في الماديّة الديالكتيكيّة .. 4


فواز فرحان
2010 / 4 / 4 - 21:05     

في المادية الديالكتيكيّة ...

تاريخ الماديّة ..
ضرورة دراسة هذا التاريخ ..
البرجوازية لا تحب تاريخ الماديّة ، لذلك فإن هذا التاريخ المدرسي في الكتب البرجوازية هو تاريخ غير كامل البتّة وخاطئ ، وتستعمل فيه مختلف عمليّات التزوير ..
ــ إنها تذكر في مناهجها المفكرين الماديّين الكبار ، مادامت غير قادرة على تجاهلهم ، وتتحدّث على كل ما كتبوا إلاّ عن دراساتهم الماديّة وشروحاتها ، وتنسى القول أو تتجاهل أنهم مفكرون ماديّون ..
ــ كان هناك العديد من المفكرين عبر التاريخ ماديّون دون أن يعلموا ، أو أنهم كانوا غير متسقين ، أي أنهم كانوا ماديّين في في بعض كتاباتهم ومثاليين في كتابات أخرى ..
والحال أن التاريخ الذي كتبتهُ البرجوازية يترك في الظل ليس فقط كل ما أثر في المادية عند هؤلاء المفكرين ، بل وأيضاً كل ما أدى الى ولادة تيّار بكاملهِ في هذهِ الفلسفة ..
ــ لم تنجح هاتان العمليتان في التزوير لتمويه بعض المؤلفين ، فإنهم يُطمسون بكل بساطة ..
لماذا الأمر كذلك ؟
الجواب ...
لأن تاريخ الماديّة يُعلم بصورة خاصة معرفة مشاكل العالم وفهمها ، وكذلك لأن نمو الماديّة مُضر بالآيدلوجيّات التي تدعم إمتيازات الطبقة الحاكمة ..
هذهِ هي الأسباب التي دعت البرجوازية لتقديم الماديّة على أنها مذهب جامد متحجر ، بينما كانت الماديّة في الحقيقة مذهب حي ودائم الحركة ..
لكن الماديّة شأنها شأن المثالية قد مرّت بعدة مراحل من التطوّر ، فعند كل إكتشاف يفتح عهداً جديداً في ميدان العلوم الطبيعية ، كما على الماديّة أن تغيّر شكلها ...
نفهم الآن بصورة أفضل ضرورة درس تاريخ الماديّة هذا ولو بإيجاز ، وللقيام بهذا العمل علينا أن نُميّز مرحلتان ..
ــ من المنشأ عصور الأغريق القديمة حتى ماركس وإنجلز ..
ــ من ماديّة ماركس وإنجلز حتى يومنا هذا ..
نسمي المرحلة الاولى بمرحلة المادية الماقبل الماركسيّة ، بينما نسمي الثانية بالمادية الماركسية الديالكتيكية ...

الماديّة الماقبل الماركسيّة ...
ــ عصور الإغريق القديمة ..
نذكر أن الماديّة مذهب إرتبط بالعلوم وتطوّر وتقدّم معها ..وعندما إبتدأت العلوم تظهر مع الفيزيائيين في عصور الاغريق القديمة في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد ، تكوّن في ذلك الوقت تيّار جذب إليه أفضل المفكرين والفلاسفة في ذلك العصر ، منهم أرسطو طاليس ، انا كسيمنس ، هيروقليطس ..
هؤلاء الفلاسفة الأولون كما قال انجلز ( ديالكتيكيّون بالطبع ) لقد أدهشهم واقعة أننا نصادف الحركة والتغيير في كل مكان ، وأن الأشياء ليست منعزلة ، لكنها مرتبطة بصورة وثيقة بعضها ببعض ..
قال هيروقليطس الذي نسمّيه (أبا الديالكتيكية ) ..
( لا شئ جامد .. كل شئ يسيل ، ولا نستحم في النهر ذاته أبداً مرتين ، لأنهُ في لحظتين متتاليتين لا يكون أبداً هو نفسه ، لقد تغيّر من لحظة الى أخرى ) ..
كان هيروقليطس أول من حاول تفسير الحركة والتغيير ، ورأى في التناقض أسباب تطوّر الأشياء ...
تصوّرات هؤلاء الفلاسفة كانت صائبة ، مع ذلك أُهملت ، والسبب يعود الى حالة العلوم في تلك الحقبة لم تكن تسمح بإثبات ما قدّموه .. من جهة أخرى لم تكن قد تحققت بعد الظروف الإجتماعية الضرورية لإزدهار الديالكتيك ( سندرس لاحقاً ما هي هذهِ الظروف ) ...
ولم تتحقق الظروف ( الإجتماعية ، والفكرية ) فتتيح للعلوم إثبات صحّة الديالكتيك إلاّ في زمن متأخّر جدا في القرن التاسع عشر ..

أبيقور ( 341 ـ 270) ..
هو من أتباع ديمقريطس ، مفكر كبير زوّرت الكنيسة فلسفتهِ كُليّاً في القرون الوسطى ، فقد قدّمت الكنيسة المذهب الأبيقوري كرهاً بالمادية كمذهب لا أخلاقي جذرياً كتبرير للإنفعالات الأكثر خِسّة .
لقد كان أبيقور في الواقع ناسكاً ، وفلسفتهِ تهدف لإعطاء الإنسانية أساساً علميّاً ( لا ديني ) ..
جميع هؤلاء الفلاسفة كانوا يعون أن الفلسفة كانوا يعوا أن الفلسفة مرتبطة بمصير الإنسانية ..
لكن ...!!
مفكراً كبيراً سيطر على العصور الإغريقية القديمة وكان مثالياً ولهُ تأثير كبير على المعارف البشرية في ذلك العصر وسدّ ثغراتها التي خلفتها العلوم وهذا المفكر هو أرسطو ..
وكان يتحلى بـ ..
ــ وضع كتب عديدة في جميع المواضيع ..
ــ ذو ذهن كلي ..
ــ شموليّة معرفتهِ التي لم يُحفَظ منها سوى الميول المثالية ..
ــ أهمل في فلسفتهِ المظاهر الماديّة والعلمية ..
ــ كان لهُ تأثير كبير على تصورات الفلاسفة في القرون الوسطى ..

في البداية نمت الماديّة بصورة رئيسية في إنكلترا .. يقول ماركس ..
(( الماديّة .. هي الإبنة الحقيقية لبريطانيا العظمى )) ..

بعد ذلك إزدهرت المادية في فرنسا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، وأصبح هناك تيّاران في الماديّة وهما الإنكليزية والفرنسية وأدت وحدتهما الى إزدهار الماديّة العظيم في القرن الثامن عشر ..

الماديّة الإنكليزية ..

الأب الحقيقي للمادية الإنكليزية وكل علم تجريبي حديث هو بيكون ، إن علم الطبيعة عندهُ هو العلم الصحيح ، والفيزياء القائمة على تجربة الحواس هي الجزء الأهّم في عالم الطبيعة ..
عُرِفَ بيكون كمؤسّس للمنهج التجريبي في دراسة العلوم ، كان المهم عنده هو دراسة العلم في كتاب الطبيعة الكبير ، ذلك كان أمراً مثيراً للإهتمام خاصةً في عصر كانت العلوم تدرّس الكتب التي خلفها أرسطو ..

مثال ..

لدراسة الفيزياء في ذلك العصر مثلاً في موضوع مُعيّن تؤخذ المقاطع التي كتبها أرسطو ، ثم تؤخذ كتب القدّيس توما الأكويني الذي كان لاهوتيّاً كبيراً ، ويُقرأ ما كتبهُ بالنسبة لمقطع أرسطو ، ولم يكن يُسمح للاستاذ بأي تعليق شخصي ، كان يقول أقل ممّا يفكر به أيضاً ، هكذا كان العلم في القرون الوسطى ، هذا العلم كان يُدعى السكولائيّة ( علم الكتب ) لأنهم كانوا يُدرّسوا ما في الكتب فقط ..

إنتفض بيكون ضد هذهِ السكولائيّة ، وضد هذا التعليم المُتحجّر ،
داعياً للدراسة في كتاب الطبيعة الكبير ..
وفي ذلك الوقت طرح بيكون الأسئلة التالية ..
ــ عمَّ تتأتى أفكارنا ؟
ــ عمَّ تتأتى معارفنا ؟
إن لكل منّا أفكاره ، فكرة البيت مثلاً .. المادي يقول أن هذه الفكرة تأتينا لأن البيوت موجودة ، أما المثالي فيقول أن الله هو الذي أعطى لنا فكرة البيت ..
بيكون كان يقول ..
( إن الفكرة لا توجد إلاّ لأننا نرى أو نلمس الأشياء ، لكنهُ لم يستطع إثبات ذلك ) ..
ولوك .. ( 1630 ـ 1704 )
هو الذي شرع بتبيان كيف تتأتى الأفكار من التجربة ، فبيّن أن جميع الأفكار تتأتى من التجربة وان التجربة وحدها تعطينا الأفكار ..
مع أفكار لوك إنتقلت الماديّة الإنكليزية الى فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر ، لأنهُ خلال تطور الفلسفة في إنكلترا تكوّن تيّار مادي في فرنسا ..

الماديّة الفرنسية ...

نستطيع أن نُحدّد بوضوح إبتداءاً بديكارت ولادة تيار مادي في فرنسا ، ولقد كان لديكارت تأثير كبير على الفلسفة لكنهُ لا يُحكى عن هذا التأثير بصورة عامة ..
في هذهِ الحقبة كانت الآيدلوجيّة الإقطاعيّة فيها حيّة جداً ، حتى في العلوم ، هذه العلوم كانت تُدرَّس بالإسلوب السكولائي الذي تحدثنا عنه دخل ديكارت في صراع مع هذا الأمر الواقع ...
إن الآيدلوجية الإقطاعية مُصبّغة بالعقلية الدينيّة ، فهي تعتبر الكنيسة مُمثلة الله على الأرض ، تحتكر الحقيقة وينتج عن ذلك ..
ــ انهُ لايستطيع أي إنسان أن يدّعي الحقيقة إذ لم يخضع فكرهِ لتعاليم الكنيسة ، لقد دحض ديكارت هذا التصوّر ..
في مطلع كتابهِ ( القول في المنهج ) يقول ديكارت ..
( العقل السليم هو في العالم الشئ الأفضل توزيعاً ) ..
وبالتالي فإن كل واحد يتمتع بالحقوق نفسها أمام العلم .
ــ كان ديكادرت يعيش في بداية القرن السابع عشر ، وفي القرن التالي كانت الثورة ستندلع ، لهذا نستطيع أن نقول أنهُ خرجَ من عالم يحتضر ليدخل عالم جديد ، هذا الواقع جعل من ديكارت توفيقيّاً ، فهو يريد خلق عالم مادي ، وفي نفس الوقت هو مثالي يريد خلاص الدين ..
وعندما كان يُسأل في عصرهِ لماذا يوجد حيوانات ؟
كان يُجاب وفق الإجابة اللاهوتيّة الجاهزة ..
( لأن هناك مبدأ يجعلها تعيش ) ..
على العكس من ذلك دعم ديكارتالقول أن قوانين الحياة الحيوانية بكل بساطة هي قوانين مادية .. وقد أكد أن الحيوانات ليست شيئاً آخراً سوى آلآت من لحم وعضل ، كما هو حال باقي الآلات من خشب وحديد ..
في نظر ديكارت المادّي كانت الحيوانات إذاً آلآت ، لكن .. الإنسان كان مُختلفاً عنها لأنهُ يملك نفساً كما يقول ديكارت المثالي ..
من هذهِ الأفكار التي طوّرها ودافع عنها ديكارت سيتولد تيّار فلسفي مادي واضح من جهة ، ومن جهة أخرى تيّار مثالي .
وبين هؤلاء الذين يكملون الفرع الديكارتي المادّي نذكر لا ماتري (1709 ـ 1751 ) الذي يستعيد هذهِ الإطروحة عن الحيوان ـ الآلة ويمدّها لتشمل الإنسان ـ الآلة .. لماذا لا يكون الإنسان آلة ؟ النفس البشرية نفسها يراها كآلة ، حيث الأفكار هي حركات ميكانيكية ..
(( في هذهِ الحقبة دخلت الماديّة الإنكليزية الى فرنسا مع لوك ، ومن إلتقاء هذين التيّارين ستتولد ماديّة أكثر تطوّراً )) ..

ماديّة القرن التاسع عشر ..

دافع عن هذهِ الماديّة فلاسفة عرفوا أيضاً أن يكونوا مُقارعين ، وكتّاب مُدهشين ، كانوا ناقدون للمؤسسات الدينية والإجتماعية بصورة متصلة ، كانوا في صراع دائم مع السلطة وسجنوا أحياناً ..
هؤلاء هم الذين جمعوا أعمالهم في موسوعة كبيرة ، ثبتوا فيها الإتجاه الجديد في الماديّة ، وقد كان لهم تأثير كبير في الفلسفة كما يقول إنجلز ( كانت قناعة الشباب المثقف بأسرها ) ..
كانت هذه الحقبة الوحيدة في تاريخ الفلسفة في فرنسا ، حيث أصبحت فلسفة شعبية فرنسية حقاً ..
كان ديدرو المولود في لانجر ( 1713 ـ 1784 ) يُهيمن على كل هذهِ الحركة ، كان أكبر مفكر مادي قبل ماركس وإنجلز .. فقد قال لينين ..
(( إن ديدرو توصل تقريباً الى خلاصات المادية المعاصرة ـ الديالكتيكيّة )) ..
وكذلك ظهر في المانيا لودفيغ فورباخ ليؤكد وسط جميع الفلاسفة المثاليين قناعتهِ الماديّة ، مُعلناً من جديد وبكل صراحة إنتصار الماديّة ..
وبينما كان ديدرو مناضلاً حقاً ، ودخل معارك دائمة ضد الكنيسة ودخل السجون ، نرى أن فورباخ طوّر نقد الدين بصورة رئيسية وأثّر بشكل كبير في فلاسفة عصرهِ ..
ونصل الى هذهِ الحقبة من القرن التاسع عشر حيث نلاحظ التقدم في العلوم ينجم بشكل خاص عن الإكتشافات الثلاث الكبيرة ..
ــ الخلية الحيّة ..
ــ تحوّل الطاقة ..
ــ نظرية التطوّر ( داروين ) ..
هذهِ الإكتشافات هي التي ستُتيح فيما بعد لماركس وإنجلز المُتأثرين بفورباخ أن يُطوّرا الماديّة ليعطيانا الماديّة الديالكتيكيّة ..

الخلاصة ..

رأينا وبشكل مختصر تماماً .. تاريخ الماديّة قبل ماركس وإنجلز ، ولن تكون دراستنا للفلسفة مُجدية دون دراسة وفهم هذا التطوّر التاريخي لها ، ولماذا خضعت الماديّة لهذا الشكل من التطوّر أو ذاك ...
لم تستطع المادية الديالكتيكيّة في بدايتها إكمال تطوّرها على هذهِ الأسس ، فقد أُهمِلَ التعليل الديالكتيكي بسبب عدم كفاية المعارف العلمية ، وكان من الواجب أولاً خلق العلوم وتطويرها ..
( يجب أولاً معرفة ما هو هذا الشئ المعني أو ذاك ، قبل التمكن من دراسة السيرورات ) ..
سنجد إذاً ...
عملية ولادة الماديّة جنباً الى جنب مع ولادة العلم ، لكن .. إذا كنا نعرف من أين تأتي الماديّة ، فإن علينا أن نُحدّد أيضاً من أين تأتي المثالية .. !

ممَ تتأتى المثالية ؟

إستطاعت المثالية أن توجد عبر التاريخ جنباً الى جنب مع الدين ، ولأن الدين سمحَ بهذا الوجود وصادقَ عليه ، فلأنها في الحقيقة ولدت من الدين ونجمت عنه ..

كتبَ لينين في هذا الموضوع عبارة يجب دراستها ..

(( المثالية .. ليست سوى صورة مُهذبة ومُنقاة للدين )) ..

لكن .. القول أن المثالية تتأتى من الدين هو مُجرّد تأخير للمشكلة ، ويجب علينا أن نسأل فوراً ..

ممَ يتأتى الدين ؟

أعطى إنجلز جواباً واضحاً على هذا السؤال ..
(( ولد الدين من تصوّرات الإنسان المحدودة )) ..
وهذا الجهل مزدوج للناس الأولين ، جهل الطبيعة ، والجهل بأنفسهم ..

ملخصات ماركسية ..
ــ مبادئ أولية في الفلسفة ... جورج بوليتزر
ــ المادية والنقد التجريبي .. لينين