كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (18) كاسترو- أبوعمار- حبش: رومانسية لا غنى عنها


عبد الحسين شعبان
2010 / 3 / 1 - 18:47     

ظل جيل الستينيات وإلى حدود معينة جيل السبعينيات يربط بين رمزية النضال الفلسطيني والكوبي، لاسيَّما الالتقاء في الكثير من الشعارات والأهداف وأساليب الكفاح الثوري التي سادت آنذاك، خصوصاً ما مثّله جيفارا من أحلام وشجاعة جاءت به من أميركا اللاتينية إلى مصر والجزائر، ثم الاختفاء الغامض في الكونغو وبعده انتقاله لقيادة الكفاح المسلح في بوليفيا، وفيما بعد مصرعه الذي حمل الكثير من المعاني والأسرار.
كل ذلك حصل في إطار رومانسية ثورية كانت تميل إليها حركات تحرر فلسطينية وعربية ومناضلون حالمون وجدوا في النموذج الجيفاري مثالاً يتطلعون إليه في ملامسة واقع شديد البؤس، متجسداً في الاحتلال من جهة، ومن الجهة الأخرى في أنظمة حكم لا تستجيب لمطالب شعوبها. ورغم ما أثارته الموجة الجيفارية من جدل واختلاف وتباين في الرؤية وبين ما كانت الحركة التحررية العربية تعيشه، لاسيَّما تياراتها الأساسية آنذاك، اليسارية الماركسية بما فيها الجديدة، واليسارية القومية، فإنها تركت الكثير من البصمات على الجو السياسي والفكري السائد آنذاك.
وأستطيع القول -رغم وجود نموذج فيتنامي ناجح وتجارب لحركات الأنصار الشيوعية، لاسيَّما في الحرب العالمية الثانية وبخاصة في أوروبا- أن الموديل الجيفاري كان الأكثر جاذبية وتأثيراً، لدرجة أن بعض خصومه الفكريين كانوا قد تأثروا به أيضاً، وعلى أقل تقدير كانوا ينظرون إليه بإعجاب كبير.
وقد زخر الأدب السياسي الفلسطيني المقاوم والأدب العربي خلال فترة أواخر الستينيات والسبعينيات بمصطلحات واقتباسات لم تكن بعيدة عن اللغة السياسية والأدبية التي كان يستخدمها جيفارا وكاسترو، فجرى الحديث عن «البؤر الثورية» و «الكفاح المسلح» و «الزحف من الريف إلى المدينة» و «تسريع دور العامل الذاتي في تثوير العامل الموضوعي» و «استخدام العنف الثوري» و تأسيس نُويّات لحركات الأنصار وإشعال المقاومة ودور القوى التحررية في القارات الثلاث كضلع ثالث للدول الاشتراكية والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، لاسيَّما أن الثقل الثوري انتقل إليه.
وهكذا ساد نوع من الرومانسية الثورية والحلم الغامض الجميل، لدرجة حاول بعض الشباب تمثيل شخصية جيفارا فارتدوا قبعته وأطلقوا ذقونهم واتجهوا إلى الأرياف ومعهم كثير من الأحلام وبضعة كتب، على أمل حشد الفلاحين للثورة على الحكام الدكتاتوريين والأنظمة التقليدية، بل إن بعض الحركات الثورية كانت قد تبنّت هذا النهج حتى وإن كان في ظروف مختلفة، الأمر الذي أدّى في بعض الأحيان إلى حرق المراحل وتبديد إمكانات وطاقات كان يمكن ادّخارها، ولو كانت قد تُركت للتطور الطبيعي، التدريجي، التراكمي لأحدثت نوعاً من التغيير حتى وإن كان طويل الأمد. وهنا أستذكر كيف انخرط بعض الشباب في ما سمّي بالكفاح المسلح في العراق، وهو ما دعت إليه القيادة المركزية للحزب الشيوعي- جناح عزيز الحاج بعد الانقسام في الحزب (سبتمبر عام 1967) وقيل إن الفلاحين لم يستوعبوا ذلك، فجرى الإخبار عنهم، أو إن بعضهم قتل من جانبهم، وبين هؤلاء صديقاي أزهر الجعفري وسامر مهدي، فضلاً عن بعض الشخصيات المعروفة مثل خالد أحمد زكي الذي قتل في معركة غير متكافئة.
وكانت المقاومة الفلسطينية الصاعدة، لاسيَّما بعد عام 1967 قد تمثلت هذا النموذج واتخذت منه شكلاً ومضموناً مصدراً أساسياً في نشاطها وأساليب عملها، وكان شعور عام قد ساد بأن كوبا هي الأكثر قرباً من الدول الاشتراكية إلى العالم العربي وأنها أكثر حرارة وصدقاً في التعامل مع قضاياه، لاسيَّما ما مثّلته شخصية كاسترو وجيفارا من رمزية كبيرة، دفعت الكثير من الشباب إلى التمثل بهما.
وقد كانت السبعينيات المحطة الأساسية التي توطدت فيها، بل واستقرت العلاقات الفلسطينية- الكوبية وربما العربية- الكوبية، لاسيَّما زيارات ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة وعامر عبدالله وجورج حاوي وآخرين إلى هافانا، كما تعززت العلاقات الكوبية- العربية على صعيد العلاقات الدولية، لاسيَّما مع العراق واليمن الجنوبية والجزائر وسوريا وليبيا، وقبل ذلك مصر وغيرها.
ويتذكر المقاومون الفلسطينيون باعتزاز كبير موقف السفير الكوبي في بيروت، خسنتو، الذي كان خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت عام 1982، يداوم يومياً بمقرات قيادات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وهذا الموقف الذي اتّخذه لم يكن بعيداً عن المواقف التي اتخذتها القيادة الكوبية ممثلة بكاسترو وجيفارا يوم اعترفت، بل وتميّزت بمواقفها المؤيدة للحقوق الوطنية الفلسطينية وفي المقدمة منها حق تقرير المصير، لاسيَّما أن إسرائيل حسب تقييمات القيادة الكوبية كانت حتى قبل عام 1967 بؤرة للتوتر وتهديداً للسلام والأمن في المنطقة ومصدراً للحروب والنزاعات المستمرة.
لقد كانت حساسية الكوبيين شديدة إزاء ما حصل للفلسطينيين، وكلما تعرفوا أكثر على الأوضاع العربية، كلما ازدادت قناعتهم بأن ما حصل لفلسطين لم يكن بمعزل عن قوى الاستغلال والرأسمالية العالمية. وكان لجيفارا دور كبير في تكوين مثل هذا التصوّر، خصوصاً من خلال اطّلاعه على ما كان يناقش ويصدر عن منظمة التضامن الأفروآسيوي، ومن خلال علاقته بأحمد بن بيلا وجمال عبدالناصر والمهدي بن بركه وزياراته للجزائر والقاهرة، ولعل ذلك قد أسهم في بلورة الفكر الجيفاري تأثراً بالمحيط العربي، الذي علينا الاعتزاز به، لأنه جزء من المشترك اليساري الإنساني برفد متبادل على الصعيد الفكري.
اطّلع الكوبيون على المذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين منذ قيام إسرائيل، حيث نفّذت مجازر شنيعة في دير ياسين عام 1948، وكفر قاسم عام 1956، وأدركوا أن إسرائيل بممارساتها تلك كانت جزءًا من المعسكر الإمبريالي، وقاعدة متقدمة له لوقف تقدم حركة التحرر الوطنية العربية ومناهضة تطلعات الشعوب العربية في التحرر والانعتاق والتنمية والتقدم، لاسيَّما مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، يوم قام الرئيس عبدالناصر بتأميم قناة السويس.
وقد تمت بعض اللقاءات بين الفلسطينيين والكوبيين، في إطار اتحادات الطلبة، حين كان يرأس اتحاد طلبة فلسطين تيسير قبعة القيادي في الجبهة الشعبية، وكان الاتحاد عضواً في اتحاد الطلاب العالمي، واتسعت علاقاته لاحقاً في أواخر الستينيات والسبعينيات.
وتعزّزت العلاقة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 حيث التقى جيفارا بعض القيادات الفلسطينية خلال زياراته للقاهرة، وربما كان قد التقى خليل الوزير (أبوجهاد) في الجزائر خلال التحضيرات لمؤتمرات التضامن الأفروآسيوي تمهيداً لمؤتمر القارات الثلاث.
يقول صلاح صلاح، القيادي في الجبهة الشعبية الذي أجريت معه مقابلة بعد عودتي من هافانا باعتباره رئيساً لجمعية الصداقة الفلسطينية- الكوبية، إن كوبا اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتحت لها سفارة في هافانا منذ وقت مبكر، لكن العلاقة تعززت في السبعينيات. وأكثر التقديرات أن مؤتمر القارات الثلاث الذي كان يحضّر له أحمد بن بيلا والمهدي بن بركة وجيفارا، كان المحطة الأولى المهمة للعلاقة، لاسيَّما بعد انعقاده عام 1966 رغم غياب القادة الثلاث عنه لأسباب تتعلق بذهاب جيفارا إلى الكونغو لقيادة الثورة فيها وإزاحة أحمد بن بيلا عن السلطة إثر الانقلاب ضده، واختفاء المهدي بن بركه قسرياً في باريس.
وكانت منظمة «فتح» أول من فتح مكتباً لها في هافانا. ويتذكّر صلاح صلاح أن وفداً فلسطينياً كبيراً كان قد زار كوبا برئاسة تيسير قبعة عام 1978، لاسيَّما بعد أن برزت بعض التمايزات بين ما أطلق عليه قوى اليسار واليمين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حيث فتح الكوبيون خطّاً جديداً لهم مع الفلسطينيين واعترفوا بتنظيمين هما: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة، وذلك بعد توثيق علاقة الجبهتين بالاتحاد السوفيتي. وكان صلاح صلاح قد شارك في دورة حزبية لمدة عام (1979 -1980) وبدأت دورات أخرى أمنية وسياسية وأكاديمية للفلسطينيين عبر تقديم منح لهم عن طريق «م.ت.ف» ثم بدأت بعض الفصائل تحصل على دعم سياسي وعسكري ومهني مباشر أيضاً.