كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (21) «الشبح» والأسطورة: هل اختلط شبح جيفارا بشبح ماركس؟


عبد الحسين شعبان
2010 / 3 / 22 - 18:18     

ظلّت حكومة بوليفيا تطارد جيفارا لعدة أشهر، منذ أن شاع خبر التحاقه على رأس مجموعة ثورية لتحضير الثورة في الأدغال، ليزحف بها من الريف إلى المدينة، يومها جنّدت المخابرات المركزية الأميركية جميع إمكاناتها وبالتعاون مع حكومات أميركا اللاتينية -لاسيَّما حكومة بوليفيا- لتعقّب تحركاته ومعرفة مكانه، وسعت لاختراق التنظيمات التي كان يقودها، كما عملت لتوسيع رقعة الخلاف الذي دبّ بينه وبين الحزب الشيوعي البوليفي الذي يعمل ضمن المحور الرسمي للحركة الشيوعية بقيادة موسكو، وذلك بنشر نقاط الخلاف والمبالغة فيها، إضافة إلى معلومات مضللة.
لقد تلاقحت أوضاع البؤس التي كانت تعيشها أميركا اللاتينية مع النفحة الرومانسية الواعدة التي أطلقتها الثورة الكوبية والحركة الجيفارية، لدرجة أصبحت كل خطوة مهما كانت بسيطة تقلق الدكتاتوريات والقوى المستغلة والمحافظة، لاسيَّما حين يستقبلها الشباب المتطلع إلى الحرية والعدالة بحيوية مفعمة بالاحترام، الأمر الذي كان ينذر بفتح جبهات شبابية جديدة وتجنيد فتيات وفتيان من كل القوميات والأديان للنضال ضدها، هكذا تصوّرت القوى الاستغلالية والإمبريالية أن الشبح حاضر وموجود، أينما وحيثما اتجهت أو توجهت فستجده أمامها.
وإذا كان شبح ماركس الذي أرعب أوروبا العجوز في القرن الثامن عشر، حيث كان بلحيته وقلمه وخلفه كادحون ومستلبون، يبشّر بغدٍ أكثر إشراقاً وسعادة للإنسانية، لاسيَّما بالخلاص من حكم الاستغلال، فإن ما كان يقلق الرأسمالية والإمبريالية في إطار الموجة الجديدة للاشتراكية في أميركا اللاتينية، هو ما كان يدعو إليه جيفارا، ولكن ببندقيته وقبعته العسكرية وسيجاره المميز.
ومثلما استحكم حكام أوروبا حينها، لاسيَّما بعد صدور البيان الشيوعي العام 1848، وفيما بعد عند حدوث كومونة باريس العام 1870، وسقوط إحدى أهم قلاع الرأسمالية حينها، فقد استحكمت «أميركا اللاتينية» وحكوماتها الرجعية والدكتاتورية، وبقيادة مباشرة من الولايات المتحدة، لتطارد الشبح الجديد -الذي حاول أن ينقل الثورة إلى إفريقيا ويدعو إلى لقاء ممثلي القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية- لملاحقته، مخصصةً مجموعةً عسكريةً متخصصةً زادت على 1500 جندي.
ولعل الأهم من السعي لقتله، كانت محاولة القضاء على أسطورته التي ظلّت تتناقلها الألسن والدفاتر والصحف والمعامل والساحات والحقول وقلوب الشابات والشبان في كل مكان، بغض النظر عن نجاحه أو فشله في تحقيق حلمه الثوري، وبغض النظر عن صواب أو خطأ منهجه، لكن ما هو مؤكد أنه كان شجاعاً وحالماً، وساعياً لتحقيق العدالة على النطاق العالمي، وهو ما ينبغي أن يخضع لسياقه التاريخي.
لقد حاولت الدعاية الإمبريالية في حينها أن تنقل كلمة على لسانه ساعة احتضاره، بقوله: «أنا تشي غيفارا، لقد فشلت»، وبذلك ضجّت الوكالات بتكرارها ونقلها وكأنها هي النهاية المحتّمة لكل من يناضل من أجل الحرية والعدالة بطريقة لا تريدها القوى المتنفذة.
وإذا كان النجاح والفشل نسبيّين، فإن جيفارا فشل في الوصول إلى تحقيق هدفه، وهو أمرٌ مؤكد، فليس كل من يختار طريقاً صحيحاً فإنه بالضرورة سيصل إلى هدفه وسينجح في مهمته، ولا بدّ من توفّر عوامل سياسية ولوجستية وجيوبولتيكية وتوازن قوى، لكن ما هو مؤكد أنه نجح بصدقيته في طريقة التعبير، كما نجح في جرّ مئات الآلاف إلى النضال ضد الاستغلال وضد الإمبريالية والاستبداد، وهو نجاح باهر ومنقطع النظير، لأنه جسّد رمزية رومانسية ثورية حالمة وصادقة، حتى وإن اختلف الثوريون حول جدوى الأسلوب الذي اختاره وتوقيته وأفق عملية التغيير التي سعى إليها، ولعلهم أكثر اتفاقاً حول طهرية وصدقية ونجاعة سجاياه الشخصية والنضالية وإنسانية الأهداف التي دفع حياته ثمناً لها. وكان خطاب كاسترو بعد أيام من مصرع جيفارا جواباً على الغدر ومنطق الخديعة، وإعلاناً جديداً بمواصلة النضال، بتأكيده أن «النضال سيستمر بعد موت تشي، والحركة الثورية لن تتوقف».
وقبل فترة قصيرة نشر فيلكس رودريجيس -العميل السابق لجهاز المخابرات المركزية الأميركية CIA- عبر الإنترنت صوراً لأول مرة عن إعدام جيفارا، وهذه الصور تمثل حياة الثوري الأرجنتيني قبل إطلاق الرصاص عليه في «لا هيغويرا» في غابة «فالدي غراندي» في بوليفيا في 9 أكتوبر العام 1967. وتُظهر الصور كيف تم أسر جيفارا وإلقاؤه على الأرض، ووجهه المتورم الكثير الكدمات، ودمه المسفوح بجواره، وعينيه شبه المغلقتين، والجديد أيضاً هو ما قاله رودريجيس عن بتر كفيه بعد قتله، لأجل التعرّف على بصمات أصابعه، ثم القيام بحرقه.
وإذا كان الذئب المفترس يحوم حول جيفارا ويلاحقه كظلّه، فإن شيئاً آخر شاطره حياته أيضاً، وهو مرضه، حيث كان مصاباً بالربو وتأتيه نوبات موجعة، وكان يئن زفيراً ويتمزق صدره لقلة الأكسجين، لكن شعلة الحرية الحمراء المتوهجة ظلّت ما يرنو إليه، وهي ما يريده وما يسعى له، مرفقة بالعدالة، وظلّ وفيّاً لها حتى آخر لحظة في حياته القصيرة.
لم يكن الموت يخيف جيفارا، وكان يتشهى موته، فقد قال مرّة لرفيق له العام 1957، وهما يقاتلان جنباً إلى جنب في الأدغال، وكانت القوات الحكومية التابعة لباتيستا تمطرهما بالرصاص: «أتدري كيف أتمنى أن أموت؟ ثم يجيبه: مثلما مات بطل قصة جاك لندن.. لقد تجمّد حتى الموت في أراضي ألاسكا البيضاء المقفرة، فاستند بهدوء إلى شجرة، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء». كان جيفارا يتمنى عندما يأتيه الموت، أن يستريح عند جذع شجرة، ليهدأ زفيره الداخلي، ثم يموت بصمت، لكنه لن ينسى أن تكون بندقيته معه، لكي يفرغ ما تبقى فيها من رصاص في العدو الذي يهاجمه خلف الأشجار.
قال جيفارا لكاسترو في الرسالة الأخيرة التي وجهها له العام 1965 قبل اختفائه: «ذات يوم، سألنا عن الشخص الذي ينبغي إنذاره أو إبلاغه عند موت أحدنا، وفوجئنا جميعاً لهذه الإمكانية الحقيقية، ثم أدركنا أن الثائر الحقيقي: إما أن ينتصر أو يموت. وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل.. بمعنى إن لم يتحقق النصر فسيكون الموت حليفنا المنطقي».
ولعل أكثر ما تردد على لسان جيفارا عن الموت -وهو ما نشر عنه وزيّن واجهات ومكاتب المقاومة والحركات الثورية الفلسطينية والعربية- قوله: «لا يهمني متى وأين سأموت، ولكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين، يملؤون الأرض ضجيجاً، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين».
ولعل هذا ما أراده جيفارا، فقد أفرغ ما في جعبته في المعركة، ونفد عتاده، وحينها استقبل الموت كزائر تصالح معه بعد طول مطاردة وعناء، وبقدر ما كان موته مصدر حزن وأسى بالغين للثوريين واليساريين من كل الأشكال، ورغم اختلافاتهم مع توجهاته، فقد كان ابتهاجاً منقطع النظير للقوى الاستكبارية العالمية الرأسمالية والاستبدادية على المستوى الدولي والمحلي أيضاً، التي اعتقدت أن القضاء على الرمز يمكن أن يقطع الطريق على نشوء وتبلور حركة ثورية فاعلة.
وإذا كانت حياة جيفارا قد شهدت صخباً وضجيجاً، فإن موته هو الآخر كان الأكثر إثارة وغموضاً، وإذا كانت حياته قد توقفت، فإن إشعاع الفكر الجيفاري لم يتوقف، وهو اليوم الأكثر دراسة ومراجعة ونقداً وارتباطاً بالفكر الماركسي ذاته، خصوصاً في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية منذ أواخر العام 2008 والتي قد تدوم -حسب بعض التقديرات- إلى مطلع العام 2012، وإن رمزيته كباحث عن العدالة على المستوى الأممي ازدادت تأثيراً، لدرجة أن قوى اليسار في أميركا اللاتينية -وهي اليوم تنهض عبر شعار «الثورة في صندوق الاقتراع»- لم تنس دور جيفارا الذي حفر الثورة بيديه في الستينيات، وكان جسراً نحو لاهوت التحرير في الثمانينيات، ثم انخرطت الملايين لتدلي بأصواتها للمثل والقيم التي دعا إليها في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، حين أحرز اليسار انتصارات كبرى في أميركا اللاتينية، من كوبا كاسترو إلى هوغو شافيز في فنزويلا، مروراً بعدد من أقطار أميركا اللاتينية.