كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (23) الاشتراكية والإيمان الديني


عبد الحسين شعبان
2010 / 4 / 6 - 19:06     


سأل الكاردينال سيلفا هرناندز الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عمّا إذا كان الكتاب المقدس الذي قدّمه إليه هدية قد أغاظه، فأجاب كاسترو: "ولماذا؟ هذا كتاب عظيم، قرأته ودرسته في الصبا، وسأستعيد العديد من المسائل التي تثير اهتمامي" لعل هذا ما ينقله محاور كاسترو فراي بيتو عن علاقة كاسترو بالدين ورؤيته للإيمان الديني والموقف من الاشتراكية، خصوصاً وهو يستعرض أحاديثه إلى الرهبان في تشيلي (نوفمبر 1971)، التي كان قد قرأها وهو سجين سياسي في ساو باولو (البرازيل) عندما كان يقضي حكماً بالسجن لمدة 4 سنوات تتعلق بالأمن الوطني.
كان كاسترو قد زار الكاردينال هرناندز زيارة بروتوكولية في سانتياغو؛ حيث كانت كلماته تتردد عن أن "في الثورة هناك عوامل معنوية تغدو حاسمة" وأن الحاجة الموضوعية لشعوبنا لأن تحرر نفسها، وهذه الحاجة تخص المسيحيين والشيوعيين، الذين عليهم أن يتحدّوا من أجل هذا الهدف، ولفت كاسترو النظر وهو يتحدث إلى رجال الدين التشيليين إلى أنه درس في مدرسة كاثوليكية ومع اليسوعيين، الذين وصفهم بأنهم أناس جادون منضبطون، صارمون، أذكياء، ذوو عزيمة قوية، وأردف: لقد قلت هذا دائماً وأقول لكم فيما بيننا إن هناك تشابهاً عظيماً بين غايات المسيحيين وبين تلك التي يسعى إليها الشيوعيون، أي: أن من بين تعاليم المسيحية: التواضع والزهد والإيثار وأن تحب جارك، وبين ما يمكن أن ندعوه فحوى وحياة ونشاط الثوري (انظر: كاسترو والدين، حوارات مع فراي بيتو، مصدر سابق، ص 13-14).
وحول علاقة الدين بالسياسة يقول كاسترو: إن السياسة في عصرنا دخلت في مجال يقترب من الدين، فيما يتعلق بالإنسان واحتياجاته المادية، ونستطيع أن نقارب الوصايا العشر: لا تقتل، لا تسرق، لا تكون أنانياً، لا تستغل الآخرين... إلخ، هناك توافق إذاً بين المسيحية والشيوعية أكثر من 10 آلاف مرة مما بين المسيحية والرأسمالية، ولعله بذلك قصد الجوانب الأخلاقية والروحية والمُثل الإنسانية، خصوصاً إذا استثنينا الموقف من الملكية الخاصة ودورها.
لا ينفي كاسترو أن الإيمان الديني لم يُغرس فيه أبداً، لكنه كان يحترم المقدسات الدينية، ويعتقد أن الدين مُحرّف على أيدي الطبقات الرأسمالية المستغلة؛ حيث وظّفته لصالحها وجعلته في خدمتها، فهناك دين ملاك الأراضي والأثرياء، وهناك دين الفقراء والمستلبين.
لعل الشيء المتقدم الذي كان كاسترو قد طرحه ومنذ وقت مبكر هو الذي يتعلق بالتحالف الاستراتيجي وليس التكتيكي بين المسيحيين والشيوعيين "نحن مع أن نكون حلفاء استراتيجيين، ما يعني أن نكون حلفاء دائمين". وكان كاسترو يردد ألا حاجة لوجود أي تناقض بين الثورة الاجتماعية ومعتقدات الناس الدينية، وحرصت الثورة الكوبية على ألا تقدم نفسها كمعادية للدين.
وبخصوص المسيح كان كاسترو يعتقد أن المسيح ثوري عظيم وأن عقيدته هي لصالح الفقراء وضد الظلم والتعسف وإذلال الإنسان، ولعل ذلك هو المشترك الإنساني الذي يجمع بين تعاليم الدين وبين تعاليم الاشتراكية.
هل ينقسم الناس إلى متدينين وغير متدينين، أي إلى مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وإلى شيوعيين واشتراكيين، أم ثمة قسمة أكثر عدلاً، حين يمكن تقسيمهم إلى ثوريين وغير ثوريين حسبما استخداماتنا السابقة، وإلى من هم مع الاستغلال والقهر ومن هم ضده، بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم؟
بودي هنا أن أقول إن الكثير من الحركات الشيوعية والماركسية ارتكبت أخطاء جسيمة عندما بشّرت على نحو ساذج بإلحادية مدرسية نزقة، ما جعلهم "غرباء" إلى حدود معينة في مجتمعاتهم رغم تضحياتهم الكبيرة، لاسيَّما عن جمهور الفقراء الذين يدّعون أنهم يمثلونهم. وهذا هو ما استذكرته في كتابي "تحطيم المرايا.. في الماركسية والاختلاف، حوار: خضير ميري، الدار العربية للعلوم، بيروت 2009" حين استعرضت كتاب المفكر الإيراني الإسلامي علي شريعتي "العودة إلى الذات" والمتعلق بموقف اليسار الماركسي من الدين.
ورغم أن شريعتي يشيد بدور الماركسيين وما قدمه الفكر الماركسي ويعتبره شيئاً مهماً، لاسيَّما لجهة الكفاح ضد الاستغلال والاستعمار والظلم، فإنه يعتبر أن مدخله كان خاطئاً، خصوصاً موقفه من الدين، ولعلي هنا أتفق معه حول بعض التصرفات الطفولية والمراهقة التي حُسبت على الماركسيين والشيوعيين، وكان ينبغي أن يكون مدخلهم هو العدالة وليس الله، فالعدالة هي المشترك الذي يمكن أن يلتقي عنده المتدينون وغير المتدينين، المسلمون والماركسيون وغيرهم، خصوصاً إذا اتسمت بالدعوة إلى الحرية، التي هي القيمة العليا للبشر، وأقتبس هنا ثلاث صور كاريكاتيرية طريفة من شريعتي.
الصورة الأولى: يرسم فيها مثقفاً يسارياً يخاطب جمهرة الفلاحين ويحرضهم ضد السلطات الحاكمة، ثم يقنعهم بالهجوم عليها وأخذ زمام المبادرة لتحرير أنفسهم.
الصورة الثانية: يصوّر فيها جمهرة الفلاحين وهم يسيرون خلف المثقف اليساري لمواجهة السلطة عبر الاستيلاء على رمزها "مركز الشرطة".
الصورة الثالثة: يرسم فيها المثقف اليساري مختبئاً وراء أفراد الشرطة، في حين تطارده جمهرة الفلاحين وتريد قتله؛ لأنه شكّك بوجود الخالق.
ولعل هذه الصورة النمطية تكاد تتكرر على المستوى العالمي، ولكن تأثيراتها أكثر ضرراً وعمقاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ إذ إن مجرد التشكيك أو الاستخفاف بوجود الخالق حوّل ما بناه المثقف اليساري برمشة عين إلى الضد منه؛ لأنه تناول قضية مستقرة في أذهان العامة، وتمثل جزءاً من وجدانهم، فانقلب مصدر سخطهم من عدوهم "السلطة الظالمة"، إلى نصير لهم ومدافع عن حقوقهم؛ لأنه شكك بعقائدهم.
لقد واجهت الماركسيين مثل هذه الإشكالات في حياتهم اليومية، ولم يتصرفوا إزاءها بنوع من الحصافة والحصانة الفكرية ومن المعرفة بخصائص وعقائد المجتمع وتاريخ بلدانهم سواء أكانت مسلمة أم مسيحية، ذلك أن المساس بالعقائد المتوارثة سيلحق ضرراً كبيراً بقضية النضال المشترك الذي ستكون مادته هي جمهور الناس البسطاء، المُعدمين، المؤمنين على طريقتهم الخاصة وعلى ما توارثوه من معتقدات وأساطير وحتى أوهام أحياناً، لكن ذلك ينبغي مراعاته على نحو دقيق؛ إذ إن مجرد الاقتراب منه أو الشعور بأن ثمة خدشا له وهو مستقر في الأذهان وغير قابل للنقاش، سيجعل المعنيين بالتغيير في دائرة الرفض، وسيحسب من يحاول ذلك إلى دائرة الإساءة إلى المقدسات، وهو ما يمكن اعتباره استراتيجياً وتكتيكيا أمراً خاطئاً، ولعل هذا هو ما توصّل إليه فيدل كاسترو عند حديثه في إطار النقد الذاتي عن التحالف الاستراتيجي، الدائم بين الماركسيين والمسيحيين.
وبالطبع لا يمكن بلوغ مثل هذا التحالف من الكتب والتفسيرات والتأويلات وحدها، على أهميتها وقيمتها التي لا يمكن الاستغناء عنها، فالأمر يحتاج إلى أرضية يلتقي عندها من هو معني بالتغيير والتحرير ومكافحة الاستغلال، ومن خلال عمل شاق وطويل وتراكم وتطور تدريجي وترويض للنفس.
الشيء الممتع والمثير للدهشة حقاً هو حوار كاسترو مع المتدينين، ولعلك وأنت تتوغل في التعرف والقراءة والنقد، تكتشف أنك أمام شخصية متميزة ومفتوحة وصريحة وتستطيع أن توجّه إليها أي أسئلة دون حرج، بما فيها ألا توافقه في الرأي.
لقد تأثر كاسترو مثلما تأثرنا جميعاً، دون إغراق، لاسيَّما من انحدروا من عوائل دينية أو درسوا في مدارس دينية أو عاشوا في بيئة دينية، ببعض المثل والقيم الدينية الإنسانية، رغم عدم إيمان بعضنا دينياً، إلا أنه، وهذه تجربتي الشخصية أيضاًً، لم نكن محصنين إزاء ما ورثناه من تعاليم، وهذه أضافت إلينا بُعداً أخلاقياً ورمزياً؛ لأننا كنّا نعتبرها قيماً إنسانية اجتماعية وفي الوقت نفسه قيماً ثورية، نتعاطى معها بسليقية وانسيابية.
وسبق أن كتبت قبل عقد ونيف من الزمان عن السيد محمد باقر الصدر (الذي اختفى قسرياً هو وأخته بنت الهدى، عام 1980): "حلق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة"، عن العلاقة بين الماركسيين والإسلاميين، مفرّقاً ما بين الأيديولوجي المختلف، وبين السياسي والاجتماعي النضالي اليومي الذي يمكن أن يكون مؤتلفاً، بحثاً عن الحرية والعدالة، التي يُفترض أن تشكل المشترك الإنساني الذي يساعد في تكوين تصورات مشتركة إزاء أوضاع الظلم والقهر والاستغلال.
وفي هذا المجال كنت قد قرأت نقدياً فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" وكذلك موقف السيد محمد باقر الحكيم (المجلس الإسلامي الأعلى) في اجتماع للمعارضة العراقية في دمشق، 1996، وإصراره على استبعاد الحزب الشيوعي، وهو ما نشرته في صحيفة الحياة اللندنية في حينها، وذلك بتغليب طبق الأيديولوجيا على مقبّلات السياسة، خصوصاً أن هناك بعض المشتركات كان الطرفان يعيشانها، لاسيَّما ضغط وكبت النظام السابق، خصوصاً في السجون والمنافي؛ حيث كان الواقع والعقل يقتضيان تقديم السياسة على الأيديولوجيا، ولكن دون تنازل أو تهادن أو استرخاء أو مجاملة، بما فيها للخلاف الفلسفي والفكري.