الماركسية اللينينية الماوية: تقاتل، تصمد و تنتصر 3- الاشتراكية العلمية


خالد المهدي
2010 / 3 / 24 - 18:18     


ماركس / انجلز

يعتبر ماركس و انجلز مؤسسا الاشتراكية العلمية لكنهما ليسا اول من نادى بالاشتراكية ، فقد سبقهما الى ذلك العديد من المفكرين و النظريين : سان سيمون فورييه ، روبرت أوين . غير ان اشتراكية هؤلاء الرواد كانت طوباوية ، كانوا يتصورون حل القضايا الاجتماعية من خلال و بواسطة العقل ، لقد كانوا المعبرين عن خيبة الآمال على الوعود البراقة التي رفعتها البرجوازية في ثورتها على الإقطاع ، فوجهوا جميعهم نقدا لاذعا لمختلف المآسي التي جلبتها معها البرجوازية ، لكن نقدهم ظل طوباويا مفتقدا للقدرة على الوصول الى الهدف الذي أعلنوه ، الاشتراكية . ان ما جعل من اشتراكيتهم ذات طبيعة طوباوية قد حددته هو الآخر الظروف المادية التي عايشوها حيث كانت الرأسمالية في بداية تطورها و كان معها التناقض بين البرجوازية و البروليتاريا لم يتطور بعد إلا قليلا . لقد وصف انجلز في مؤلفه " ضد دوهرينغ "تلك الفترة بالكلمات التالية :
" كانت النظريات الفجة تقابل شروط الإنتاج الرأسمالي الفجة و الظروف الطبقية الفجة و لقد حاول الطوباويون اخراج حل القضايا الاجتماعية ، هذه القضايا التي كانت مختفية بعد في العلاقات الاقتصادية المتخلفة ، من الدفاع الانساني .لم يكن المجتمع يبدي سوى الاخطاء ، و كان من واجب العقل القضاء على هذه الاخطاء . و لذا كان من الضروري بمكان اكتشاف نظام اجتماعي جديد اكثر كما لا يفرض على المجتمع من الخروج بواسطة الدعاية ، و بواسطة قدوة التجارب النموذجية حيثما كان ذلك في المستطاع . و كانت هذه الانظمة الاجتماعية الجديدة محكوما عليها سلفا بالطوباوية ، و بقدر ما كانت تصمم بمزيد من التفاصيل فقد كانت تنساق اكثر فاكثر مع الاوهام الخالصة "1 .
لقد كان هؤلاء المفكرين يحملون حسا مرهفا و مشاعرا نبيلة اتجاه الطبقات الكادحة ، لقد عرى فورييه بؤس العالم البرجوازي المادي و خلقه و خاصة العلاقة بين الجنسين و مركز المرأة في المجتمع البرجوازي ، " لقد كان سباقا الى المناداة بان درجة تحرر المرأة في أي مجتمع معين هي المقياس الطبيعي للتحرر العام " اما الانجليزي روبرت أوين فقد ناضل بقوة من أجل العمال و كان هو " من فرض سنة 1918 القانون الاول الذي يحدد ساعات العمل من اجل النساء و الاولاد في المصانع " و " كان رئيسا لأول مؤتمر اتحدت فيه نقابات العمل في انجلترا في جمعية عمالية كبيرة " .
و قد كان يرى في الملكية الخاصة و الدين و شكل الزواج هم العقبات الاساسية التي تقف امام تطور المجتمع و ضحى بكل ثروته في محاولته مع العمال لخلق تجربة شيوعية تشكل نموذجا للآخرين .
إن هؤلاء المفكرين الذين يمدحهم انجلز في مؤلفاته * بأروع العبارات لم يستطيعوا فهم حقيقة الواقع المزري الذي ولدته الراسمالية و ظلوا ينادون ، و هم صادقين و مخلصين لأنفسهم ، بأحلام طوباوية .لكن ذلك ليس عيبهم و ما كان من الممكن ان يكونوا إلا كذلك .
" لقد كان الطوباويين ، كما رأينا ، طوباويين لانهم ما كانوا يستطيعون ان يكونوا شيئا آخر في وقت كان فيه الانتاج الراسمالي قليل التطور و لم يكن لهم بد من تشييد عناصر المجتمع الجديد من رؤوسهم الخاصة ، لان عناصر هذا المجتمع لم تكن قد ظهرت بعد على العموم ضمن المجتمع القديم "2.
لكن المجتمع الجديد استمر في التطور و اصبحت علاقات الانتاج الراسمالية اكثر وضوحا و سفورا و اشتد التناقض بينها و بين قوى الانتاج و اشتدت معه التناقضات بين البرجوازية و البروليتاريا و ظهرت البروليتاريا على المسرح السياسي بوصفها حاملة مشروع التخيير،في ذلك الوقت الذي برزت فيه هذه الضرورة التاريخية كانت الصدفة قد أتت بماركس و رفيقه انجلز . و سوف يتمكن هذان المفكران العظيمان ، على الخصوص ، من اخراج الاشتراكية من عقيدتها الطوباوية و اعادة تأسيسها على قاعدة علمية .
و اذا استثنينا عنصر العبقرية ، فان ما كتبه ماركس و انجلز لم يكن في الحقيقة سوى تعبيرا عن الشروط المادية و الموضوعية التي كانت سائدة آنذاك . ان التطور التاريخي للنظام الراسمالي نفسه هو الذي طور البروليتاريا بوصفها طبقة و خلق تعبيرها النظري : الماركسية .
انجلز في تحديده للاشتراكية يقول " ليست الاشتراكية الحديثة سوى انعكاس هذا النزاع الواقعي ( يقصد انجلز النزاع بين علاقات الانتاج و القوى المنتجة ) في فكر الانسان . انعكاسه في شكل الافكار ، قبل كل شيء في اذهان الطبقة التي تعاني منه بصورة مباشرة اعني الطبقة العاملة " 3 .
فما هي اذن الاسس العلمية التي شيدت بها الماركسية الاشتراكية العلمية ؟ هل الاشتراكية ضرورة تاريخية و حتمية ؟ لماذا ؟ كيف برهنت الماركسية على ذلك ؟


انطلاقا من المادية الجدلية و من المفهوم المادي للتاريخ استطاع ماركس من تحليل المجتمع الراسمالي و الكشف عن القوانين التي تتحكم فيه و ابراز تناقضاته الداخلية . مقدما الدليل على حتمية الاشتراكية .
لقد قدم ماركس في مؤلفه راس المال صيرورة تطور النظام الرأسمالي و كيفية تعاقب انماط الانتاج عبر التاريخ كاشفا لاول مرة في التاريخ ان " ... الاشكال الاقتصادية التي ينتج الناس و يستهلكون و يتبادلون في ظلها اشكالا عابرة و تاريخية . و مع اسلوب الانتاج يغيرون جميع العلاقات الاقتصادية التي لم تكن علاقات ضرورية الا لاسلوب الانتاج المعين هذا "4.
و هكذا يكون أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو الآخر أسلوبا عابرا و تاريخيا ولد من احشاء المجتمع القديم ( الاقطاعي ) بعدما وصلت قوى الانتاج الى مرحلة من النمو استحال معها التطور في ظل نفس علاقات الانتاج السابقة .ان ماركس قد اوضح هنا عمومية التناقض داخل المجتمعات الطبقية : التناقض بين علاقات الانتاج و القوى المنتجة ، لكنه لم يقف عند هذا الحد بل كشف ايضا خاصية التناقض في المجتمع الراسمالي ، انه التناقض بين الطابع الاجتماعي لاسلوب الانتاج الراسمالي و الملكية الفردية لوسائل الانتاج . ان النمو المتزايد للانتاج الراسمالي و تمركز الراسمال في يد قلة من الراسماليين يولدان حسب ماركس الفقر و الجهل و البؤس لدى كافة الجماهير و خصوصا العمال ، لكنه في الوقت نفسه يولد الشروط المادية للقضاء على الراسمالية ، نفسها ... و يصبح احتكار الراسمال عقبة و عائقا بالنسبة الى نمط الانتاج الذي نما و ازدهر معه و تحت رعايته .ان منح الطابع الاجتماعي للعمل و مركز محركاته المادية يبلغان نقطة لا يستطيعان فيها الثبات و البقاء في غلافهما الراسمالي . و هذا الغلاف يتحطم شظايا ، لقد دقت ساعة الملكية الراسمالية ، و نازعوا الملكية تنتزع ملكيتهم هم بدورهم ."5

ديكتاتورية البروليتاريا

ان حتمية انهيارا النظام الرأسمالي ليست مطروحة هنا من " فكرة عبقرية "طوباوية او من نموذج " امثل "بل ان حتمية انهيار النظام الرأسمالي مستمدة من الأسس المادية و الموضوعية لهذا النظام نفسه من قوانينه الموضوعية .ان جعل العمل اجتماعيا ، ان هذه العملية التي تتقدم بسرعة متزايدة ابدا و بألون الاشكال ... في توسع الصناعة الكبيرة و الكارتيلات و السانديكات و الزوستات الراسمالية و في التطور الأسطوري لنسب الراسمال المالي و قوته ، ذلك هو الاساس المادي الرئيسي لمجيء الاشتراكية " 6.
لكن بالنسبة لماركس و انجلز مجيء الاشتراكية لا يأتي بشكل عفوي ، و سلمي و لا يمر عبر طريق مستقيم بل انه يأتي بالعنف كما جاءت كل المجتمعات الطبقية من قبله ، يأتي عبر صيرورة طويلة من نضال العناصر الثورية التي تحمل الجديد و تعبر عن المستقبل أي البروليتاريا ، و خصوصا بالنسبة لماركس و انجلز البروليتاريا الصناعية .
و هكذا برز جل التناقض واضحا : جعل ملكية وسائل الانتاج ملكية اجتماعية و خلق نوع من التناغم و التوافق بينها و بين الطابع الاجتماعي للعمل . و من اجل ذلك لابد للطبقة الثورية البروليتاريا من الاستيلاء على السلطة السياسية اولا و فرض هذا الحل بقوة العنف عن طريق جهاز الدولة كخطوة اولى .
بالنسبة لانجلز " ان ملكية الدولة للقوى الانتاجية لا تشكل حلا للنزاع ، لكن الشروط التقنية التي تشكل عناصر هذا الحل تكون كامنة فيها.و لا يمكن ان يقوم هذا الحل الا في الاعتراف العملي بالطبيعة الاجتماعية للقوى الانتاجية الحديثة و بالتالي في تنسيق اساليب الانتاج و الاستهلاك و المبادلة مع الصفة الاجتماعية لوسائل الانتاج "7 .
لكن بالنسبة لماركس و انجلز الاستيلاء على السلطة السياسية لا يعني الاستيلاء على الدولة القديمة بل يعني تحطيمها و اقامة دولة جديدة . و هنا الماركسية تعارض كل النظريات الفوضوية التي تنادي بضرورة الاستغناء عن الدولة . و تعارض في ذات الوقت كافة النظريات البرجوازية التي اخترقت الحركة العمالية ( مثل اللاسالية ) الداعية الى مجرد الاستيلاء على الدولة القديمة .
ان تقييم ماركس للحرب الاهلية في فرنسا و لنضال الطبقات في هذا البلد مهد الاشتراكية قاده الى الإعلان " ان المحاولات التالية التي ستقوم بها الثورة الفرنسية ينبغي ان تتلخص فيما يلي : لا ينبغي نقل الآلة البيروقراطية العسكرية من يد الى يد ، كما يحدث حتى الآن ، بل تحطيمها ، و هذا على وجه التدقيق الشرط المسبق لكل ثورة شعبية فعلية في القارة . و في هذا بالذات تقوم محاولة رفاقنا الباريسيين البواسل " 8.
و من هذا المنظور بالذات حدد ماركس و انجلز دور الشيوعيين (ات) باعتبارهم المعبرين الفكريين و السياسيين عن الطبقة العاملة حيث " يمثل الشيوعيين دائما و في كل مكان المصالح العامة للحركة بكاملها ... ان الشيوعيين يناضلون في سبيل بلوغ الاهداف الفورية و في سبيل تحقيق المصالح المؤقتة للطبقة العاملة ، لكنهم يمثلون ايضا ، في الوقت الراهن مستقبل هذه الحركة و يعنون به " 9 .

و هكذا يرى الشيوعيون مهمة "... الاستيلاء على السلطة السياسية من قبل البروليتاريا من حيث هو وسيلة لإعادة تنظيم المجتمع "10
بالنسبة لماركس و انجلز الاستيلاء على السلطة من قبل البروليتاريا يعني ضرورة اقامة ديكتاتورية البروليتاريا ، و تحطيم الراسمال و بالتالي العمل المأجور .و مع ماركس و انجلز سوف يصبح مفهوم الدولة مفهوما علميا حيث سوف يتمكنان من إبراز جهاز الدولة باعتباره أداة ضرورية لكل طبقة سائدة من اجل ممارسة ديكتاتوريتها ضد الطبقات المسودة . ان ماركس لم يكتشف الطبقات و لا حتى الصراع الطبقي فماركس اعلن في رسالته الى يوسف فيديمار سنة 1852 "... فيما يخصني ، ليس لي فضل اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع المعاصر و لا فضل اكتشاف النضال فيما بينها ، فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون برجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي . و ان الجديد الذي اعطيته يتلخص في اقامة البرهان على ما يلي : 1 – ان وجود الطبقات لا يقترن الا بمراحل تاريخية معينة من تطور الانتاج . 2- ان النضال الطبقي يفضي بالضرورة الى ديكتاتورية البروليتاريا . 3- ان هذه الديكتاتورية نفسها لا تعني غير الانتقال الى القضاء على كل الطبقات و الى المجتمع الخالي من الطبقات ..."11 .
و هكذا فالدولة بالنسبة لماركس و انجلز لا تعني شيئا آخر إبان المجتمع الاشتراكي سوى ديكتاتورية البروليتاريا . و ان هذه المرحلة هي مرحلة ضرورية للوصول الى المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات . ان الهدف الذي وضعه ماركس و انجلز انما هو الشيوعية حيث تنعدم الحاجة الى كافة المؤسسات السياسية لكن الوصول الى هذه المرحلة يستوجب بحكم الضرورة التاريخية المرور بمرحلة اولى مرحلة الاشتراكية أي ديكتاتورية البروليتاريا و هكذا في نقده لبرنامج غوته يحدد ماركس المرحلة الاشتراكية باعتبارها المرحلة الاولى من المجتمع الشيوعي " ...بين المجتمع الراسمالي و المجتمع الشيوعي تقع مرحلة تحول المجتمع الراسمالي تحولا ثوريا الى المجتمع الشيوعي و تناسبها مرحلة انتقالية سياسية ، لا يمكن ان تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا "12 .
لقد لعبت كمونة باريس دورا جوهريا في بلورة مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا لدى ماركس . فبتتبعه لشروط النضال بين الطبقات بفرنسا و الثورة الفرنسية بعدما هبت البروليتاريا الباريسية في وجه البرجوازية بقوة السلاح و بالعنف .
ان الماركسية بوصفها علم لا تفعل اكثر من تفسير الواقع تفسيرا علميا و تحديد سبل تغييره و العمل من اجل هذا التغيير . ان الماركسية بكل قوتها آنذاك ما كان لها ان تتجاوز الشروط المادية التي انبثقت منها . بهذا المعنى لم يكن ماركس و انجلز قادران على تحديد المجتمع الاشتراكي و دولة ديكتاتورية البروليتاريا الا في خطوطه العريضة ، فالشيوعية او طورها الاول أي الاشتراكية تنشأ من الراسمالية و هي اضافة لكل ذلك نتيجة ثورة قوة اجتماعية خلقتها الراسمالية نفسها و هكذا لم يقم ماركس و لا انجلز باية محاولة لمعرفة ما لا يمكن معرفته . في نقده لبرنامج غوتا يطرح ماركس السؤال التالي " ...اي تحول يطرأ على الدولة في المجتمع الشيوعي ؟ و بتعبير آخر اية وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي ؟ العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال ، و لن ندفع القضية امام قيد شعرة ..." 13.
نفس المضمون سوف يؤكده انجلز في جوابه على رسالة اوتوبونيغك حيث قال : " ان ما يسمى " المجتمع الاشتراكي " ليس ، حسبما اعتقد ، شيئا ما أعطي مرة واحدة و الى الابد ، بل ينبغي اعتباره ، مثله مثل كل نظام اجتماعي آخر قابلا لتغيرات و تحولات دائمة "14.
و هكذا يتضح ان لا ماركس و لا انجلز لم يكن لهما ادنى وهم بمعرفة صيرورة تطور المجتمع الاشتراكي قبل ان ينشأ هذا المجتمع بالذات و هكذا فقد تركا الباب مفتوحا ( و ما كانا ليفعلا غير ذلك ) للماركسيين فيما بعد من اجل الاجابة على هذه الاشكالات و هو ما سوف يتحقق بالفعل مع لينين و ماوتسي تونغ .
لكن و رغم ذلك فان ماركس و انجلز بامتلاكهما للمادية الجدلية و للمادية التاريخية قد برهنا على ضرورة و حتمية قيام الشيوعية و طورها الاول الاشتراكية و اعطيا الخطوط العريضة الممكنة لكيفية التطور التاريخي لهذه المرحلة من تطور المجتمعات الانسانية .
لقد برهن ماركس على ضرورة اضمحلال الطبقات و اضمحلال الدول و كل الاشكال السياسية المرافقة لنضال الطبقات .ان اولى الخطوات في هذا الاتجاه هو قيام ديكتاتورية البروليتاريا و مصادرة أملاك الراسماليين و بالتالي فتح المجال لتطور القوى المنتجة ، ماركس و انجلز كانا يعرفان اية صعوبات جمة سوف تعترض هذا المسار و الاساس المادي لهذه الصعوبات هو كما اسلفنا الذكر انبثاق هذا المجتمع من رحم المجتمع القديم و بالتالي سوف يبقى متأثرا به في العديد من النواقص التي يرثها عن المجتمع الراسمالي ، ان تلك النواقص هي "...نواقص محتومة لا مناص منها في الطور الاول من المجتمع الشيوعي كما يخرج من المجتمع الراسمالي بعد مخاض طويل و عسير " 15.

ان الوصول الى الشيوعية يمر في نظر ماركس و انجلز بحل العديد من التناقضات التي يرثها المجتمع الشيوعي عن المجتمع الراسمالي : التناقض بين العمل الذهني و العمل اليدوي ، التناقض بين المدينة و القرية و التناقض بين المرأة و الرجل ...الخ . و هكذا تصبح مهمة البروليتاريا ،بوصفها طبقة مسيطرة ، حل التناقضات عن طريق اعادة تنظيم تقييم العمل الاجتماعي على قاعدة " تجميع متناسق للقوى المنتجة وفقا لخطة عامة تسمح بتوزيع الصناعة في جميع البلاد وفقا لاحسن الظروف ملائمة لتطورها و الحفاظ عليها ، و كذلك لتطوير العناصر الاخرى للانتاج " 16.
و بهذا فالقضاء على التضاد بين المدينة و القرية ليس ممكنا فحسب بل لقد اصبح حتمية مباشرة للانتاج الصناعي نفسه و الانتاج الزراعي على حد سواء و هو علاوة على ذلك ضروري لصالح الصحة العامة . فعن طريق دمج المدينة بالقرية فقط يمكن القضاء على النهج الحالي للهواء و الماء و التربة و بهذا الشرط وحده يمكن لجماهير سكان المدن الذين يصبهم السقم حاليا ان يتوصلوا الى وضع تستخدم فيه فضلاتهم كسماد لاستنبات الزرع بدلا من توليد الامراض " 17 . ان انجلز هنا يوضح ايضا الحل لاجل انقاذ البيئة انها الاشتراكية .
نفس الشيء يمكن قوله عن العائلة و العلاقة بين الجنسين "... التي ستصبح قضية شخصية لا تتعلق الا بالاشخاص المعنيين و لا داعي للمجتمع للتدخل فيها و هذا امر ممكن بفضل الغاء الملكية الخاصة و بفضل تربية الاطفال الاجتماعية ، الامر الذي يؤدي الى القضاء على اسس الزواج المعاصر المرتبطين بالملكية الخاصة : تبعية الزوجة للزوج و الاولاد للوالدين "18.
لقد رأينا الى حد الآن كيف نظر ماركس و انجلز الى الاشتراكية ، حتميتها و سبل الوصول اليها أي اقامة ديكتاتورية البروليتاريا عن طريق الثورة المسلحة و الاستيلاء على السلطة السياسية .لكن السؤال الذي يطرح هنا هو كيف كانت تنظر الماركسية حينها لأدوات انجاز هذه الثورة ؟ كيف يمكن ان تستولي الطبقة العاملة على السلطة السياسية ؟ و ما هي علاقتها بالطبقات الاخرى و خصوصا الفلاحين ؟ .

الحزب

في صراع ضار و عسير ضد الفوضوية البرودونية حددت الماركسية مهام البروليتاريا للوصول الى الاشتراكية في الاشتراك الفعال في الحركة السياسية من اجل الهدف النهائي : حسم السلطة السياسية و في هذا السياق يشكل بناء حزب الطبقة العاملة المهمة الاولى و الاداة الضرورية لضمان نجاح ثورة البروليتاريا و هكذا نجد ماركس و انجلز يرسمان هذا الهدف على الشكل التالي :
" في صراعها ضد السلطة الموحدة للطبقات السائدة ، لن تستطيع البروليتاريا التصرف كطبقة الا إذا اسست لها حزبا مختلفا و معارضا لكل الاحزاب السياسية القديمة التي خلقتها البرجوازية " بالنسبة لماركس " تشكل البروليتاريا في حزب سياسي هو امر حتمي لضمان اندلاع الثورة الاجتماعية و هدفها النهائي : القضاء على الطبقات ".
و هكذا حدد ماركس و انجلز الاداة الاولى للقيام بالثورة : الحزب .حزب سياسي مختلف و معارض لكل الاحزاب التي أنشأتها البرجوازية .فبالنسبة للماركسية تحرر العمال هو من صنع العمال انفسهم و يشكل تحررهم الاقتصادي الهدف الاسمى الذي يجب ان تخضع له كل حركة سياسية بما هي وسيلة ".
و من اجل تاسيس الحزب المستقل للبروليتاريا خاض ماركس و انجلز نضالا لا هوادة فيه ضد اللاساليين بألمانيا و ضد البرودونيين بفرنسا و ضد كل التأثيرات البرجوازية داخل الاممية .من اجل حسم السلطة السياسية علمنا ماركس و انجلز ضرورة تهيئ البروليتاريا و تحضيرها و تنظيمها و تربيتها وسط الصراع و عن طريق التحريض الدائم ضد البرجوازية و الاقطاعية .
ف " حيث لم تحرز الطبقة العاملة بعد ما يكفي من النجاح في تنظيمها لأجل القيام بزحف حاسم على السلطة الجماعية ، أي على السلطة السياسية للطبقات السائدة ، ينبغي في كل حال اعدادها لهذا الغرض عن طريق التحريض الدائب ضد السلطة و اتخاذ موقف عدائي حيال سياسية الطبقات السائدة ، و الا بقيت الطبقة العالمة ألعوبة في أيدي الطبقات السائدة " 19.
بعد فشل الثورة الالمانية سنة 1848 انكب ماركس و خصوصا انجلز على دراسة تلك التجربة من جميع النواحي من اجل استخلاص الدروس اللازمة للنجاح في المستقبل ، و قد صيغت هنا العديد من الموضوعات النظرية و السياسية للماركسية سواء فيما يتعلق بجانبها الفكري النظري او بجانبها السياسي العملي . ان احدى تلك الخلاصات كانت ضرورة الطبقة العاملة لحزب مستقل . لقد كانت احدى الاسباب التي ادت الى فشل الحزب البروليتاري في المانيا هي تأثير البرجوازية الديمقراطية في سياسته و نشاطه العملي و " لم ينجح الحزب البروليتاري ، الحزب الثوري حقا ، الا تدريجيا في ابعاد جمهور العمال عن تأثير الديمقراطيين الذين لم يكن جمهور العمال في بداية الثورة الا ذيلا لهم . و لكن في وقت لاحق ساهم تردد و ضعف و جبن القادة الديمقراطيين في انجاز البقية " .

و في سنة 1850 بعثت اللجنة المركزية لعصبة الشيوعيين الى اعضائها في المانيا رسالة كشفت دروس و خلاصات هزيمة الثورة بالمانيا و حددت في الوقت ذاته مهام الشيوعيين الالمان ، حيث صاغت موقف الحزب الثوري من الديمقراطية البرجوازية الصغيرة على الشكل التالي : " ان موقف الحزب العمالي الثوري من الديمقراطية البرجوازية الصغيرة هو التالي : يناضل معها ضد الفئة التي تريد اسقاطها و يحاربها في كل النقاط التي تريد استعمالها لتوطيد مواقعها الخاصة " 20.
و قد حذرت العصبة الشيوعيين من دعوات البرجوازية الصغيرة للبروليتاريا لتشكيل حزب موحد بينهما و وصفت نداءات البرجوازيين الصغار الديمقراطيين بانها " محاولات "لإيقاع العمال في فخ تنظيم حزبي يسود فيه الانشاء الاشتراكي الديمقراطي العام الذي يخفي خلفه مصالحهم الخاصة "21.
ان هذا الاتحاد الذي يدعو اليه البرجوازيين الصغار الديمقراطيين " لا يمكن ان يخدم مصلحة البروليتاريا في شيء ، ان هذا الاتحاد يفقد البروليتاريا استقلالها كطبقة ... و يجعلها ذيلا للديمقراطية البرجوازية الرسمية " و هكذا رسم الهدف بدقة " على العمال ( و قبل كل شيء العصبة ) ، بدل ان يحضروا انفسهم و يصفقوا للديمقراطيين البرجوازيين ، عليهم ان يسعوا خارج الديمقراطية البرجوازية الرسمية الى تشكيل تنظيم مستقل ، سري و علني ، الحزب العمالي ..."22.
ان الحزب المستقل للطبقة العاملة هو امر ضروري لا يمكن تجاوزه من اجل انجاز مهام الثورة سواء الديمقراطية كما كانت ثورة 1848 في المانيا ام البروليتارية .ان انجاز التغيير الاجتماعي أي الثورة هو عمل تقوم به الجماهير كلها تحت قيادة الحزب عن طريق الانتفاضة المسلحة . لذلك على العمال " ان يكونوا مسلحين و منظمين " و تؤكد العصبة في نفس الرسالة على انه " يجب القيام فورا بكل ما هو ضروري لكي تكون البروليتاريا مسلحة بالبنادق و المدافع و الذخيرة... عليهم ( أي العمال ) أي يسعوا الى تنظيم انفسهم في حرس بروليتاري بقيادة من اختيارهم و قيادة اركان منتخبة من قبلهم لا تحت امرة السلطات العامة ... لا ينبغي ، و لأي سبب كان ، تسليم الاسلحة و الذخائر و يجب الحيلولة ، بالقوة عند الحاجة ، دون جميع محاولات نزع سلاح العمال . القضاء على تأثير البرجوازيين الديمقراطيين على العمال ، التحقيق الفوري للتنظيم المستقل و المسلح للعمال ... تلك هي المهام التي ينبغي على البروليتاريا و بالتالي على العصبة ، ان لا تغيب عن ذهنها لحظة واحدة سواء اثناء او بعد الانتفاضة الوشيكة " 23.
ان هذه التوصيات الواضحة حول مهام حزب البروليتاريا المستقل تفضح اليوم كل أكاذيب و خداع اولئك الداعين الى بناء " حزب الطبقة العاملة و عموم الكادحين " حيث تتستر خلف مصالح البرجوازية الصغيرة و كذا اولئك الذين ينتظرون الثورة على شكل انتفاضة بالحجر والعصي . لقد حددت الماركسية من خلال تقييمها للثورة الفرنسية و الالمانية مهمة الاستيلاء على السلطة السياسية عن طريق الانتفاضة المسلحة ، حيث كان ماركس و انجلز ينظرون الى هذه الانتفاضة كعمل هجومي غير متوقف تخوضه فيالق العمال المسلحين الى جانب الجماهير المسلحة ضد اجهزة دولة الطبقات المسيطرة الى درجة ان انجلز قال " ان الروح الدفاعية هي موت كل هبة مسلحة فانك مهزوم حتى قبل ان تنازل اعدائك "24.
لكن تطور الصراع الطبقي من جهة وتطور الأسلحة و تسلح البرجوازية قد دفع بانجلز سنة 1895 الى القول ان شروط الصراع قد تبدلت .. بصورة جوهرية ، إذ ان العصيان على الاسلوب القديم ، قتال الشوارع مع استخدام المتاريس الذي كان يقرر نتائج النضال في كل مكان حتى 1848 ، قد بطل حتى درجة بعيدة " ."فلنطرح عنا الأوهام في هذا المجال ، ان النصر الحقيقي للعصيان على القوة العسكرية في قتال الشوارع ...قد اصبح من انذر الاستثناءات "25.
لكن ما هو الشكل الجديد الذي يجب ان تأخذه الانتفاضة المسلحة ؟ ان انجلز لم يقدم جوابا على هذا السؤال و هو ما حاول الانتهازيون فيما بعد استخدامه لإسقاط مهمة النضال المسلح للوصول الى الاشتراكية و حولوا مهمة الشيوعيين و حزب البروليتاريا الى مجرد حزب يناضل تحت الشرعية البرجوازية من اجل الظفر بالسلطة السياسية عن طريق الانتخابات مستغلين في ذلك كلام انجلز نفسه حول الاقتراع العام ، الى درجة ان مقدمة انجلز نفسها تعرضت للبتر و الحذف من طرف قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني بالشكل الذي يظهر فيه انجلز بانه مدافع عن السلام باي ثمن كان .
و على كل حال ، فان تغير شروط النضال قد جعل من قتال الشوارع في متحف التاريخ و فتح الباب مجددا لإيجاد وسائل جديدة للنضال من اجل حسم السلطة السياسية ، و هو ما سوف تجده الثورة الروسية سنة 1905 .

الأممية

اذا كان الحزب البروليتاري المستقل هو الضمانة الاولى لنجاح البروليتاريا في الاستيلاء على السلطة السياسية فان الماركسية رأت ايضا في النقابات العمالية أداة لا غنى عنها اطلاقا من اجل العمال و من اجل الثورة . و قد شكلت النقابات بالنسبة لماركس و انجلز اداة ثانية بعد الحزب من اجل الثورة ، ففي رسالته الى بولته سنة 1821كتب ماركس "... و بديهي ان للحركة السياسية للطبقة العالمة هدفها النهائي ، و هو الظفر بالسلطة السياسية في صالحها ، و لهذا الغرض لابد من تنظيم تحضيري للطبقة العاملة يبلغ درجة من التطور و ينبثق و يتنامى من النضال الاقتصادي نفسه "26.
و اذا كان كل من الحزب و النقابات قد شكلت بالنسبة لماركس و انجلز الأداتان الاساسيتان لانجاز الثورة البروليتارية فان الاممية قد شكلت مركز اهتمام كبير لديهما باعتبارها اداة لا غنى عنها من اجل الثورة العالمية و من اجل توجيه الاحزاب البروليتارية على المستوى الوطني ، توجيه تلك الاحزاب من الناحية الفكرية و السياسية و التنظيمية والعملية كذلك لما فيه مصلحة للثورة العالمية .
ان فكرة توحد نضال العمال الاممي ليست رغبة ذاتية أسقطها ماركس و انجلز وغيرهم على الحركة العمالية بل انها الاجابة السياسية على واقع موضوعي خلقه تطور الانتاج الراسمالي نفسه." فاذا حدث ان كان اتحاد العمال اكثر تلاحما فذلك ليس نتيجة لوحدتهم هم انفسهم و انما هو نتيجة لوحدة البرجوازية التي عليها ، لكي تحقق اهدافها الخاصة بها ، ان تحرك البروليتاريا باسرها " 27.
ان تطور نمط الانتاج الراسمالي باوروبا و بداية تغلغله في دول الشرق ، نتيجة لفعل قوانينه الخاصة : الحاجة الى المواد الاولية ، الحاجة الى الاستيراد و التصدير ، ضرورة تطوير ادوات التبادل : السكك الحديدية ، الاساطيل البحرية ، الطرق ..الخ قد وحد من جهة مصالح البرجوازية على الصعيد العالمي و خلق الشروط الموضوعية لوحدة العمال العالمية " فنتيجة لتطور البرجوازية ، لحرية التجارة ، للسوق العالمية ، للتماثل الذي اوجده الانتاج الصناعي و لشروط الحياة الملائمة لذلك ، اخذت الحواجز القومية و التناقضات بين الشعوب تزول اكثر فاكثر . وستصبح اكثر زوالا بظهور سلطة البروليتاريا . و يشكل نشاط البروليتاريا المشترك على الاقل في البلدان المتمدنة ، شرطا اوليا من شروط تحررها " 28. ان " العمال لا وطن لهم " .
ان الشيوعيين في مختلف نضالات البروليتاريين القوميين يضعون في المقدمة و يغلبون المصالح المستقلة عن القومية و المشتركة لكل البروليتاريا " * ( البيان) . لقد كشف ماركس و انجلز رؤيتهما هذه في ذلك الشعار الذي هز أركان البرجوازية كلها و أينما كانت و اقصد هنا شعار " يا عمال العالم اتحدوا ".
لكن خلق وحدة العمال على المستوى الوطني و خصوصا على النطاق العالمي لا يمكن ان تكون بشكل عفوي ، فما دامت هناك البرجوازية و مادامت هناك البرجوازية الصغيرة فان تأثيرهم على العمال هي مسالة نافلة لذلك تشكل مهمة تأسيس الأممية في حد ذاتها نضالا ضد كل التأثيرات البرجوازية في صفوف العمال و نضالا ضد التشيع بشكل خاص .
إن الأممية الأولى قد تأسست بالضبط "...بغية الاستعاضة عن الشيع الاشتراكية و نصف الاشتراكية بمنظمة حقيقية للطبقة العاملة من اجل النضال " 29 و " تاريخ الاممية كان أيضا عبارة عن نضال مستمر خاضه المجلس العام ضد التشيع و ضد محاولات الهواية المبتذلة التي سعت الى التوطد داخل الأممية خلافا للحركة الحقيقية للطبقة العاملة "30 .

مسالة الفلاحين

شكلت مسالة الفلاحين إحدى المسائل التي جابهت الماركسيين منذ ظهور الماركسية نفسها .الا اننا يمكن ان نلاحظ رؤية الماركسية لهذه المسالة قد تغيرت بشكل جذري ما بين 1848 و 1894 .
ففي تقييم كل من ماركس و انجلز للثورة الفرنسية والثورة الالمانية تناول الاثنان الموقع الطبقي للفلاحين و مواقفهم السياسية .ماركس الذي تناول بالدراسة هزيمة الثورة الفرنسية و الانقلاب الذي قام به لويس بونابرت خلص الى ان الفلاحين الصغار لا يستطيعون الدفاع عن مصالحهم الخاصة باسمهم الخاص " فأسلوبهم في الانتاج يعزلهم الواحد عن الآخر بدلا من ان يدفعهم الى التعامل المتبادل ،... ان ميدان انتاجهم – و هو قطعة الارض الصغيرة – لا يسمح بتقسيم العمل في فلاحتها و لا بتطبيق العلم و لا يسمح بالتالي بتنوع اشكال التطور و لا بتنوع المواهب و لا بغنى العلاقات الاجتماعية "31.
ان هذا الواقع المتسم بالعزلة التي تفرضها حياة الارياف هو الذي جعلهم " يعجزون عن الدفاع عن مصلحتهم الطبقية باسمهم الخاص سواء اكان ذلك بواسطة برلمان او بواسطة كونفاسيون . انهم لا يستطيعون تمثيل انفسهم ولابد ان يمثلهم غيرهم ".32.

انجلز ايضا في تقييمه للثورة الالمانية و الهزيمة التي منيت بها سنة 1848 اشار الى نفس الخلاصة : " ان السكان الزراعيين هم نتيجة انتشارهم على رقعة واسعة و صعوبة جمع أي جزء مهم منهم للتفاهم ، لا يمكن ان يقوموا ياية حركة مستقلة و ناجحة . انهم يحتاجون الى دفعة بادئة من سكان المدن ظن الاكثر تمركزا و وعيا ، و الذين يمكن تحريهم بسهولة ".33
ان هذه الخلاصات التي اشار اليها كل من ماركس و انجلز بخصوص مسالة الفلاحين لم تكن تنظيرا في السماء بل كانت قراءة للواقع الملموس ، هذا الواقع الذي سوف تحدث فيه تغيرات جذرية احدتث بدورها تغيرات لا تقل جذرية في موقف الماركسية من الفلاحين.
تطور الصناعة الكبرى و وسائل التبادل قد احدث تغيرات قوية في حياة الريف و ايضا هدير الثورة الفرنسية الباريسية هو الآخر أيقظ الى حد كبير يقظة الفلاحين .
و بعد 40 سنة على ثورة 1848 اصبح الاهتمام بمسالة الفلاحين يزداد بشكل كبير من طرف الاحزاب العمالية الى درجة ان انجلز سنة 1894 افتتح نقده للبرنامج الزراعي للاشتراكين الفرنسيين في مؤتمر كانت بالكلمات التالية :
" تعجب الاحزاب البرجوازية والرجعية خارق العجب لان مسألة الفلاحين اخذت في الوقت الراهن ترد ، فجأة و في كل مكان ، في جدول الاعمال عند الاشتراكيين . و لا بد لها ، والحق يقال ، ان تعجب لان هذا لم يحدث منذ زمان " 34.
ان تطور الانتاج الراسمالي شكل عاملا اساسيا لمجمل التغيرات التي حدثت في الريف حيث اصبح الانتاج الصغير اكثر تدهورا ، و بفعل المزاحمة التي خلفها استيراد الحبوب و المواد الزراعية بكل من امريكا الشمالية و الهند و باثمان غير تنافسية على الاطلاق باوروبا جعل " شبح الهلاك يزحف على مالك الارض الكبير و على الفلاح الصغير ، يزحف عليها بالقدر نفسه ، و بما ان كلاهما مالك ارض و ساكن ريف ، فان مالك الارض الكبير يعلن نفسه مناضلا طليعيا في سبيل مصالح الفلاح الصغير .و الفلاح الصغير يعترف به . عموما و اجمالا ، مناضلا في سبيل مصالحه "35.
ان هذا الواقع هو الذي دفع بانجلز ان يطرح السؤال حول مهمة الحزب المعبر عن مصالح الطبقة العاملة اتجاه الفلاح على النحو التالي : "... هل يسع هذا الحزب ان يترك بهدوء الفلاح الذي يتهدده الهلاك ، في ايدي حماته الكاذبين ، هل يسعه ان يترك الفلاح في ايديهم حتى يحولوه من خصم خامل للعمال الصناعيين الى خصم نشيط ؟ و هكذا نجد انفسنا في مركز المسالة الفلاحية " 36 . في الاجابة على هذا السؤال يحدد انجلز المهمة بشكل واضح ّ "... يجب على الحزب ، لكي يظفر بالسلطة السياسية ، ان يذهب بادئ بدء من المدينة الى الريف ، يجب عليه ان يغدو قوة في الريف " 37.
و يطرح انجلز بعد ذلك المسالة من الزاوية العملية : " فاي من اقسام سكان الريف ... يمكن اجتذابها الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي ؟ " 38.
ان طرح هذا السؤال على هذه الشاكلة من طرف انجلز يحطم كل حماقات بعض " الماركسيين " عندنا حول مسالة حزب الطبقة العاملة المستقل .حزب العمال . ان هؤلاء الماركسيين ينظرون الى مسالة الاستقلال الفكري و السياسي و التنظيمي للطبقة العاملة نظرة كاريكاتورية فهم يرون ان حزب العمال لا يجب ان يضم الا العمال و لا يجب ان يدخله الفلاحون او غيرهم ، ان هؤلاء السادة الذين يقولون هذه الحماقات هم اصلا ليسوا عمال بل مثقفون .انهم لا يفهمون ان استقلال حزب الطبقة العاملة يعني امتلاك الطبقة العاملة لحزب سياسي بخط سياسي و فكري يخدم المصالح الآنية و الاستراتيجية للطبقة العاملة . اما ان ينتسب اليه عامل او فلاح او مثقف طالب ،معطل او استاذ فتلك قضية اخرى يعالجها القانون الداخلي للحزب و ليس النظرية المجردة ،و على كل حال هذا ليس في بحثنا سوى قوس اردنا ان ننبه به اولئك " الماركسيين ".
ان انجلز بعد ان طرح هذا السؤال قام بتحديد و تصنيف الفلاحين : صغار متوسطين و كبار . و في نفس الوقت اكد على انه " ما ان نستوضح موقفنا من الفلاح الصغير حتى نملك جميع نقاط الارتكاز لاجل تحديد موقفنا من سائر اقسام سكان الريف "39.
و بعد ان يعرض انجلز لوحة دقيقة حول موقع الفلاح الصغير و مصالحه و باقي اقسام سكان الريف يخلص الى النتيجة التالية ، التي نتمنى ان يمعن فيها النظر بعض " ماركسيينا ".

" إني أنكر قطعا انه يجب على حزب العمال الاشتراكي في أي بلد كان من البلدان ، ان يقبل في صفوفه ، الى جانب البروليتاريين الريفيين و الفلاحين الصغار ، الفلاحين المتوسطين و الكبار او حتى مستأجري العقارات الكبيرة و مربي المواشي الرأسماليين و غيرهم ممن يستثمرون ارض البلد على اساس راسمالي . ان الملكية العقارية الاقطاعية هي و في وسعنا ان نسير معهم في بعض المسائل ، و في وسعنا ، لأجل بلوغ اهداف معينة ان نناضل بعض الوقت الى جانبهم . و من الممكن ان يقبل حزبنا افرادا من أي طبقة اجتماعية كانت ، و لكنه لن يقبل ابدا جماعات تمثل مصالح الراسماليين او البرجوازية المتوسطة او فئة الفلاحين المتوسطين "40
هكذا وقعت المسالة من طرف الماركسية و بهذا المضمون قدمت الماركسية الاجابة عن مسالة الفلاحين قبل انجاز الثورة الاشتراكية ، يبقى ان نشير هنا الى موقف الماركسية من الفلاحين بعد الثورة ،موقفها من الفلاحين الصغار ، يجيب انجلز في نفس المرجع .
" من الواضح كذلك انه عندما تصبح سلطة الدولة في يدنا لن يخطر ببالنا ان ننتزع ملكية الفلاحين الصغار بالعنف ( بتعويض او بغير تعويض ، بيان ) مثلما سنكون مضطرين لان نفعل بالنسبة لكبار الملاكين العقاريين ، ان مهمتنا تجاه الفلاحين الصغار تقوم قبل كل شيء في توجيه انتاجهم الخاص و ملكيتهم الخاصة في السبيل التعاوني لا بواسطة العنف ، بل عن طريق المثل و تقديم مساعدة المجتمع لهذا الغرض . و من المؤكد انه سيكون لدينا آنذاك ما يكفي من الوسائل لإقناع الفلاح بجميع المزايا التي سيتم بها هذا التحول و التي لا بد من توضيحها له منذ الآن "41.
ان ماركس و انجلز قد كانا على حق مؤسسا الاشتراكية العلمية ، مؤسساها الفعليين . و اذا أبعدنا صفة العبقرية التي كانا يتحليان بها فاننا نجزم بانه لولا التطور الذي عرفته الراسمالية و بروز طبقة ثورية قوية هي البروليتاريا و دخولها في الصدام المكشوف ضد البرجوازية ما كان هذان المعلمان ليقدما شيئا إضافيا عن ما قدمه أسلافهما .
و كما علمنا ماركس و انجلز ، فالفكر هو نتاج الواقع ، نتاج الشروط المادية الاجتماعية . ان تلك الشروط التي عاش فيهما كل من ماركس و انجلز هي التي حددت مضمون الاشتراكية عندهما و هي نفسها التي خلقت بتطورها الضرورة التاريخية لتطوير الاشتراكية العلمية .
ان درجة تمركز الراسمال ، واتحاد الراسمال الصناعي و المالي و بروز الامبريالية من جهة و بروز الانتهازية في قلب الحركة العمالية من جهة ثانية ، و الاندفاع الثوري للشعوب المستعمرة من طرف الامبرياليين و ما خلقته من اشكالات و حاجات قد دفع بقضية الاشتراكية لأن تتقدم نحو الامام .في ذلك الوقت ظهر لينين لتحقيق هذه الضرورة التاريخية . "ان واقع ظهور هذا الرجل العظيم و هذا الرجل العظيم بالذات لا غيره في زمن معين و في بلد معين هو بالطبع مجرد صدفة . و لكن اذا أزيل هذا الرجل ، ظهر طلب بإحلال بديل محله ، و هذا البديل يتواجد و يكون موفقا الى هذا الحد او ذاك ، و لكنه يتواجد مع مر الزمن "42.
كيف طور اذن لينين الاشتراكية العلمية ؟ لكن قبل ذلك ما هي الشروط المادية الجديدة التي فرضت هذه الضرورة؟ ذلك ما سوف نتحدث عنه في المقالة المقبلة .
________________________

1- انجلز : ضد دوهرينغ ص 309ص
* - انظر ضد دوهرينغ ، " الاشتراكية الطوباوية و الاشتراكية العلمية " ، " ديالكتيك الطبيعة ".
2- انجلز : ضد دوهرينغ ص 319.
3- انجلز : ضد دوهرينغ ص 323.
4- ماركس : رسالة الى انتكوف 1846
5- كارل ماركس رأس المال جزء 3 القسم الأول ص 1138 ( في 5 أجزاء ).
6- لينين : كارل ماركس قسم الاشتراكية انجلز : ضد دوهرينغ ص 336..
7- من ماركس الى لودفيغ كوغلمان 1871.
8- ماركس /انجلز البيان الشيوعي .
9- من انجلز الى ف.توراتي 1894.
10- إنجلز نفس المرجع السابق
11- من ماركس الى يوسف فيديمار 1852.
12-ماركس : نقد برنامج غوتا .
13- ماركس : نقد برنامج غوتا.
14-من انجلز الى اوتوبونيغك .
15- ماركس : نقد برنامج غوتا
16- انجلز : أنتي دوهرينغ .
17- انجلز : أنتي دوهرينغ .
18- انجلز : مبادئ الشيوعية .
19- من ماركس الى بولته 1871.
20-ملحق لكتاب انجلز الثورة و الثورة المضادة ص 196.
21- ملحق لكتاب انجلز الثورة و الثورة المضادة ص 196.
22- ملحق لكتاب انجلز الثورة و الثورة المضادة ص 196.
23- ملحق لكتاب انجلز الثورة و الثورة المضادة ص 196( التسطير أصلي ).
24- الثورة و الثورة المضادة ص 144.
25- مقدمة لكتاب ماركس " نضال الطبقات في فرنسا "
26- ماركس : رسالة الى بولته 1871.
27- ماركس / انجلز : البيان الشيوعي .
28- ماركس / انجلز : البيان الشيوعي .
* - نود ان نسمع تعليقا عن هذا الكلام من اولئك الشوفينيين الذين يدعون الانتماء الى ماركس و لا يخجلون من وصف استحضار البعد الاممي بأنه " محاولة لتكوين الدكاكين السياسية ".
29- من ماركس الى بولته 1871.
30- من ماركس الى بولته 1871.
31- ماركس : الثامن عشر من لويس بونابارت ص 132.
32- ماركس: الثامن عشر من لويس بونابارت ص 133.
33- انجلز : الثورة و الثورة المضادة في المانيا ص21.
34- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا ص 63.
35- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
36- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
37- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
38-انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
39- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
40- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
41- انجلز : مسألة الفلاحين في فرنسا و ألمانيا .
42- انجلز : رسالة الى بورغيوس 1894.