوازية الصاعدة في الصراع ضد الاوتوقراطية تاركة الطبقة العاملة تقتفي ظل هذه البرجوازية.
و باشر لينين بكل حماس الصراع ضد "الاقتصادوية" كاتبا سلسلة من المقالات نشرت فيما بعد في شكل كتاب يحمل عنوان ما العمل؟ سنة 1902. و لم يكن الكتاب يقتصر على الرد على "الاقتصادويين" و لكنه احتوى ايضا على تطور لافكار لينين حول منظمة الحزب و لا سيما الحاجة لبناء حزب بقيادة ثوريين محترفين و صحيفة مركزية لكل روسيا تلعب دور "المنظم و المحرك الجماعي". و سيكون الحزب الديمقراطي الاشتراكي حزبا منضبطا يقوم على الديمقراطية المركزية و مشكل على غرار الحزب الديمقراطي الاشتراكي الالماني. و في حين احتوى الكتاب على خلل يتمثل في ان الطبقة العالمة ليس بامكانها بلوغ الا الوعي النقابي وهو خطا يعود الى كاوتسكي (و رفضه لينين فيما بعد) فانه استخدم لتربية جيل كامل من نشطاء الحزب و ارسى قاعدة بناء الاشتراكية الديمقراطية الروسية.
قام لينين بالخصوص بالتشديد على اهمية النظرية في الحزب مؤكدا انه "بدون وجود نظرية ثورية لا يمكن ان توجد حركة ثورية". و يستشهد بقول انجلز في هذا المجال : "فلنذكر ما قاله انجلز سنة 1874 في ما يتعلق باهمية النظرية في الحركة الديمقراطية الاشتراكية. يعتبر انجلز انه لا يوجد شكلان في النضال الكبير للحركة الديمقراطية الاشتراكية (السياسي و الاقتصادي) كما هو الحال بيننا و لكن ثلاثة، واضعا النضال النظري في الدرجة الاولى...
"ينفرد العمال الالمان بسابقتين على رفاقهم في باقي اوروبا.فهم اولا ينتمون الى اكثر المتكونين نظريا في اوروبا بل و حافظوا على ذلك الحس النظري والذي فقدته كليا ما يسمى بالطبقات المثقفة في المانيا. فبدون الفلسفة الالمانية، و بخاصة فلسفة هيغل، لما كان للاشتراكية العلمية الالمانية – الاشتراكية العلمية الوحيدة – ان تعرف الوجود. و بدون حس نظري لدى العمال لما ترسخت هذه الاشتراكية العلمية كما هو عليه الحال الان. انها اسبقية لا تقاس مقارنة باللامبالاة الموجودة تجاه النظريات عامة و التي هي احد الاسباب الرئيسية التي تجعل الطبقة العالمة الانجليزية تزحف ببطء شديد برغم التنظم الرائع للاتحادات..." (لينين، ما العمل؟)
و منذ ديسمبر 1900 فصاعدا و نظرا للقمع في روسيا تم العمل بالخارج على انشاء جريدة للحزب و ذلك بنشر الاسكرا (القبس) . و بالغا من العمر ثلاثون تحول لينين الى مونيخ للعمل مع بليخانوف و اخرين من اجل انتاج الصحيفة. و مع سنة 1902 اصبح من العسير جدا نشر الاسكرا في المانيا و تحول معظم طاقم التحرير الى لندن. في افريل وصل لينين و كروبسكايا الى لندن للالتحاق بمارتوف، فيرا زازوليتش، و بوتروسوف. فيما ظل المحررون الاخرون، بليخانوف و اكسلرود، في سويسرا و يذهبان الى لندن للمشاورة. و تم تحرير العددين 22 و 38 في كلاركنوال غرين اين تقاسما مكتبا مع هنري كوالش، احد زعماء الفدرالية الاشتراكية الديمقراطية البريطانية. و في اكتوبر قدم الى لندن كذلك ليون تروتسكي، الملقب ب القلم لاسلوبه البليغ، للالتحاق المهاجرين الاخرين. و مثلما تتذكر كروبسكايا في في الطبعة الاولى (1930) من مذكراتها (التي تم حذف فقرات منها من قبل الستالينيين)، رحب لينين بحرارة بتروتسكي و اكد على ان يكون احد المساهمين في الاسكرا. و خلال بضعة اشهر في مارس 1930 اقترح لينين تروتسكي في رئاسة التحرير.
في ذلك الوقت كانت التحضيرات للمؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي لسنة 1903 على قدم و ساق. و قد مثل في الواقع المؤتمر التاسيسي للحزب و اعطيت مهمة اعداد برنامجه للينين. و التام الحزب في الاول في بروكسال و كان محاصرا من البوليس فاجبر على انهاء اشغاله في لندن. و من ضمن 44 مندوبا ممثلين عن 26 منظمة لم يكن هناك الا اربعة عمال. و في النهاية فاق عدد مناصري الاسكرا بكثير عدد الاقتصادويين و منشقي البوند اليهودية.
منذ المؤتمر الاول تكونت البوند كشق مستقل بذاته من حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. اما في المؤتمر الثاني فقد ارادوا تقليص روابطهم بالحزب اكثر. و مثلما شرحت كروبسكايا: "كانت المسالة تتمثل في ما كان سيكون للبلاد حزبا عماليا قويا موحدا يلتف حوله عمال كافة القوميات الموجودة على الارض الروسية او ان يكون هناك عدة احزاب منفصلة على اساس قومي. كان الامر يتعلق بتحقيق تضامن عالمي داخل البلاد. و قد وقفت رئاسة تحرير الاسكرا من اجل تمتين عرى الطبقة العاملة عالميا. في حين وقفت البوند من اجل الانفصال القومي و مجرد علاقات تعاقدية مع الاحزاب العمالية القومية لروسيا." (كروبسكايا، ذكريات لينين). و حول هذه المسالة حققت الاسكرا انتصارا كبيرا من اجل وحدة العمال في الحزب الواحد.
الا انه لاحقا خلال المؤتمر حدث انشقاق عميق في معسكر الاسكرا. فقد برز الانقسام بين البلاشفة (اغلبية) بقيادة لينين و المناشفة (اقلية) بقيادة مارتوف حول فقرة في القانون الاساسي و تكوينة الاجهزة القيادية! تقترح الفقرة التي تقدم بها لينين انه يعتبر اعضاء في الحزب اولائك الذين "يوافقون على برنامج الحزب و يدافعون عنه ليس ماليا فقط و لكن ايضا بالمشاركة الشخصية في احدى منظماته. اما مارتوف فقد اراد تعويض عبارة المشاركة الشخصية بعبارة ممططة: التعاون المنتظم مع الحزب تحت مراقبة احدى منظماته. و اراد لينين كذلك التقليص في اعضاء رئاسة تحرير الاسكرا الى ثلاثة لتتكون من: لينين، مارتوف و بليخانوف. و رغم فوزه بالاغلبية فان الانقسام ترك لينين معزولا داخل الحزب بعد ان انحاز بليخانوف الى جانب مارتوف. و اثر هذه المحاولة الفاشلة في اضفاء صبغة تحريفية على الحزب قدم لينين استقالته من رئاسة تحرير الاسكرا و كاد ان يصيبه انهيار عصبي.
توجد عدة اساطير حول المؤتمر الثاني و الانقسام المشهور. فقد قيل ان البلشفية قد برزت و تكونت بالكامل منذ ذلك المؤتمر. و مذاك تقدم الحزب البلشفي الموحد تحت قيادة لينين الى ان استولى على السلطة بنجاح في اوكتوبر 1917. و في الواقع ان هذا بعيد جدا عن الحقيقة. فقد حدث انقسام 1903 ليس بسبب اختلافات جوهرية بل بسبب اختلافات تنظيمية ثانوية. و هذه الاخيرة لم تكن واضحة ابدا بين الاتجاهين في تلك الفترة و لكنها تطورت مع مرور الايام تحت ضغط الاحداث. فالاختلافات الاساسية بين البلشفية و المنشفية – الموقف من البرجوازية الليبرالية - لم تطفو على السطح الا في 1904. و لم يصبح خط الخلاف واضحا الا مع ثورة 1905. بالنسبة للمناشفة كانت مهمة الثورة التي تواجهها روسيا ان تكنس بقايا الاقطاعية و توفر ظروف تطور الراسمالية. فهي ثورة برجوازية ديمقراطية كانت قد وقعت منذ زمن في الغرب. و الظروف الملائمة من اجل ثورة اشتراكية كانت غائبة تماما في روسيا و بالتالي فان مهمة الطبقة العاملة الصاعدة هو ان تغضع نفسها للبرجوازية كقائدة للثورة البرجوازية الديمقراطية القادمة.
اما لينين و رغم اعترافه بالطبيعة البرجوازية الديمقراطية للثورة في روسيا الا انه وصل الى استنتاجات مخالفة. فبالنسبة له فان البرجوازية الليبرالية الروسية قد دخلت مسرح التاريخ متاخرة بالاضافة الى انها مرتبطة عضويا بالاوتوقراطية. و بناء على ذلك فان الدور الوحيد المقدر عليها ان تلعبه هو الثورة المضادة. و القوة الوحيدة القادرة على قيادة الثورة هو التحالف بين البروليتاريا و الفلاحين الفقراء تحالف يؤدي الى اقامة "ديمقراطية ديكتاتورية للبروليتاريا و الفلاحين." علاوة على ذلك فان مصير الثورة الروسية سيكون مرتبطا بنجاح ثورة اشتراكية في الغرب التي من شانها ان تعطي دفعا للثورة في روسيا نفسها. وبرزت الان الاختلافات الحقيقية بحيث ان المناشفة اصبحوا يمثلون دعاة الوفاق الطبقي مدافعين عن البرجوازية في مقابل الجماهير الثورية. و في الحقيقة فان انقسام 1903 توقع بخلافات سياسية مستقبلية. و في النهاية ستصبح هذه الخلافات انقساما بين تيارين: الاشتراكية الثورية و الاصلاحية.
قام تروتسكي في اخر الامر بالتصويت مع المناشفة حول المسائل التنظيمية. و سيعترف بعد ذلك و بكل صراحة بانه كان خاطئا فيما قام به. فهو لم يدرك الفحوى الحقيقي للخلاف و ما كان لينين يرمي اليه. و بالرغم من ذلك، و في ما يتعلق الامور السياسية، فقد اتفق تروتسكي مع لينين حول جميع المسائل الجوهرية معارضا المناشفة. في الواقع كانت لتروتسكي رؤية اوضح عن القوى الاجتماعية المشاركة في الثورة من لينين. و كانا الاثنان على اتفاق بان الطبقة الثورية الوحيدة القادرة على قيادة الثورة – الثورة البرجوازية الديمقراطية في ذلك الوقت – هي البروليتاريا بالتحالف مع الفلاحين الفقراء. الا انه اختلف عن لينين بتنظيره الى ان الطبقة العاملة بع وصولها الى السلطة لن تتوقف عند تطبيق المهام البرجوازية الديمقراطية بل تمر الى المهام الاشتراكية كجزء من الثورة الاشتراكية العالمية.
فقبل 1917 كان افق لينين هو ان تبقى الثورة الروسية في حدود الثورة البرجوازية. و ربط مصير الثورة في روسيا بالثورة الاشتراكية في الغرب. الا ان تروتسكي ﺁمن بان البروليتاريا الروسية ستصل الى السلطة قبل شقيقاتها في اوروبا. و يكون ذلك بداية للثورة الاشتراكية العالمية. وهو ما حدث بالفعل في 1917. و اصبحت هذه النظرية تعرف بنظرية الثورة الدائمة لتروتسكي. و في 1917 لم يكن للينين اي مشكل في القبول بواقع الحال لما شاهده من تطور للامور و ان بالافق بالفعل كان افق الثورة الاشتراكية.
اثارت مذبحة التاسع من جانفي في بترسبورغ ثورة 1905 في روسيا. و جاءت الاحداث الثورية لتلك السنة لتؤكد الاعمال المضادة للثورة التي قامت بها البرجوازية الليبرالية كما اثبتت الدور الثوري و المستقل للطبقة العاملة الشابة. فخلال مجرى الثورة قام العمال بعفوية بتكوين مؤسساتهم النضالية في شكل مجالس سوفيات و التي مثلت جنين السلطة العمالية. فخلال 12 شهرا شملت الحركة الثورية حيزا من النضال امتد من لوائح الاضرابات و الاضرابات العامة الى الاستيلاء على السلطة. و لاهمية الدور الذي لعبه تروتسكي وقع انتخابه رئيسا لسوفيات بتروغراد السوفيات الذي قاد الاضراب العام في اوكتوبر. الا ان و بعد انكسار انتفاضة ديسمبر بموسكو تراجعت الحركة الثورية اذ اكدت الحكومة سلطتها بكل وحشية. ومع ذلك فقد اعتبر لينين ثورة 1905 بمثابة "التمرين". فبدون تلك التجربة لما كانت ثورة اوكتوبر لسنة 19127 ممكنة.
و في غضون سنوات بدا رد فعل دموي. فلينين الذي كان قد عاد الى روسيا في نوفمبر 1905 اجبر مرة اخرى على اللجوء الى المنفى مع حلول سنة 1907. و قد جلبت فترة رد فعل الرجعية مصاعب كثيرة اذ فقد الكثير من الثوريين الناشطين في الخفاء العزيمة و تركوا الحركة . "لقد كانت اياما عصيبة" كتبت كروبسكايا. "ففي روسيا كانت المنظمات تتفكك." و في حين كانت بعض التحركات تهدد المناشفة ب "القضاء" على الحزب غير المعترف به و تكريس جميع القوى على العمل العلني و الذي تحت سطو الرجعية كان يعني رفض النشاط الثوري، فان البلاشفة من جهتهم قد وقعوا تحت تاثير نزعات يسارية متطرفة ترمي الى مقاطعة العمل العلني بالكامل وهو ما يعني ايضا التخلي عن العمل الثوري. و غاص اخرون في فلسفة مثالية رد عليها لينين بدفاع راع عن المادية الجدلية في كتابه المادية و النقد التجريبي (1908) و الذي يظل عملا فلسفيا كلاسيكيا.
و مرة اخرى كان على لينين الاعتماد على مجموعة صغيرة في المنفى لقيادة نضال ضد "التصفوية" من جهتي اليمين و اليسار على السواء. فحتى في ذلك الوقت كان يطغو على العمل كفاح و تشحانات حياة الهجرة. و بعد هزيمة ثورة 1905 بقليل انحسرت المنظمة البلشفية داخل روسيا في محارة صغيرة . و لم يكن لديهم اي خيار سوى التعاون من المناشفة منتجين بذلك صحيفة مشتركة سميت الاشتراكي- الديمقراطي رئيس تحريرها مارتوف. و لكنها لم تعمر .
كتب تروتسكي: "في 1910 كان في كامل البلاد بضعة عشرات. كان البعض الاخر في سيبيريا. و لكنهم لم يكونوا منظمين. و الذين تمكن لينين من الاتصال بهم عن طريق المراسلة او عون لم يتعدى عددهم الثلاثين او الاربعين."
و خلال فترة هجوم الرجعية حاول لينين ان يبقي البلاشفة في الطريق الصحيح بمحاربة النزعات اليسارية المتطرفة التي اثرت فيهم. و كان لا بد ان يؤدي هذا التشدد الى انشقاقات و خاصة مع انصار المقاطعة "الاوتزوفيزستس". و على العموم كان نهج لينين في المسائل التكتيكية و التنظيمية مرنا و لكنه صارما في المبادئ.
و بنهاية 1910 كان قد بدا مد ثوري جديد في روسيا تواصل الى حد اندلاع الحرب العالمية في اوت 1914. و مع 1912 اتخذ الانشقاق بين المناشفة و البلاشفة وجها واضحا بتاسيس حزبين منفصلين. و قام البلاشفة بنشر صحيفة يومية جديدة سميت البرافدا ( الحقيقة)، و في غضون عامين واثر عمل متواصل كانوا قد جلبوا الى صفوفهم اكثر من اربعة اخماس العمال المنظمين. ففي انتخابات مجلس الدوما المزورة تمكنوا من الفوز بستة مندوبين اوقف جميعهم مع بداية الحرب.
لقد مثلت الحرب العالمية لسنوات 1914 – 1918 منعرجا كبيرا. فقد بينت ان الراسمالية قد انهكت نفسها و ان تناقضاتها قد بلغت مستويات حادة. فقد اختنق تطور قوى الانتاج بين كماشتي الملكية الخاصة و الدولة القومية. و كان امتحان الحرب و لا يوجد امتحان اعظم من ذلك برهانا على عجز قيادات الاممية الثانية. ففي اوت 1914 خانوا الطبقة العاملة و اضروا بمصداقية الاشتراكية الاممية بحيادهم الى جانب راسمالييهم. فبتصويت الزعماء الاشتراكيين-الديمقراطيين على حرب الطبقة الحاكمة كانوا قد دعوا العمال الى التقاتل باسم "العدالة". و برغم معارضتهم للحرب في بادئ الامر فقد تراجعوا عن موقفهم. و صدم العمال بذلك و اعتقد لينين ان تصريح مساندة الحرب الذي نشر في صحيفة الاشتراكيين-الديمقراطيين كان تزويرا! و في الواقع فان الامية الثانية قد عرفت انهيارا مخزيا و على حد قول روزا لوكسمبورغ اصبحت "جثة نتنة."
و لم يقف ملتزما بخط الاشتراكية الاممية الا حزبا روسيا و صربيا. فقد صوت المندوبون البلاشفة في الدوما ضد قرار الحرب و تم ابعادهم الى صربيا. في ديسمبر 1914 في المانيا صوت كارل ليبنيخت ضد الحرب. و بقي على عاتق حفنة صغيرة من الامميين المضطهدين و المعزولين في العالم ان يقودوا عملية اعادة بناء قوى الاممية الاشتراكية.
توجه لينين من منفاء في سويسرا العمال الواعين طبقيا الذين اربكتهم الخيانة الكبرى. ووصف الحرب العالمية بكونها حربا امبريالية بزعامة القوى الامبريالية للراسمال المالي من اجل نهب العالم و الاسواق و مناطق النفوذ و الارباح. ووضع تفرقة واضحة بين تلك الحروب التقدمية من اجل التحرر الاجتماعي و الوطني التي تشنها المضطهدون الطبقات و الامم المضطهدة و التي تلقى مساندة الاشتراكيين. و قال لينين ان تلك الحرب تحمل صبغة جوهرية مختلفة و دعا الطبقة العاملة الى "تحويل الحرب الامبريالية الى حرب اهلية"، الى حرب للاطاحة بالراسمالية و انتصار الاشتراكية. و استشهادا بماركس فانه ليس للعمال وطن. و الكفاح النزيه ضد الامبريالية هو كفاح ضد الحكومة الامبريالية المحلية. وربط لينين هذا التحليل بنداء جريء من اجل اممية ثالثة للحفاظ على راية الاشتراكية العالمية. و مان من شان التجمعات العالمية في كل من تزيمرفالد (1915) و كينثال (1916) ان وفرا نقطة ارتكاز حيوية للامميين اليساريين و التي ستؤدي في النهاية الى تاسيس الاممية (الشيوعية) الثالثة في مارس 1919.
قضى لينين خلال سنوات الحرب وقتا طويلا في دراسة جديدة للنظرية الماركسية. و على الخصوص في جمعه لمعلومات عن المسائل الاقتصادية و التي سيستعملها لانتاج كتابه الكلاسيكي الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية (1916). و قام كذلك بدراسة شاملة للديالكتيك المادي و الفلسفة كمواصلة لدروسه خلال سنتي 1908-1909. و الاهم هو انه غاص في دراسة علم المنطق لهيغل بهدف تعميق منهج ماركس الديالكتيكي. لقد كان التمكن من المادية الديالكتيكية و النظرة الماركسية للعالم ضروريا في فهم الاحداث الجارية و المعقدة ." ان الامر الحاسم في الماركسية"، يقول لينين، " هو ديالكتيكها الثوري."
لقد ادرك لينين ان تجربة الحرب كانت تعد حتما موجات ثورية جديدة. و في الاخيرانفجرت الازمة اخيرا في روسيا في فيفري 1917 اي في "اضعف حلقة" من سلسلة الراسمالية العالمية. ففي يوم المراة العالمي توقف العمال عن العمل و تظاهروا في الشوارع رافعين شعارات: لتسقط الحرب! ، لتسقط القيصرية! ، و نريد خبزا! و تطورت الاحتجاجات و الاضرابات لتصبح ثورة اطاحت بالمؤسسة القيصرية التي عمرت الف عام. و مثلما حدث في 1905 برزت السوفياتات الى جانب الحكومة المؤقتة مكونة بذلك نظاما من "السلطة المزدوجة" و لكن هيمنت عليها في البداية احزابا اصلاحية: المناشفة و الثوريين الاشتراكيين. فلم يكن للمذكورين اخرا اي افق من اجل افتكاك السلطة من البرجوازية فقد وضعت الثورة السلطة في ايدي الذين قاموا بها: العمال و الجنود. و لكنهم لم يكونوا واعين بسلطتهم لذا تحولت الى الزعماء الاصلاحيين و الذين نقلوها بدورهم الى الحكومة البرجوازية تحت قيادة برايس لفوف. و لكن وضعية "السلطة المزدوجة" تلك لم تكن لتدوم فاما ان تفرض السوفياتات نفوذا كاملا او ان تكون هناك ثورة مضادة.
و في غضون اشهر فقط و بعد ان غادر منفاه في زريخ اصبح لينين "اكثر المنبوذين و اكثر المحبوبين على الارض." و مرت اكثر ثمانية اشهر على الثورة الاولى مع كل ما رافق ذلك من منعطفات حادة و احتدام سريع للصراع الطبقي بين الثورة و الثورة المضادة قبل ان يعي العمال بقوتهم و افتكاك السلطة و تنظيم الجمهورية السوفياتية بقيادة البلاشفة.
لم يكن ذلك طبعا بالامر الهين. فعندما وصل لينين الى محطة القطار فنلندا ببتروغراد في الثالث من افريل حيا جموع الجماهير بالكلمات التالية: "تحيا الثورة الاشتراكية العالمية!" فلم تكن لديه اي ثقة في الحكومة المؤقتة التي قام محررا البرافدا (كامينيف و ستالين ) بتزكيتها. فقام بتوبيخهما بدا العمل على اقتحام حزبه من اجل الطرح الفوري للثورة الاشتراكية. و في رسائل من بعيد المشهورة التي كتبها في ذلك الوقت كان لينين قد طرح المهام الرئيسية: "(1) البحث عن اثبت طريق يقود الى المرحلة المقبلة للثورة او الى الثورة الثانية وهي ثورة (2) تقوم بنقل سلطة الدولة من حكومة ملاك الارض و الراسماليين (امثال غوشوف و لفوف و ميليوكوف و كيرنسكي) الى حكومة العمال و الفلاحين الفقراء. (3) و تنتظم الحكومة الاخيرة على مثال مجلس مندوبي العمال و الفلاحين."
كان على لينين ان يقود كفاحا مريرا لتجاوز المعارضة الاولية بين "البلاشفة القدامى" و وضع الحزب البلشفي على طريق كسب الجماهير من اجل ثورة ثانية. و لما كان البلاشفة اقلية كانت مهمتهم الرئيسية تتمثل في "الشرح بصبر و مثابرة" لسياستهم. و في الاخر و على اساس الاحداث التي توالت تمكنوا من كسب الاغلبية حول شعارات الخبز ، الارض و السلام . تمثل كتابات لينين في تلك الفترة مكونا من المعرفة العميقة للماركسيين عن القيادة في خضم الثورة و عن فن الاستيلاء على السلطة. فخلال تلك الاحداث التاريخية اتم احد اهم اعماله النظرية: الدولة و الثورة. و فيه يوضح الخط الفاصل و الحيوي بين الاصلاحية و الثورة.
و مع بداية شهر سبتمبر كان البلاشفة قد فازوا بالاغلبية في سوفياتات بتروغراد و موسكو. و في الخامس و العشرين من اوكتوبر تم كنس النظام القديم و تكونت حكومة سوفياتية تركبت من بلاشفة و ثوريين اشتراكيين يساريين مع لينين كرئيس و تروتسكي كوزير خارجية. و كان ذلك بداية لتحول كبير في التاريخ العالمي.
لقد كان دور لينين الشخصي في 1917 حاسما و يعمل على تسليط الضوء على الدور الحيوي، و في ظروف محددة، للفرد في التاريخ. ففي المجرى العارم للاحداث التاريخية يلعب الافراد في العموم دورا ثانويا. الا انه توجد لحظات حاسمة و خاصة حينما يكون الوضع خطرا يلعب فيه الافراد دورا حاسما ايجابيا او سلبيا. و ثبت ان دور لينين كان لا غنى عنه . فقد كان في خضم الاحداث و مدركا لقوانينها فاعلا في تشكيل القوى الاجتماعية التي قامت بالثورة. ولخص تروتسكي تجربته و دوره في سنة 1917 كما يلي: "ان لم اكن حاضرا في بترسبورغ في 1917 فان الثورة كانت ستحدث على اساس ان لينين كان قائدا لها. و ان لم يكن لينين او انا موجودا فما كان لثورة اوكتوبر ان تقع. و لاعاقت قيادة الحزب البلشفي وقوعها. ليس لدي اي شك في ذلك !" ( يوميات المنفى، 1935). ما كان في ذلك شك فقفد كانت مقاومة زعماء الحزب للمجرى الجديد شديدة . و بدون لينين لكانت لشد بكثير. و تروتسكي، وحيدا، اعتقد انه لا يملك شخصيا السلطة لقلب الوضعية. في اطار تلك الظروف كان من الممكن ان فشل الحزب البلشفي في توخي الطريق الصحيح في الوقت الحاسم. و هو ما كان من المحتمل ان يسمح للبرجوازية بان تسلم بتروغراد الى الالمان و تدحر الانتفاضة العمالية التي لم تكن تملك قيادة و تبسط سلطتها في شكل نظام عسكري بونابرتي. ولاتخذ مسار التاريخ باكمله مسارا مختلفا و لسخر المؤرخون بعد ذلك من يوطوبيا البلاشفة الغريبة!
ان تروتسكي الذي بقي خارج كلا المعسكرين البلشفي و المنشفي اعترف اخيرا بخطئه في محاولته توحيد كلا الشقين. فبعودته الى روسيا في 1917 التحق بالبلاشفة و تم انتخابه في القيادة. و بعد عامين من نجاح الثورة كتب لينين متفكرا : " عندما استولت البلشفية على السلطة و انشات الجمهورية السوفياتية قامت بجذب افضل العناصر في تيارات الفكر الاشتراكي الى صفوفها و التي كانت الاقرب من فكرها." و من غير شك ينطبق ذلك على تروتسكي الذي كرئيس سوفيات بتروغراد و اللجنة العسكرية الثورية قاد التحضيرات التقنية و العسكرية لثورة اوكتوبر الناجحة. و في الواقع فانه خلال تلك السنوات كان اعتماد لينين على تروتسكي، مشارك لينين في قيادة الثورة، عظيما. فخلال تلك الفترة كان اسما لينين و تروتسكي لا ينفصلان عن بعضهما. "فلو قتلنا"، قال لينين سائلا تروتسكي، "اتظن ان بوخارين و سفاردلوف سينجحان؟" كان ذلك انشغال بليغ في ظرف كان فيه مصير الثورة في محل سؤال.
مع بداية الحرب الاهلية التحق الثوريون الاشتراكيون بصف الثورة المضادة و حاولوا اغتيال القادة البلاشفة. ففي الثلاثين من اوت 1918 تعرض ليني الى اطلاق بالنار و اصيب برصاص اشتراكي ثوري يساري. و مع انه عفي و عاد الى العمل فان الجرح كان الى حد كبير سببا في وفاته المبكرة خمس سنوات بعد الحادثة. تم كذلك زرع قنابل لتفجير القطار الاحمر لتروتسكي و لكن نجا الاخير باعجوبة.
ان انتصار ثورة اوكتوبر غيرت الوضع العالمي فلاول مرة في التاريخ استولت الطبقة العاملة على السلطة و انشات حكم البروليتاريا. و كانت المهام التي واجهها لينين و النظام السوفياتي هو تحقيق السلام تقوية النظام و نشر الثورة الاشتراكية عالميا. الا ان الجمهورية السوفياتية وجدت نفسها امام اخطار اعظم. فقد شرعت البرجوازية العالمية على الفور في العمل على ادمير النظام البلشفي عن طريق مساعدة الثورة المضادة و ارسال واحد و عشرون جيشا امبرياليا للغرض. و تحت قيادة تروتسكي تم بناء الجيش الاحمر العظيم من خمسة ملايين فرد لدرء الغزو الاجنبي و دحر الجيوش البيضاء داخليا.
خلال السنوات الجسيمة 1917 – 1923 تركز كامل جهد لينين على المسائل الملحة حول الدفاع و الثورة العالمية. و يتخطى عمل لينين في تلك الفترة التلخيص البسيط. فقد شمل السياسة العالمية، الحرب الاهلية، النظام الاقتصادي الجديد، بناء الاممية الشيوعية، و الكفاح ضد البيروقراطية. و ذلك الى جانب الخطابات و التقارير. كما انه كتب كلاسيكيات ماركسية مثل : اليسارية، مرض الشيوعية الطفولي و الثورة البروليتارية و المرتد كاوتسكي.
مع نهاية 1920 , و بدحر الجيش الابيض بقيادة رنغل تمت هزيمة الثورة المضادة و القوى المعتدية. كسبت الدولة السوفياتية مهلة كانت تكاليفها جد باهضة. و منحت هذه المهلة نوعا من "التوازن بين القوى المتناحرة و كانت تلك فرصة للبلاشفة لاعداد الطبقة العاملة عالميا لموجة ثورية جديدة. كتب لينين: " لقد تم بلوغ توازن و لكنه غير مستقر البتة . انه توازن على كل حال. و اما ان كان سيدوم فانني لا اظن ذلك. و لا اعتقد ان احدا يمكن ان يتكهن بذلك. و لهذا علينا ان نكون على درجة عالية من الحذر."
و للاسف و بسبب التفكك الاقتصادي و تاخر الثورة العالمية اصاب الدولة السوفياتية من الداخل ارتكاس تميز بنمو سرطان البيروقراطية في صلب الدولة و الحزب. و مع كل هزيمة و تراجع للجماهير الروسية المنهكة انحى البيروقراطيون العمال جانبا و تزادت سيطرتهم. و كان حتميا ان تبرز هذه البيروقراطية الرجعية داخل الحزب البلشفي نفسه و انعكست في شخصية ستالين. و بعد موت لينين ادى هذا النمو الطفيلي من على ظهر دولة العمال الى التجريد السياسي للطبقة العاملة تكون نظام تسلطي (توتاليتاري) في عهد ستالين.
منذ نهاية 1922 فلاحقا كان نضال لينين الاخير ضد ذلك الارتكاس البيروقراطي. و من سوء الحظ ان اصابة لينين الاولى في ربيع 1922 ادت الى شلل في ذراعه و ساقه اليمنى. و بعد تعافيه تمكن من العودة الى العمل في اخر السنة. و في ديسمبر كانت الاصابة الثانية التي اشد من الاولى. و من على فراش موته كان لينين يعد ضربة ضد ستالين و حلفائه الذين كانوا مشغولين بالتامر ضد تروتسكي. كتبت سكريتيرة لينين فوتييفا تقول: "كان فلاديمير ايليتش يعد قنبلة لستالين خلال المؤتمر القادم." و من ذلك ان شكل كتلة سرية مع تروتسكي حول المسالة الجرجية و مسائال هامة اخرى. و اخيرا و في وصيته التي كتبها بين الرابع و العشرون و الخامس و العشرون من ديسمبر، مع ملحوظة ارفقها في الرابع من جانفي 1923 ، حث لينين على تنحية ستالين كامين عام للحزب. و بعد شهرين قطع جميع علاقاته الشخصية مع ستالين و نشر مقاله الشهير اقل و لكن افضل، و الذي احتوى هجوما ضاريا على تفقدية العمال و الفلاحين (رابكرين) برئاسة ستالين. و كتب مصرحا: "ان لدينا بيروقراطية ليس في المؤسسات السوفياتية فحسب بل و في الحزب ايضا." و في الوقت الذي كان ينتظر فيه ردا من ستالين اصيب لينين للمرة الثالثة و فقد القدرة على الكلام. و رغم استرجاعه لبعض صحته الانه انه توفي من جراء نزيف في الدماغ في جانفي 1924.
قام ستالين بكتم وصية لينين. و تمكن من وراء الكواليس من احكام قبضته على جهاز الدولة. و ساعدت وفاة لينين و انعزال الثورة ستالين على تركيز السلطة بين يديه. و كجزء من ذلك طرد المعارضة اليسارية التي كان يقودها تروتسكي. و في في منتصف الثلاثينات تحت حكم ستالين تشكلت في الاتحاد السوفياتي ثورة مضادة قائمة على حقوق الملكية القومية . و مثلت محاكم التطهير حماما من الدم فصل و نظام لينين عن نظام ستالين.
و افضل ما يعبر عن العلاقة الحقيقية بين تروتسكي و لينين هو ما جاء في رسالة بعثت بها كروبسكايا بعد اسبوع من وفاة لينين:
العزيز ليون دافيدوفيتش
اكتب اليك لاقول انه قبل حوالي شهر من وفاته توقف لينين وهو بصدد قراءة كتابك عند وصفك لماركس و لينين و طلب مني ان اعيد عليه المقطع و كان يتابع باهتمام بالغ. ثم اعدت عليه القراءة مرات اخرى.
و هذا ما اريده قوله: ان العلاقة التي ربطت بينك و بين لينين عندما قدمت الى لندن من سيبيريا لم تتغير بالنسبة اليه الى حد مماته. العزيز ليون دافيدوفيتش اتمنى لك القوة و العافية. اعانقك.
ن. كروبسكايا.
في اوائل 1926 ذكرت كروبسكايا في حلقة للمعارضة اليسارية: "لو كان لينين حيا لمن المحتمل ان يكون في السجن الان." و ستقوم البيروقراطية الستالينية لاحقا باقتحام الحزب البلشفي بعد ان كانت قد اقتحمت المعارضة. و ستقوم بافشال برنامج لينين.
كان لينين بدون شك رجلا سياسيا عظيما. كان اروع ثوري في القرن العشرين. متشبعا بالثقة في الاتصار النهائي للطبقة العاملة كان ايضا ثوريا و ماركسيا الى حد النخاع. ان لينين لم يولد بهذه الخصال و لكنه كون نفسه بالجمع بين العلم و التجربة بين النظرية و التطبيق. و لم بيلغ سن الثالثة و العشرين حتى كانت ملامح شخصية لينين و نظرته للحياة و طريقة عمله قد تبلورت . لقد عاش و تنفس للثورة. و التزم اشد ما يكون الالتزام بانجاز هذه المهام التاريخية الكبرى وبلوغ الهدف. و من خلال سنوات قضاها في دراسة اسس الفكر الماركسي و التطبيق الجاد اصبح لينين الرجل العظيم و المعلم الذي نعرفه.
بالمفهوم الواسع و بعد موت ماركس و انجلز كان لينين المدافع عن الماركسية الحقيقية. و عبر الثقة و عمله الذي لا يكل و مهد الطريق امام اول ثورة اشتراكية ناجحة و غير مجرى تاريخ العالم.
كتب لينين مؤكدا: " فقط الثورة البروليتارية الاشتراكية بوسعها اخراج الانسانية من الطريق المسدودة التي خلقتها الامبريالية و الحروب الامبريالية. و مهما كانت المصاعب و التراجعات الممكنة المؤقتة و موجات الثورة المضادة التي تعترض الثورة فان الانتصار النهائي للبروليتاريا اكيد."
ان اشخاصا من امثال لينين قلة في الحركة الثورية. و مقالنا هذا لا يدعو كلا من ان يكون ماركس او لينين. علينا ان نكون نحن. و لكنه تحد من اجل ان نغير انفسنا و نطور معرفتنا النظرية و السياسية من اجل الدور الذي سنلعبه في المستقبل. و نفخر بسيرنا على خطى الماركسيين العظاماء الذين سبقونا. ومثلهم علينا ان نتشبع بفهم للتاريخ و ايمان بمستقبل انساني بدون طبقات.
بموت لينين اصبح على عاتق ليون تروتسكي الذي كافح ضد الستالينيين، الدفاع عن تواصل الماركسية. و اليوم، و في ظرف يتميز بتعمق الازمة العالمية و عدم الاستقرار ، فان المسؤولية ملقاة على عاتق الجيل الحالي من الماركسيين للمضي بهذا النضال الى الامام من اجل عصر جديد للانسانية، من اجل انتصار نهائي كان قد افتتحه لينين و لكنه لم يعش للاتمامه.

http://www.marxist.com/