فؤاد النمري وحسقيل قوجمان في الديالكتيك الإلهي -2


أنور نجم الدين
2010 / 3 / 5 - 09:02     

في الجزء الأول من بحثنا، حاولنا أن نبين بأن الديالكتيك الإلهي للسيد فؤاد النمري، سيفقد حقيقته المطلقة، حالما نبدأ بالتحقق عن الأشياء المادية، بصورة تجريبية، وعلى عكس السيد حسقيل قوجمان، ما كان ممكنا لماركس أن يصل إلى نتائج ايجابية في أبحاثه الاقتصادية، بدون التخلي المسبق عن هذه الحقيقة المطلقة، أي الديالكتيك.

وكما سبق أن قلنا مرات عديدة في أبحاثنا المختلفة عن الديالكتيك، يمكن القول إن الديالكتيك ينطبق على الحركات والعلاقات العينية بين الأشياء، ولكن هذا لا يعني أن الديالكتيك ينطبق بالضرورة على كل العلاقات في العالم المادي .ومع التطور الصناعي، كان لا بد للبشر أن يجدوا أسلوبا آخر في تحري الأشياء غير الأسلوب الفلسفي، فيمكن أحيانًا أن نصل إلى نتيجة إيجابية في البحث عن هذه العلاقة أو تلك من خلال الأسلوب الفلسفي، أو من خلال المنطق الديالكتيكي، ولكن مادامت الوسائط المادية موجودة سلفًا في متناول يدنا للبحث عن الأشياء بصورة مادية علمية، فليس من الضروري العودة إلى الحقيقة المطلقة، فهذه الطريقة العلمية تعطينا فرصة العمل على الأشياء وعلاقاتها ببعضها البعض بصورة تجريبية، فلماذا إذًا اللجوء إلى منطق الجدلي العقلي؟ وإذا كان من الممكن نقد أسلوب ماركس -أو العلماء على العموم- في البحث عن هذا الموضوع أو ذاك، فمن الممكن نقد حقيقة الديالكتيك المطلقة عشرات المرات في البحث عن نفس الموضوع، لأن الديالكتيك لا ينطبق على الأشياء إلا في الحالات النادرة، وسيكون من المصادفة البحتة أن ينطبق هذا القانون الديالكتيكي أو ذاك على هذه العلاقة أو تلك، فالديالكتيك بالأحرى ليس قانونًا.

كان هيغل يفكر، يتأمل فى خصوص العلاقات، والتناقض بين الأشياء المادية، بدل البحث عن علاقات هذه الأشياء وكيفية تطورها بصورة تجريبية، بمعنى أن هيغل -أو الفلاسفة على العموم- يصل إلى المعرفة عن طريق التفكير المنطقي الجدلي وليس من خلال إجراء التجارب والاختبار العملي على الأشياء، حيث إن الفلاسفة لم تكن لديهم التقنيات اللازمة للبحث عن الأشياء وعلاقاتها المادية ببعضها البعض، فالعلماء، (نيوتن، داروين، ماركس) لا يسلكون في أبحاثهم مسلك هيغل، لأن أعمال هيغل أعمال غير تجريبية تجري عبر رأسه المنفصل عن الأشياء المادية وقوانين وجودها. وبصدد ذلك، يقول هيغل نفسه:

"في العلوم التجريبية، يحلل عادة ما يعثر عليه في التمثيل، وحين يكون الخالص قد أعيد إلى المشترك، يُدعى ذلك المفهوم. نحن لا نعمل هكذا، لأننا نريد فقط أن ننظر كيف المفهوم يعين نفسه بنفسه ونجهد كي لا نضيف شيئًا من رأينا الخاص وفكرنا - هيغل، مختارات 1".

والآن لنتابع بحثنا من خلال الجدل عن منهج العلم التجريبي، ومنهج الديالكتيك الإلهي.

مثال:

كيف يبحث الديالكتيك العلاقة بين جانبي رأس المال؟

للبحث عن العلاقة بين طرفي رأس المال، لا يعطينا الديالكتيك أي أداة لفهم المكونات الداخلية لهذه العلاقة، فالقوانين العقلية الجاهزة للديالكتيك تنطبق على كل الأشياء بنفس الأسلوب، ودون استثناء. أما الأشياء المادية فلها خصائصها المميزة؛ لذلك فمن المستحيل الحصول على أي نتائج إيجابية، دون النزول إلى المكونات المادية لهذه الأشياء، فرأس المال الكلي المسلف (ر)، أي التركيب العضوي لرأس المال، يتكون من رأس المال الثابت (ثـ) + رأس المال المتحول (لـ)، فرأس المال يتألف من جزأين: مبلغ من المال ينفق على وسائل الإنتاج، الآلات والأدوات والمواد الأولية (ثـ)، ومبلغ آخر من المال ينفق في قوة العمل (لـ).
كما نرى هنا، تُشَكِّلُ الأَطْرَافُ ر = ثـ + لـ، وحدات في الكم، لا الكم والكيف، فمبلغ من المال في كلا الحالين يعبر عن كمية من المال. وسوف نقف متحيرين أمام هذه الحالة، ولا نصل إلى أبعد من حدود ر = ثـ + لـ، ما لم نغادر ميدان الديالكتيك الإلهي الذي سينظر إلى الأشياء من الأعلى، -أو بالتحديد- دون النزول إلى داخل العلاقة المادية بين الأشياء، والبحث عن نمو التناقضات الداخلية في هذه العلاقة المادية البحتة، بصورة تجريبية.

ثـ = الكم
لـ = الكم

فالكيف غير موجود أصلاً في هذه العلاقة. وهكذا، فهل تشكل هذه العلاقة (وحدة الأضداد) التي يسميها ماركس الوحدة السالبة الهيغلية؟

مثال:

80 ثـ + 20 لـ = 100 ر، والأمر هنا، كما كان الحال في العلاقة بين العرض والطلب مثلاً، يتعلق بإزدياد أو انخفاض المبالغ المنفقة في ثـ و لـ، فمن خلال كمية (أكبر) أو كمية (أصغر) من رأس المال، سنواجه نفس الحالة التي واجهناها في العلاقة بين العرض والطلب.

أما إذا أردنا التحقق من نمو التناقضات الموجودة في هذه العلاقة، فيجب أن نغادر ميدان هذه العلاقة، والبدء بالبحث عن علاقة ثانية، أو قانون آخر من قوانين المجتمع الرأسمالي ينشأ وبالضرورة من خلال علاقة جانبي رأس المال ببعضهما البعض. ودون التحقق من التناقضات من خلال علاقة ثانية لا يمكننا فهم أي تناقض في العلاقة المادية الأولى؛ فالأشياء المادية تتداخل مع بعضها البعض بحيث لا يمكن الوصول إلى نتائج إيجابية، أو إلى اكتشاف قوانينها المادية، دون اكتشاف مسبق للمكونات والخصائص المادية المميزة لهذه الأشياء، ومن ثم اكتشاف عناصرها المتناقضة، العناصر التي لا يمكنها أن تقع في التناقض مع العناصر والعلاقات القديمة، ولا تتغير أو تتلاشى حسب قانون الوحدة السالبة الهيغلية، بل تتغير بالضرورة من خلال قوانينها المادية الخاصة بها. ويقول ماركس بهذا الصدد:

"إنَّ هذا التناقض يتلاشى ويتولد في الممارسة بصورة متصلة. وهكذا فليس المقصود (الوحدة السالبة) الهيغلية لطرفي التناقض، بل التلاشي الناشئ عن شروط مادية، عن نمط الحياة للأفراد، المشروط ماديًّا، وهو تلاشٍ يؤدي إلى زوال هذا التناقض وتجاوزه في وقت واحد - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب".

وهكذا، فمن خلال النزول إلى داخل الأشياء المادية وعلاقاتها ببعضها البعض، سوف نحصل على جواب الأسئلة التي نطرحها بخصوص كيفية نمو التناقضات الداخلية للأشياء، فلا يكفي أن نقول: إن وحدة الأشياء هي وحدة الأضداد، فكم من السهل أن نفسر كل شيء بالديالكتيك! الديالكتيك الذي ليس له المكان بين قوانين الوجود، أي القوانين الفيزيائية في الطبيعة كما يتصور السيد فؤاد النمري، والقوانين الاقتصادية في المجتمع، كما يتصور السيد حسقيل قوجمان.

إذًا كيف نفهم العلاقات المتناقضة بين الأشياء؟ من خلال تحري الأشياء بالفكر (الديالكتيك الإلهي)، كما يقول هيغل، أو من خلال تحري الأشياء تجريبيًّا، كما يقول ماركس؟

الديالكتيك فكرة جاهزة، لذلك فلا يمكن للديالكتيك إعطاء أي فكرة بخصوص مكونات رأس المال (ثـ + لـ) مثلاً. وهذا يعني، قبل البدء بالعمل التجريبي، ليس للديالكتيك أي فكرة عن أصل وحدات رأس المال، أما بعد جهد علمي لاكتشاف جانبي رأس المال، سيكون من السهل جدًّا أن نقول: ها هو ثـ و لـ، تُكَوِّنَانِ وحدة متضادة، وسوف تتحول علاقتهما إلى علاقة نوعية جديدة نتيجة للتراكمات الكمية.

وهكذا، نرى أن الديالكتيك، أي الفكرة الجاهزة عن التحولات، موجودة في متناول أيدينا، ولكن دون أن نعرف كيف تظهر التناقضات الداخلية في هذه العلاقة أو تلك. وهل يكفي أن نقول: إن كل شيء ينمو ويتحول؟ كلا، أبدًا، لأن كل مثالي يؤكد بدوره على أن كل شيء ينمو ويتحول. ولكن كيف؟
هذا هو السؤال الذي سوف يقودنا إلى أصل العلاقات المادية بين الأشياء، فنحن لا نبحث الظواهر، والعلاقات، والتناقضات، لكي نطبق أفكارنا الجاهزة عليها، فها هي العلاقة التي نبحثها في شكل مبالغ محددة من رأس المال، ثـ و لـ، معلقة بين السماء والأرض، ولا يمكننا الوصول إليها من خلال الديالكتيك، مهما حاولنا تفسيرها بوحدة الأضداد، والكم والكيف، فما التناقضات الموجودة في هذه العلاقة؟

الديالكتيك عاجز عن جواب هذا السؤال بصورة تامة. لذلك، إذا أردنا جواب سؤالنا، فيجب وبالضرورة، النزول إلى العلاقة الداخلية بين طرفي رأس المال (ثـ و لـ)، والبدء بالبحث بصورة علمية عن نتائج نموها، فالعقل الديالكتيكي الجاهز، لا يعطينا فرصة الاقتراب من هذه العلاقة الداخلية مهما بدأنا باللعب بالكلمات والمصطلحات المنتفخة، ومهما حاولنا تفسير الديالكتيك بالحقيقة المطلقة، فالديالكتيك ليس سوى هراء باطل عن أفكار باطلة عن العالم المادي.
__________________________________________________________________________________________

ملحق 2:

يقول ماركس: "يملك هيغل القدرة الكاذبة أن يعرض على أنها عملية الكائن العقلي المتخيل نفسه، الذات المطلقة، العملية التي بواسطتها ينتقل الفيلسوف عن طريق الإدراك الحسي من موضوع إلى آخر. وإلى جانب ذلك، غالباً ما يقدم هيغل عرضاً حقيقياً، يحيط بشيء نفسه، ضمن العرض التأملي. هذا العرض الواقعي ضمن العرض التأملي يوقع القارىء في الظلال فيأخذ التأمل على أنه واقع والواقع على أنه التأمل - كارل ماركس، العائلة المقدسة، ص 73".