كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (24) ملكوت السماء وملكوت الأرض


عبد الحسين شعبان
2010 / 4 / 12 - 18:45     

شغل ماراثون الصراع الفكري بين الماركسيين والمتدينين القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله، لاسيَّما بعد أن قادت الحركات الماركسية أنظمة اشتراكية، وخاصة بعد ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 وما بعد الحرب العالمية الثانية في عدد من دول أوروبا الشرقية، ثم في الصين وبعض دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، خصوصاً أن موقفها من الدين والإيمان الديني كان سلبياً، مثلما كانت مواقف رجال الدين مسيحيين ومسلمين ويهود وغيرهم كل منها كان معادياً للآخر. لكن ثمة إرهاصات قليلة وخافتة ظلّت تبحث في جوهر الموقف الماركسي من نقد الدين، لاسيَّما أن ماركس لم يقدم أطروحة متكاملة على هذا الصعيد، بقدر استفادته من فيورباخ، الذي نادراً ما تتناوله الأدبيات الماركسية.
وباستثناء كتاب ماركس عن المسألة اليهودية، فإنه لم ينصرف إلى دراسة الدين أو تقديم أطروحات ومساهمات تُذكر بخصوصه، اللهم إلا إذا اعتبرنا تأثيرات فيورباخ عليه. وإذا كان هذا يتعلق بالجانب النظري (الفكري) فإن الجوانب العملية شهدت صراعات حادة وخصومات شديدة مع التيار الديني. وتوقفت في كتابي تحطيم المرايا لأسلط الضوء على الفهم الخاطئ والملتبس للعبارة الشهيرة «الدين أفيون الشعوب» سواء من جانب بعض الماركسيين الذين فسّروها ضد الدين أو من جانب أعدائهم الذين استثمروها باعتبارها الموقف الماركسي وعلى لسان ماركس من الدين، وهو ما لم يقصده ماركس على الإطلاق.
ولعل ما ساد في وقت متأخر حول إمكانية التحالف بين الماركسيين والمتدينين لم يتم في إطار مراجعة شاملة من الفريقين، بقدر ما كان يحمل في ثناياه إقرارا بواقع أليم، هو أن كلا منهما لم يستطع إلغاء الآخر، رغم محاولات التهميش والإقصاء والاستئصال، فضلا عن ذلك فإن كلا منهما لم يستطع أن يحقق ما كان يطمح إليه، لاسيَّما الانفراد بالساحة، ومع ذلك فإن ما حصل حتى الآن لم يكن أكثر من آمال أو أمنيات لم تجد طريقها إلى الواقع إلا في ظروف محدودة وعلى نحو محدود، الأمر الذي يطرح المسألة على بساط البحث مجدداً.
وإذا كان كاسترو قد بحث هذه العلاقة بين الماركسية والدين، لاسيَّما في السبعينيات وبشكل خاص في الثمانينيات، فثمة فراغات فكرية وعملية، لا تزال بحاجة إلى جهد مثابر وعمل طويل الأمد للوصول من الطرفين إلى الهدف المنشود، إذ إن المسألة لا تتعلق بالماركسيين فحسب، بل بالمتدينين أيضاً, الذين لا ينبغي عليهم الصراع على «الآمال والأحلام» الماورائية الغيبية بقدر ما عليهم دراسة الواقع والبحث عما يعانيه الإنسان من بؤس وظلم واستغلال، انطلاقاً من مقاربة نظرية فكرية ومصالح سياسية واجتماعية واقتصادية راهنة تخص البشر الذين يعيشون على الأرض, وليس في مملكة السماء، لهذا اقتضى أن يحتفظ كل فريق بما لديه من آمال وأمنيات تبشيرية بالخلاص على طريقته دون إرغام أو إكراه الطرف الآخر على الإيمان بها.
فالماركسيون يقولون إن المجتمع الشيوعي سيكون الأكثر سعادة, حيث لا وجود للطبقات والاستغلال، وسينعم البشر «كل حسب طاقته وحسب حاجته»، أما المتدينون فيقولون إن مملكة الأرض زائلة، والباقية هي مملكة السماء، حيث العالم الآخر الأكثر عدلاً وسلاماً وسعادة، والأرض مجرد دار فناء، في حين أن السماء هي دار استقرار.
ولهذا فإن ترك أو تأجيل مسألة الاختلاف على ملكوت العالم الآخر الآتي سيضع مشكلات الأرض أمام استحقاقاتها، أما ملكوت المستقبل فهو ما زال برحم الغيب، ولن يوصل الصراع حوله أياً من المتدينين أو الماركسيين إلى أي نتيجة تذكر.
المهم البحث في إشكاليات ومشكلات عالم اليوم، حيث النضال المشترك والمصالح المشتركة للفقراء والكادحين، الذي هو الحقل الفعلي والمساحة الحقيقية الممكنة للعمل والتعاون وحتى للصراع، أي ترك مشكلات عالم السماء والبحث في مشكلات عالم الأرض، التي تواجههم يومياً، لأن التمسك بالصراع حول عالم الغيب لن يقرّب بين المظلومين بقدر ما يشتت نضالهم.
لقد اصطدم الحزب الشيوعي الكوبي الذي توحّد مع حركة 26 يوليو مع الكنيسة والابرشيات بعد الثورة وتوّلد انطباع لدى الطرفين بأن صراعهما حتمي واستئصالي، ولذلك حُرما من رؤية رحبة بعيداً عن اللاهوت، إزاء قضايا الحاضر والمستقبل وسعادة ورفاه البشر.
وإذا كان قد حدث تطور مهم في رؤية الكنيسة في أميركا اللاتينية، لاسيَّما لدى المجمع المسكوني في الفترة بين 1962-1965 والتي قادتها إلى أن تلعب لاحقاً دوراً مهماً في لاهوت التحرير، فإن النقاش الذي دار بين كاسترو ومحاوره بيتو عام 1985 عكس رؤية ماركسية جديدة إزاء الموقف من الدين دون مجاملة أو مداهنة أو تنازل، ولكن في إطار قراءة وضعية نقدية للواقع دون تصغير من حجم الآخرين أو تضخيم بالذات. وكان بيتو قد قضى مع كاسترو 23 ساعة عمل كرّسها لرؤيته حول الدين.
إذا كانت هناك جوانب متطورة في هذه الرؤية الجديدة، فإن الكثير من الأحزاب الشيوعية والتيارات الماركسية لا تزال بعيدة عن هذه المراجعة الضرورية، إما تشبثاً بالماضي وإما تجنباً لفتح هذه السيرة وإما مداهنة لتيار إسلامي صاعد في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وفي بلدان آسيا وإفريقيا من جانب المتدينين.
لم يكن كاسترو وحده هو الذي درس في المدارس اليسوعية، فقد كان شقيقه راؤول رئيس الدولة حالياً هو الآخر قد درس على أيدي رهبان مسيحيين ويسوعيين في مدينة سانتياغو دي كوبا، وقد حضر -حسبما يقول- من القداسات ما يكفيه لبقية العمر، لكنه لم يبق على إيمانه بالكنيسة، لكنه يعترف أنه حافظ على مبادئ المسيح، وهو لا ينكر هذه المبادئ ولا يجحد حقها. يقول راؤول كاسترو: إن مبادئ المسيح تمنحني أملاً في الخلاص والثورة، إنها تطرد الأغنياء من الجنة خالي الوفاض وتهب الخبز للفقراء، وهو ما ذكّرني بالباحث العراقي هادي العلوي الذي تحدث عن الفلسفة التاوية مشبهاً لاوتسة بالمسيح وأبي ذر الغفاري وماركس، وحسب رأيه فإن المسيح يعتقد أنه لا مكان للأغنياء في الجنة «إنه لأسهل أن يدخل جمل في ثقب إبرة من أن يدخل غني ملكوت السماوات»، التي لا يمكنها أن تستوعبهم.
هل تتعارض الحياة الروحانية مع الحياة الدنيوية المادية؟ وهل هناك ضرورة لاعتزال العالم، واعتزال الحياة اليومية، تحت حجة التأمل والانصراف للاتصال بالخالق، في صومعة خاصة بدير أو أبرشية أو مسجد أو جامع أو خلوة مع النفس ومع الله. لعل هناك نوعاً من القداسة، فبركات الروحانية التي تظهر كمرايا إيمانية لاتباع طريق الحق والعدل، سواءً كانت تجلياً أم انصرافاً لاهوتياً، هي ذاتها التي لا تفصل عن قضايا ومشكلات الحاضر.
وإذا أردنا الحديث عن اللاهوت الخاص بالأناجيل، فهناك لاهوت متى ولاهوت مرقص ولاهوت لوقا ولاهوت يوحنا، ويعني اللاهوت فيما يعنيه انعكاسا للإيمان في نطاق واقع معين. وإن الذي ميّز لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية هو الوجود الجمعي لملايين من الجياع بعيداً عن الشخصانية، وهذا اللاهوت اكتشف أهمية وضرورة اللجوء إلى العلوم الاجتماعية، بما فيها الاستفادة من الماركسية، إذ إن الخوف من الماركسية كما يقول بيتو كان أقرب إلى الخوف من الرياضيات، لأنك تشك أنها ربما تأثرت بفيثاغورس، ولا يمكن لأحد في عالمنا المعاصر أن يتحدث عن التناقضات الاجتماعية دون أن يعزو بعض التقدير للمفاهيم التي بلورها وصاغها ماركس.
كان البابا يوحنا بولس الثاني قد استعار من ماركس عندما تحدث عن التوترات الطبقية والظلم الاجتماعي في رسالته البابوية عن العمل المتفاني الإنساني، والبابا هو نفسه الذي حاول محمد علي أغجا الذي ادعى أنه المسيح اغتياله في تركيا 1981 (كتابنا: قرطاجة يجب أن تدمّر، دار صبرا، نيقوسيا- دمشق، 1985)، واتهمت بلغاريا حينها بتنظيم عملية اغتياله في حملة دعائية وأيديولوجية شعواء، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتحلل المنظومة الاشتراكية، اتضح بطلان تلك الحملة وتم إسدال الستار على القصة بكاملها وقد أنهى أغجا مدة محكوميته في ظرف غامض ليطلق سراحه بعد سجنه 20 عاما.