وحدة اليسار مهمة... لكن تمايز مشروعه هو الأهم


داود تلحمي
2010 / 8 / 13 - 09:42     

بعد التراجعات التي شهدتها قوى اليسار في أنحاء العالم خلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة، إثر هجمة تيار "الليبرالية الجديدة" على قوى اليسار والنقابات منذ الثمانينيات الماضية، ثم إثر انهيار الإتحاد السوفييتي ودول تجارب التحول الإشتراكي الأخرى في أوروبا الشرقية والجنوبية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات الماضية، كان من الطبيعي أن يسعى المتمسكون بأهداف ومُثُل اليسار للبحث عن سبل لإعادة الاعتبار لقِيَم هذا اليسار وللتأكيد على راهنية مشروعه، بالرغم من كل هذه الإنتكاسات، ومشروعية تطلعات جمهور هذا اليسار نحو تجاوز أنظمة الظلم والتمييز والإستغلال الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وبناء مجتمعات أكثر عدلاً واحتراماً لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.

تجارب يسارية استمرت، وأخرى جديدة

طبعاً، بقيت، بعد انهيارات أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، تجارب أخرى قائمة ومستمرة في طرح توجهها للتحول نحو مجتمعات إشتراكية، في آسيا (الصين، فييتنام، كوريا الشمالية،...) وأميركا اللاتينية (كوبا)، واختطت كل منها طريقها الخاص للإستمرار وللتنمية والتطوير الإقتصادي والإجتماعي، جعلت الصين، مثلاً، تتحول خلال العقدين الأخيرين الى القوة الإقتصادية الثانية في العالم والى مشروع دولة عظمى ذات نفوذ كوني. وعملت فييتنام، الواقعة في جنوب شرق آسيا، على اتباع طريق قريب من الطريق الصيني للتطوير الإقتصادي، بحيث حققت، بالفعل، نمواً إقتصادياً ملموساً في السنوات الأخيرة، مع الفارق في الحجم البشري بين البلدين طبعاً (1300 مليون للصين، و80 مليوناً لفييتنام). فيما احتفظت كوبا بخصائص تجربتها الإستثنائية، في بلد صغير الحجم سكانياً (حوالي 11 مليوناً) يقع على مقربة من شواطئ الولايات المتحدة، الدولة الرأسمالية الأقوى والقوة العظمى التي استأثرت بالنفوذ الكوني بعد انهيار الإتحاد السوفييتي. ولكنها (أي كوبا)، التي عانت كثيراً خلال السنوات التي تلت هذا الإنهيار بسبب اعتمادها السابق على العلاقات الإقتصادية مع الإتحاد السوفييتي وبلدان تجارب التحول الإشتراكي الأخرى في أوروبا الشرقية والوسطى، لم تلبث أن شعرت، منذ أواخر القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الجديد أن صمودها القاسي خلال التسعينيات أعطى ثماره مع القرن الجديد بعد نجاحات اليسار المتلاحقة في أنحاء أميركا اللاتينية منذ انتخاب رئيس يساري في فنزويلا في أواخر العام 1998، وتعزز وضع القوى اليسارية في عدة بلدان أخرى من القارة خلال العقد الأول من القرن الجديد.
في مناطق العالم الأخرى، بقيت بعض القوى اليسارية الجذرية (أي المناهضة للإمبريالية والداعية الى تجاوز النظام الرأسمالي) قائمة، مع تراجع، متفاوت بين بلد وآخر، في قوتها وحضورها الشعبي. ونهضت قوى جديدة في مناطق مختلفة، لكن النهوض لم يكن، بشكل عام، في هذه المناطق، بمستوى النهوض الذي شهدته القارة الأميركية اللاتينية. وفي حين تخلت بعض القوى اليسارية في هذه مناطق العالم المختلفة، أو بعض تياراتها، عن "جذريتها" أو حتى أحياناً عن "يساريتها" لتتماشى مع ما سُمّي، في السنوات الأولى التي تلت انهيار الإتحاد السوفييتي، بـ"روح العصر"، حاولت قوى يسارية أخرى أن تجد تفسيراً لأسباب تراجع نفوذها في العقود الأخيرة، وأن تبحث عن سبل لنهوض جديد يعطي لشعار "التحول الإشتراكي" مصداقية متجددة بعد الإهتزاز الكبير الذي لحق بمصداقيته هذه إثر فشل "أُم التجارب" في القرن العشرين، التجربة السوفييتية. هذا، في حين أحتفظت بعض القوى اليسارية الجذرية في بلدان معينة بحضورها ونفوذها، خاصة وأن سياساتها كانت تاريخياً مشتقة، بالأساس، من أوضاع البلد المعني وتطلعات قطاعاته الشعبية الكادحة والمتطلعة للتحرر والتقدم.
***
ومن المهم الإشارة هنا الى أن التراجع لم يشمل قوى اليسار الجذري وحدها، بل شمل أيضاً، في العديد من بلدان العالم، وخاصة تلك المتطورة إقتصادياً، قوى يسار الوسط أو التيار "الإجتماعي الديمقراطي"، كما يسمّى عادة، وهو التيار الذي كان له حضور كبير حتى في قمة السلطة في العديد من الدول الأوروبية في العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، وسبقت هجمة "الليبرالية الجديدة" والتراجعات التي رافقتها عن سياسات "الرفاهية الإجتماعية"، خاصة منذ الثمانينيات الماضية. وهو تراجع يعود لأسباب مختلفة عن أسباب تراجع اليسار الجذري، وفي مقدمتها هجمة اليمين الرأسمالي في مرحلة "الليبرالية الجديدة" للنيل من مكتسبات القطاعات الإجتماعية الشعبية والتخلي عن سياسات كانت قد اتبعت في مرحلة "الحرب الباردة"، خاصة في أوروبا الغربية، استجابة لضغوط القطاعات الشعبية وأحزابها ونقاباتها القوية آنذاك، من جهة، ومحاولةً، من جهة أخرى، لمنع انجذاب القطاعات الشعبية المغبونة في هذه المجتمعات للنموذج الإجتماعي في الإتحاد السوفييتي وبقية بلدان تجارب التحول الإشتراكي. وكان الإقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز من دعاة هذا الإصلاح الإقتصادي الإجتماعي في النظام الرأسمالي منذ أوائل القرن العشرين، وخاصة بعد اندلاع الأزمة الإقتصادية الكبرى في أواخر العام 1929 والإرتباك الكبير الذي أحدثته في العالم الرأسمالي. والمدرسة الإقتصادية "الكينزية" هي التي سادت معظم بلدان أوروبا الغربية في العقود الثلاثة الأولى التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، قبل أن يبدأ الهجوم المعادي لها من قبل منظري مدرسة "الليبرالية الجديدة" في السبعينيات الماضية، خاصة بعد وصول مارغريت ثاتشر الى سدة الحكم في بريطانيا في العام 1979 ورونالد ريغن الى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة في مطلع العام 1981.
***
أحد الشعارات الرئيسية التي طُرحت في حالات عدة في سياق محاولات استنهاض دور اليسار كان شعار "وحدة القوى والتيارات اليسارية". وفي كل بلد أو منطقة، هناك، بالطبع، خصائص مختلفة لوضع اليسار ولميزان القوى الداخلي بين التيارات السياسية والقوى الإجتماعية المختلفة في البلد. وربما كان من المفيد التمعن في تجارب اليسار التي ما زالت تواصل تقدمها في أميركا اللاتينية، بما في ذلك تلك التي اعتمدت منها على أشكال من الوحدة بين تيارات أو قوى متقاربة الفكر والنهج السياسي (جبهة فارابوندو مارتي في السلفادور، مثلاً، التي تشكلت من خمسة أحزاب وحركات، ولها الكتلة الأكبر حالياً في البرلمان ولكن ليس الأغلبية، كما جرى في العام 2009 انتخاب أول رئيس للبلد مرشح من قبلها)، أو تلك الأكثر تنوعاً في المرجعيات والخلفية التاريخية (مثلاُ، "الجبهة الواسعة" في أوروغواي، الحاكمة منذ العام 2005).
ولكن، بالمقابل، هناك عدد من التجارب "التوحيدية" أو "الإئتلافية" في مناطق أخرى من العالم لم تقد الى النتائج الإيجابية المأمولة، بل نجم عنها تراجع وفشل في عدد من الحالات، نشير في ما يلي الى بعض منها.



تجربة توحيدية "صعبة" في الهند

نبدأ بالحديث عن تجربة جرت في الهند عشية وأثناء الإنتخابات النيابية التي جرت في ربيع العام 2009. حيث لم تتمكن "جبهة اليسار" من تحقيق نتائج متقدمة في هذه الإنتخابات، بل هي تراجعت تراجعاً كبيراً عما كانت عليه نتائجها في الإنتخابات النيابية السابقة، انتخابات العام 2004. و"جبهة اليسار" هذه تتشكل من أربعة أحزاب وطنية، أي لها حضور على امتداد البلد الكبير كله وليست محصورة في إطار ولاية أو قومية أو طائفة محددة. وهذ الأحزاب الأربعة هي، بالإضافة الى الحزب الشيوعي الهندي(الماركسي)، الحزب الرئيسي في هذا التحالف اليساري الجذري، الحزب الشيوعي الهندي، الذي كان الحزب المعترف به سابقاً من قبل الحزب الشيوعي السوفييتي، و"كتلة الى الأمام لعموم الهند"، و"الحزب الإشتراكي الثوري". وكلها أحزاب تتبنى الفكر الماركسي.
ففي حين كان لجبهة اليسار هذه 59 مقعداً في المجلس النيابي المنبثق عن انتخابات العام 2004، حصلت في الإنتخابات الأخيرة على 24 مقعداً فقط، أي بتراجع بلغ 35 مقعداً. وحصل الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) من بين الـمقاعد الـ 24 على 16 مقعداً، وهو أقل عدد من المقاعد يحصل عليه الحزب في البرلمان منذ تأسيسه في العام 1964 كانشقاق عن الحزب الشيوعي الهندي. حيث حصل في أول انتخابات شارك فيها، في العام 1967، على 19 مقعداً، وهو كان الرقم الأدنى له منذ ذلك التاريخ وحتى الإنتخابات الأخيرة. هذا، في حين حصل الحزب الشيوعي الهندي في الإنتخابات الأخيرة على 4 مقاعد في المجلس النيابي، وكل من الحزبين الآخرين من "جبهة اليسار" على مقعدين لكل منهما. أما في انتخابات العام 2004، فقد حصلت أحزاب "جبهة اليسار" الأربعة على 43، 10، 3، 3 مقاعد لكل من الأحزاب المذكورة أعلاه حسب الترتيب. أي ان جبهة اليسار تراجعت تراجعاً كبيراً من حيث عدد المقاعد في المجلس النيابي، وإن كان التراجع في نسبة الأصوات أقل من ذلك كثيراً. لكن النظام الإنتخابي القائم على أساس الترشيح الفردي في الدوائر، كما هو الحال في بلد مثل بريطانيا، أعطى هذا التراجع الكبير في عدد المقاعد. والأمر يتسمّ بجدية بالنسبة لهذه الأحزاب، خاصة نظراً لأن التراجع الأساسي في المقاعد، والى حد ما في نسبة التصويت، حصل أيضاً في الولايتين اللتين كانت أحزاب اليسار هذه واسعة النفوذ فيهما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهما ولايتا البنغال الغربي وكيرالا.
وقد أقرّ الحزب الشيوعي الهندي(الماركسي) والأحزاب الأخرى في "جبهة اليسار" بجدية هذا التراجع. فقد ذكر بيان صدر عن المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي/الماركسي يوم 19/5/2009، أي بعد ثلاثة أيام من الإعلان الرسمي عن نتائج الإنتخابات:
"إن التراجعات الجدية للحزب الشيوعي (الماركسي) وأحزاب اليسار في البنغال الغربي وكيرالا أحدثت قلقاً عميقاً. فقد خسر الحزب الشيوعي (الماركسي) 25 مقعداً عن هاتين الولايتين. وحصل الحزب على إجمالي 16 مقعداً بنسبة أصوات بلغت 5،33 بالمئة، تشكل تراجعاً محدوداً عن النسبة التي حصل عليها في انتخابات "مجلس الشعب" في العام 2004، وهي 5،66 بالمئة. ولا بد من دراسة جدية للأسباب التي أدت الى هذه التراجعات. وهناك اعتبارات على الصعيدين الوطني العام والمحلي لعبت دوراً في هذا الإنجاز الضعيف... وسيقوم الحزب بكل جهد ممكن لاستعادة ثقة تلك القطاعات من الشعب التي ابتعدت عنه".
وبينما هنأ المكتب السياسي للحزب المواطنين في ولاية تريبورا، الصغيرة نسبياً، على نجاح كلا مرشحي جبهة اليسار بقيادة الحزب في الحصول على المقعدين المخصصين للولاية في المجلس النيابي العام، أكد الحزب بأنه سيشكل مع حلفائه في جبهة اليسار "معارضة مسؤولة" في البرلمان الوطني.
ويشار هنا الى أن قادة الحزب الشيوعي الهندي/الماركسي وجبهة اليسار التي يقودها شكّلا، عشية الإنتخابات النيابية، جبهة أوسع أطلقوا عليها اسم "الجبهة الثالثة" وضمت عدداً من الأحزاب والقوى الأخرى المتنوعة المشارب السياسية، وكانوا يطمحون الى منافسة جدية للجبهتين الأكبر في الساحة السياسية الوطنية الهندية، حزب المؤتمر الوطني، بقيادة صونيا غاندي، وحلفائه، من جهة، وحزب "بهاراتيا جاناتا" اليميني وحلفائه من جهة أخرى. حتى أن بعض التصريحات التي سبقت الإنتخابات أوحت بوجود طموح لدى هذه القائمة الثالثة بالوصول الى سدة الحكومة كبديل عن كلا القطبين الكبيرين. وكان بعض استطلاعات الرأي، عشية الإنتخابات، يعطي "الجبهة الثالثة" أكثر من مئة مقعد في المجلس، المشكّل من 545 مقعداً.
وضمت هذه "الجبهة الثالثة"، بالإضافة الى قوى "جبهة اليسار" الأربع، ثمانية أحزاب أخرى لها حضور وطني أو إقليمي، أي في ولاية واحدة أو في عدد قليل من الولايات، يمكن تصنيف عدد منها في خانة يسار الوسط، وبعضها كان قد تحالف في الماضي مع أحد الحزبين الكبيرين، بما في ذلك مع حزب اليمين الرئيسي، حزب "بهاراتيا جاناتا".
والمفارقة في هذه الإنتخابات الأخيرة أن معظم هذه الأحزاب الثمانية استفاد من هذا التحالف الموسع وزاد تمثيله (خمسة من أصل ثمانية أحزاب زاد تمثيلها)، في حين تراجع تمثيل "جبهة اليسار"، نواة التحالف، كما سبق وذكرنا.
وقد تضمن بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) انتقاداً واضحاً للتسرع الذي جرى به تشكيل هذه "الجبهة الثالثة" قبل فترة وجيزة من موعد الإنتخابات (أُعلن عن تشكيل هذه الجبهة رسمياً يوم 12/3/2009، أي قبل شهر من بدء العمليات الإنتخابية)، بحيث افتقدت هذه الجبهة في أعين الشعب، وفق البيان، "للمصداقية والقابلية للحياة لإمكانية تشكيل بديل على المستوى الوطني". وذهب أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الى حد الحديث عن سياسة "إقطع والصق" في تركيب هذا التحالف، والتعبير هنا مستعار من لغة الحاسوب (الكومبيوتر) الرائجة والمعروفة من قبل مستخدميه. ولم يكن هذا التقييم بعيداً عن الواقع. حيث لم تكد تنتهي العملية الإنتخابية حتى انتقل بعض الأحزاب المشاركة في "الجبهة الثالثة" من غير "جبهة اليسار" الى الإلتحاق بالحزب المنتصر، حزب المؤتمر، في الإئتلاف الحكومي الجديد!
ولا شك أن تشكيل مثل هذه التحالفات الفضفاضة، ذات البرنامج العام والشعارات البراقة التي تستهدف إغراء الناخب ولكن لا تقدم مقترحات متميزة بشكل حاسم عن برامج القوى اليمينية والوسطية، لا يجعل هذا الناخب أمام خيارات وتخوم سياسية واجتماعية واضحة، خاصة مع تنوع تاريخ وخلفيات القوى المشاركة في "الجبهة الثالثة" من غير قوى "جبهة اليسار". ومن الواضح أن قادة الحزب الشيوعي (الماركسي) قد اعتبروا هذه الخطوة التكتيكية، كما جاء في بيانهم، خطوة متسرعة، وفعلياً بالتالي خاطئة.
وبطبيعة الحال، هناك أسباب أخرى لتراجع قوى اليسار في هذه الإنتخابات لها علاقة بكيفية تعاطي القوى اليسارية التاريخية، التي تقود إحدى أكبر الولايات في الهند، البنغال الغربي (أكثر من 80 مليون نسمة)، منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتحديداً منذ العام 1977، بالإضافة الى ولايتين أخريين، كما ذكرنا، هما كيرالا وتريبورا، لها علاقة، مثلاً، بكيفية تعاطيها مع نمط التنمية الإقتصادية التي تجري في البلد منذ زهاء العقدين من الزمن، وهي سياسة حققت نسبة عالية من النمو على مستوى الإقتصاد الإجمالي، لكنها أدت في الوقت ذاته الى تزايد الفروقات في المداخيل بين قطاعات المجتمع الهندي، وحتى الى إفقار قطاعات من الشعب، وخاصة في الأرياف، بسبب توسع سيطرة الشركات الكبرى، الهندية والأجنبية، على مساحات متزايدة من الأراضي، سواء بغرض بناء المنشآت الصناعية أو إنشاء المزارع الكبيرة، على حساب صغار الملاك والفلاحين في البلد. وهكذا، كان اليسار الحاكم في ولاية البنغال الغربي، خاصة، واقعاً بين فكّي معارضته للسياسات العامة لليمين أو الوسط الحاكم في المركز، من جهة، وسعيه في الوقت نفسه لتحقيق تنمية إقتصادية في الولاية تعتمد المبدأ ذاته للتنمية المتبعة في عموم البلد، من جهة أخرى. وهو وضع أدى، في ما أدى إليه، الى تنامي ظاهرة المعارضة المسلحة للنظام الهندي، التي بدأت في مناطق أخرى لكنها امتدت في السنوات الأخيرة الى هذه الولاية والى ولايات أخرى من الهند. وتُوصف ظاهرة المعارضة المسلحة هذه بـ"الماوية"، نسبة الى قائد الثورة الصينية ماو تسي تونغ. والصفة لا تعني ارتباط الحركة الهندية المسلحة بالدولة الصينية الحالية، التي يعتبرها "الماويون" غير ملتزمة بمدرسة ماو. وهو حال الحركة الماوية، القوية نسبياً لعدد السكان، في نيبال، البلد الأصغر حجماً وسكاناً الواقع الى الشمال من الهند.

وتجارب توحيدية يسارية في إيطاليا واليونان

وننتقل للحديث عن تجربة اليسار الإيطالي، وتحديداً اليسار الجذري منه، الذي تمثّل، بشكل رئيسي، بعد إعلان حل الحزب الشيوعي الإيطالي في أواخر العام 1991، بالحزب الذي كان معروفاً بعد ذلك باسم حزب "إعادة التأسيس الشيوعي"، الذي تشكّل من الأقلية في الحزب (المنحل) التي بقيت متمسكة بالتوجه الجذري المناهض للنظام الرأسمالي، فيما اتجهت الأغلبية في الحزب نحو مواقف يسار الوسط. واستقطب حزب "إعادة التأسيس" مجموعات يسارية جذرية أخرى، وحصل في الإنتخابات النيابية اللاحقة على نسب من الأصوات تتراوح بين 5 و9 بالمئة، وتمكن، بالتالي، من الحفاظ على حضور في البرلمان الإيطالي، كما في البرلمان الأوروبي، حتى العام 2008. كما كان جزءً من الكتلة الداعمة لحكومتي يسار الوسط اللتين تشكلتا بين هذين التاريخين برئاسة رومانو برودي.
لكن عشية الإنتخابات النيابية في ربيع العام 2008، وتحديداً في الشهر الأخير من العام 2007، شكّل حزب إعادة التأسيس تحالفاً انتخابياً مع ثلاث قوى أخرى:
# حزب الشيوعيين الإيطاليين، الذي كان قد انشق سابقاً عن حزب إعادة التأسيس بسبب خلاف حول بعض إجراءات حكومة برودي الأولى (1996-1998)،
# وفيديرالية الخضر، المهتمة بقضايا البيئة كما يدلّ إسمها والتي تشكلت في العام 1990،
# وأخيراً "اليسار الديمقراطي"، وهو انشقاق حدث في ربيع العام 2007، أي قبل أشهر قليلة من تشكيل الإئتلاف اليساري الرباعي، عن الكتلة الأكبر المنبثقة عن حل الحزب الشيوعي والتي جنحت نحو يسار الوسط، كما ذكرنا.
وحمل هذا الإئتلاف الرباعي اسم "اليسار – قوس قزح"، وشارك لأول مرة بهذه الصيغة في الإنتخابات النيابية التي جرت في ربيع العام 2008، ولم يحصل سوى على زهاء 3 بالمئة من أصوات الناخبين، وهي نسبة لم تسمح له بالتمثّل في البرلمان، حيث عتبة الدخول هي 4 بالمئة. وبذلك أصبح الشيوعيون، واليسار الجذري عامةً، خارج البرلمان الإيطالي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والقضاء على النظام الفاشي والسيطرة النازية الألمانية على البلد في أواسط الأربعينيات الماضية.
وكان مجموع النسب التي كانت تحصل عليها القوى الثلاث الأولى من هذا الأئتلاف اليساري الجديد قبل تشكله (القوة الرابعة حديثة التشكيل، كما ذكرنا، ولم تشارك في انتخابات سابقة) بين العامين 1994 و2006 تتراوح بين 8 وأكثر قليلاً من 11 بالمئة من أصوات الناخبين. أي ان نتيجة انتخابات العام 2008 كانت كارثية بكل معنى الكلمة. وانتهى وجود الإئتلاف بعد ذلك وشهدت أطرافه سلسلة من الإنشقاقات وإعادة الإصطفاف.
وهكذا لم تشكّل "وحدة" القوى الأربع جمعاً لقوة كل منها، كما قد يتبادر الى الذهن، بل شهدت هرباً واسعاً لجمهور هذه القوى. ولا شك أن عدة تفسيرات ممكنة لهذه النتيجة، أولاها كون الإئتلاف مطاطاً وعدم واضح التخوم، بحيث كانت قواه تختلف على قضايا كثيرة، وفقدت، بالتالي، التمايز والوضوح المطلوبين لاستقطاب أصوات جمهور اليسار الجذري، الذي ربما امتنع بعضه عن التصويت، أو صوّت بعضه لصالح إئتلاف يسار الوسط الكبير على أمل الحؤول دون نجاح إئتلاف اليمين، بقيادة سيلفيو بيرلوسكوني. وهو رهان، كما نعلم، لم يتحقق، حيث حصل اليمين على أغلبية واضحة وشكّل الحكومة منذ ذلك الحين.
وبعض التحليلات تشير أيضاً الى انعكاسات مشاركة حزب "إعادة التأسيس الشيوعي" في حكومة يسار الوسط الثانية برئاسة رومانو برودي بين العامين 2006 و2008، وتصويت الحزب، مثلاً، لصالح تجديد تمويل البعثة العسكرية الإيطالية المشاركة في إطار قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، كما لصالح إرسال قوات إيطالية ضمن القوات الدولية التي تم تشكيلها للتمركز في جنوب لبنان بعد العدوان الإسرائيلي على البلد في صيف العام 2006.

** وفي بلد أوروبي جنوبي آخر، هو اليونان، تشكل في العام 2004 إئتلاف يساري واسع ومتنوع المشارب أُطلق عليه اسم "إئتلاف اليسار الجذري"، وعُرف بالأحرف الأولى اليونانية لاسمه "سيريزا" وضم أكثر من عشرة تنظيمات وجماعات يسارية وبيئوية وعدد من الشخصيات اليسارية الناشطة، وبعضها له تاريخ بارز في مرحلة مقاومة الإحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وكان الطرف الأبرز في هذا الإئتلاف الواسع هو الحركة المسماة "تحالف يسار الحركات والبيئة"، والمعروفة بالكلمة الأولى من اسمها باليونانية "سيناسبيسموس"، والمتشكّلة في أواخر الثمانينيات الماضية من تيارات "اليسار الأوروبي الجديد" وبعض أعضاء الحزب الشيوعي اليوناني الذين غادروا الحزب أو اختلفوا مع "خطه الأيديولوجي المتشدد". وقد فشلت "سيناسبيسموس" في انتخابات العام 1993 النيابية في تجاوز عتبة الـ3 بالمئة التي كانت محددة آنذاك لدخول البرلمان، ولم تُمثل بالتالي فيه آنذاك، لكنها حققت نسباً أفضل في الإنتخابات اللاحقة، حيث تجاوزت الـ 5 بالمئة في الإنتخابات البرلمانية في العام 1996. وتراوحت نتائجها بعد ذلك بين 3 و5 بالمئة.
إلا انها حصلت، في إطار الإئتلاف الواسع الجديد "سيريزا"، في الإنتخابات النيابية وانتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في العام 2009، على أقل من 5 بالمئة. أي ان الإئتلاف الواسع لم يقُد عملياً الى زيادة وزن الكتلة الإنتخابي، بالرغم من كون استطلاعات الرأي في الفترة التي تلت الإعلان عنه في العام 2004 كانت تعطي الإئتلاف نسباً عالية وصل بعضها الى ما يقارب الـ 20 بالمئة. لكن، كما رأينا، في العملية الإنتخابية الفعلية، لم تتحقق هذه القفزة، وبقي الحزب الشيوعي اليوناني القوة اليسارية الجذرية الأولى في البلد، وإن كان، هو أيضاً، قد شهد تراجعاً في قوته الإنتخابية، خاصة بعد انهيار التجربة السوفييتية، حيث كان الحزب يعتبر تاريخياً قريباً منها. ففي حين وصلت القوة الإنتخابية للحزب الشيوعي الى أكثر من 13 بالمئة في الإنتخابات النيابية وأكثر من 14 بالمئة في الإنتخابات الأوروبية في العام 1989، عشية انهيار الإتحاد السوفييتي، انخفضت هذه القوة الى أقل من 5 بالمئة في انتخابات العام 1993، وارتفعت بعد ذلك بحيث وصلت الى أكثر من 8 بالمئة في الإنتخابات النيابية في العام 2007 وأكثر من 9 بالمئة في انتخابات البرلمان الأوروبي في العام 2004، لكن هذه النسب انخفضت قليلاً في الإنتخابات النيابية اليونانية والأوروبية في العام 2009، مع البقاء في مستوى متقدم على الإئتلاف اليساري الآخر الذي تحدثنا عنه أعلاه.
وبالرغم من أن الرغبة في التخلص من حكم حزب اليمين الرئيسي في البلاد، حزب "الديمقراطية الجديدة"، قد تكون لعبت دوراً في انتخابات العام 2009 في تراجع نسبتي أصوات كلا الحزب الشيوعي والحركة اليسارية الإئتلافية على حد سواء، من باب ما يُعرف عادةً باسم "التصويت المجدي"، إلا ان من المشروع الإستخلاص أن تشكل الإئتلاف اليساري الموسع لم يقُد، كما كان مراهناً عليه، الى توسيع قاعدته الإنتخابية.

التمايز والوضوح البرنامجي والعملي هما الأساس

وما يمكن استخلاصه من هذه التجارب، وبمعزل عن الظروف الخاصة لكل بلد وبعض الإعتبارات الذاتية الخاصة بهذا الحزب أو الإئتلاف أو ذاك، هو أن الوحدة بين حزبين يساريين أو أكثر لا تعطي، بالضرورة، جمعاً حسابياً لأصواتهما (أو أصواتها)، خاصة في الحالة التي تقود فيها هذه الوحدة الى "تمييع" البرنامج المشترك والى شيء من الضبابية في السياسات المطروحة، على خلفية تنوع المرجعيات الفكرية والسياسية للأحزاب التي يتشكل منها الإئتلاف.
طبعاً، كل حالة بحاجة الى تحليل ملموس لها، حيث هناك حالات وحدة أو إئتلاف تحقق نجاحات، كما رأينا بالنسبة لبعض بلدان أميركا اللاتينية. ولكن، في حالة السلفادور، تشكلت الوحدة بين خمسة تنظيمات متقاربة فكرياً وسياسياً، وكانت كلها منخرطة لأكثر من عقد من الزمن (1980-1992) في العمل المقاوم للنظام اليميني المرتبط في البلد، المرتبط سياسياً وعسكرياً بالولايات المتحدة. وفي حالات أخرى في تلك القارة، تشكلت التحالفات والإئتلافات والأحزاب أو الحركات القائدة حول قيادة كاريزمية، وأحياناً بعد وصول القائد المعني الى سدة الحكم، كما هو الحال بالنسبة لبلدان مثل فنزويلا وبوليفيا وإكوادور.
الإستخلاص المهم من هذه التجارب هو أن الوحدة ليست، بالضرورة، دائماً جمعاً لقوة الأطراف التي تتشكل منها، خاصةً إذا ما كانت هذه الوحدة بين أطراف غير متجانسة فكرياً وسياسياً وبرنامجياً، وبدا إئتلافها أو وحدتها للمواطنين إما إضعافاً لبرنامج الأطراف الأكثر وضوحاً بينها، أو إئتلافاً "إنتهازياً" يستهدف مجرد تجميع الأصوات، ولو على حساب وضوح البرنامج والأهداف. وذلك لا يلغي، طبعاً، إمكانية اتفاق قوى يسارية، من مشارب مختلفة ومتنوعة، على العمل المشترك في قضايا محددة، مثل حملات الدفاع عن مصالح القطاعات الشعبية المهددة من قبل اليمين، أو حتى في حملات انتخابية معينة، عندما لا يقود هذا الإتفاق الى إغراق هوية الأطراف الجذرية في بحر الطرف أو الأطراف الأقرب الى خيارات "يسار الوسط"، والداعية الى مجرد إصلاحات محدودة في النظام الرأسمالي دون المساس بأسس النظام نفسه والسعي الى تجاوزه نحو نظام أكثر إنصافاً للقطاعات الشعبية.
وهنا يمكن أن نشير، على سبيل المثال لا الحصر، الى التصويتات التي جرت في الدورة الثانية لانتخابات مجالس المقاطعات في فرنسا في آذار/مارس 2010، حيث دعمت مختلف قوى اليسار الجذري مرشحي يسار الوسط وحركات البيئة، حيثما وجدوا، في مواجهة مرشحي اليمين الحاكم (حزب الرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي) واليمين القومي المتطرف. وما يسهّل الأمور على اليسار الجذري في النظام الإنتخابي الفرنسي هو كون هذا النظام يعتمد الدورتين في العملية الإنتخابية، بحيث يمكن أن يتقدم كل حزب أو إئتلاف حزبي متجانس للدورة الإنتخابية الأولى بمفرده أمام جمهور ناخبيه، بينما يسعى في الدورة الثانية الى تحجيم اليمين عبر التصويت لمرشحي اليسار وأنصار البيئة الذين تتوفر لديهم فرصة النجاح في مواجهة اليمين، بغض النظر عن تلاوينهم والإختلاف السياسي والبرنامجي القائم معهم.
وقد حقق مجمل اليسار في هذه الإنتخابات الإقليمية الفرنسية الأخيرة انتصاراً كاسحاً على اليمين في الدورة الإقتراعية الثانية، بحيث سيطر اليسار، وخاصة الحزب الإشتراكي (يسار الوسط)، على 21 من المقاطعات الـ22 التي تتشكل منها فرنسا (الأوروبية)، بالإضافة الى اثنتين من بين أربع مقاطعات معتبرة جزءً من فرنسا "في ما وراء البحار"، هما جزيرة مارتينيك ومجموعة جزر غوادلوب في شرق البحر الكاريبي في وسط القارة الأميركية، فيما نجح اليمين في منطقة "لا غويان" الواقعة شمالي البرازيل في أميركا الجنوبية كما في جزيرة "لا ريونيون" الواقعة في المحيط الهندي الى الشرق من جزيرة مدغشقر، القريبة من شواطئ إفريقيا الشرقية الجنوبية والمعتبرة جزءً من القارة.
وباختصار، معادلة "الوحدة" تقوي اليسار إذا ما ارتكزت على برنامج واضح ومتميز أمام الجمهور وكانت مكونات الوحدة منسجمة في القضايا الرئيسية التي تهم هذا الجمهور، بمعزل عن وجود بعض الإجتهادات ووجهات النظر المتباينة حول قضايا غير أساسية بنظر الجمهور، وهي اجتهادات وتباينات يمكن أن تكون موجودة في حزب واحد.
والعكس صحيح أيضاً: أي إن الجمهور غالباً ما لا ينظر إيجاباً، كما رأينا في حالتي الهند وإيطاليا، الى تشكيلات توحيدية تفتقد للمصداقية والمبدئية، وتصطبغ بالسعي "الإنتهازي" للكسب الإنتخابي قصير الأمد. وهو ما لا يلغي، مرة أخرى، إمكانية توصل قوى يسارية، بمعزل عن تبايناتها السياسية والبرنامجية، الى اتفاقات آنية أو موقعية لتحقيق أهداف مشتركة متوافق عليها، بما في ذلك، مثلاً، في انتخابات نقابية أو قطاعية.
ففي المعادلة، "التمايز" هو العنصر المهم: أي أن الجمهور يحكم على أية تجربة وحدوية على أساس ما تقدمه من برامج واضحة ومتميزة عن كل الأطراف السياسية الأخرى، وتحديداً عن قوى اليمين، خاصة إذا ما كانت في الحكم أو في موقع نافذ، وخاصةً بالنسبة لليسار الجذري، الذي يُفترض أن يتمايز أيضاً عن يسار الوسط، الذي يميل عادةً الى برامج تلتقي في الكثير من الحالات مع اليمين. وهو ما رأيناه في العقود الثلاثة الأخيرة في أوروبا، حيث قامت قوى يسار الوسط في عدة بلدان أوروبية بتطبيق برامج "الليبرالية الجديدة" الإقتصادية التي دشّنها اليمين، كما أشرنا، سواء في ظل حكومات فرنسا خلال عهد الرئيس فرانسوا ميتيران (1981- 1995)، مؤسس "الحزب الإشتراكي" المعاصر في فرنسا، أو في ظل حكومة توني بلير البريطانية (1997-2007) وحكومة غوردون براون التي خلفتها، كما في ظل ما تبقى من حكومات لهذا التيار، خاصة في جنوب أوروبا: إسبانيا والبرتغال، ومؤخراً اليونان. فإسبانيا، التي يحكمها حزب "العمال الإشتراكي الإسباني" منذ العام 2004، تعاني حالياً من إحدى أعلى نسب البطالة في أوروبا، حيث تقترب النسبة من الـ20 بالمئة من قوة العمل في البلد، في حين أن متوسط نسبة البطالة في مجمل بلدان الإتحاد الأوروبي أقل قليلاً من 10 بالمئة.
أما في اليونان، التي أسفرت انتخاباتها النيابية الأخيرة، التي جرت في مطلع خريف العام 2009، عن نجاح حزب يسار الوسط الرئيسي في البلد، المعروف باسم الحركة الإشتراكية لعموم اليونان (باسوك)، ليحل محل حزب يمين الوسط الرئيسي في البلد، فقد أقدم الحزب الجديد في سياق مواجهة الأزمة الإقتصادية المتفاقمة، وخاصة المديونية العالية للدولة، الى إجراءات تمس بالأساس بمكاسب ومستوى معيشة القطاعات الإجتماعية الشعبية، التي ساهم جزء كبير منها في إنجاح الحزب وإسقاط اليمين في الإنتخابات. وهو ما انعكس في اتساع نطاق الإحتجاج الشعبي والتظاهرات المناهضة لإجراءات التقشف التي تمس هذه القطاعات أكثر مما تمس الفئات الثرية في البلد.
وذلك ما لا يعني، طبعاً، أن بقاء اليمين أفضل لهذه القطاعات الشعبية. فالخلاص من حكم اليمين هو مكسب، ولكنه آني ومتناقض. وهو ما يعني أن خيار هذه القطاعات الشعبية الأجدى هو خيار اليسار الجذري، مع ان هذا الخيار ليس حالياً بمتناول اليد أو قابلاً للوصول الى مركز الحكم، غالباً بسبب عدم جاهزية الرافعة المنظمة وعدم تبلور استراتيجية البديل اليساري الجذري ذات المصداقية في أعين القطاعات الشعبية. لكن تطورات الوضع، وسياسات وممارسات اليسار الجذري، العملية وليس اللفظية، هي التي يمكن أن توفر شروط انحياز هذه القطاعات الشعبية اللاحق له.
وهو ما لا يبدو، كما ذكرنا، احتمالاً قريباً، خاصة وأن مفاتيح كثيرة لمواجهة الأزمة الراهنة في بلد مثل اليونان هي في يد الإتحاد الأوروبي ومنطقة عملة الـ"يورو"، اللذين ينتمي اليونان اليهما، وكذلك البنك الدولي، الذي يمكن أن يساهم هو أيضاً في توفير القروض السريعة الضرورية لمواجهة الإستحقاقات المالية الناجمة عن الديون الهائلة المتراكمة على البلد.
ولكن، بمنظور استراتيجي، وعلى خلفية الأزمة الإقتصادية الطاحنة للنظام الرأسمالي والمستمرة منذ أكثر من عامين، من المشروع أن تفكر وتخطط قوى اليسار الجذري، في اليونان وفي غير اليونان، وربما من الأفضل بشكل جماعي بسبب قيود الإتحاد الأوروبي والتحالفات الأخرى التي تربط هذا البلد وغيره من بلدان القارة، لصيغ جذرية أبعد مدى للتمهيد لتجاوز النظام الرأسمالي ووضع لبنات تجارب تحول إشتراكي أكثر نضجاً ومصداقية من التجارب السابقة في القارة، مستفيدةً من غنى وثغرات هذه التجارب السابقة، ومتجاوزةً لها.