كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (17) همنغواي والجواهري: الشيخان والبحر!


عبد الحسين شعبان
2010 / 2 / 22 - 20:15     


الجواهري المأسور بالبحر والنهر وخلدهما بقصائد خالدة «يا دجلة الخير..» و «سجى البحر» الأولى كتبها في براغ والثانية في أثينا وقصائد أخرى، وكان من أمنيات حياته أن تكون له شقة على البحر، والتي يستذكر فيها أيامه الخوالي، عندما كان بيته على نهر دجلة، ويتذكّر شط الكوفة في الفرات، يندهش، بل لا يصدق الأمر عندما يعرف أن همنغواي، وهو يعيش بكل هذه العيشة الأُبهة يفارق الحياة منتحراً، (يوليو 1899- يوليو 1961) أي أنه غادر الحياة في نفس الشهر الذي ولد فيه، ولعل تلك مفارقة أخرى ما بين الجواهري وهمنغواي، فقد ولد الجواهري في 27 يوليو عام 1900 حسب أكثر التقديرات رجاحة بشأن ولادته، وتوفي في اليوم نفسه من العام 1997، أي أنهما كليهما ولدا وتوفيا في شهر يوليو.
وإذا كان ثمة ما يجمع بين الجواهري وهمنغواي، فثمة ما يفرّق، وإذا كان كلاهما يعشقان النساء، إلا أن همنغواي كان ما إن يتعرّف على امرأة حتى لا تنقضي بضعة أيام على تعارفهما ليطلب الزواج منها! يقول هو عن نفسه: تلك هي طبيعتي مع النساء، لا أعرف من أين جاءت إليّ..؟ عندما أحبُّ أحب أن أتزوّج فوراً، فلا مكان لأوقات الغزل وساعات الانتظار، ومع أن الجواهري تزوّج مرتين، فبعد وفاة أم فرات في العام 1938، تزوج شقيقتها أم نجاح «أمّونة» التي رافقته حتى العام 1992، حيث توفيت في لندن، إلا أنه يقول عن نفسه إنه لم يعرف طعم الحب، أو يتذوق طعم المرأة الحقيقي وهو على مشارف الخمسين، وذلك يوم أحب أنيتا الكورسيكية من بنات السين في باريس العام 1949، ونظم فيها خمس قصائد، كما يقول في حواراته المنشورة في كتاب «الجواهري- جدل الشعر والحياة»، وفيما بعد علاقته مع بارنيا وماروشكا التشيكية.
كان همنغواي يصطاد السمك ولكنه يحب تناوله في مطعم لاتراسا الشهير، حيث تنزل شرفته إلى البحر مباشرة في خليج صغير يرتبط بعمق البحر، في ضاحية على مشارف هافانا حيث الموقع الاستراتيجي، وبالقرب من المطعم اليوم ينتصب تمثاله على الساحل، بمحاذاة البحر، ومثلما في حانته الشهيرة وفي مزرعته فقد كان همنغواي يطبع المكان بطابعه، فقد اتسمت حانة بودغيتا دل ميديو بالبساطة والشعبية، ورغم ذلك فقد أصبحت محجّاً يتسابق إلى زيارتها آلاف المشاهير ممن يزورون هافانا، حيث يبادر القائمون عليها بوضع صورهم وأسمائهم، على جدرانها المزدحمة بالأسماء والتواريخ لزيارات من كل أصقاع الدنيا، فقد كان «الشقي» همنغواي يعشق النساء والخمور والملذّات بجميع أنواعها، ويستهويه السفر بلا حدود، وهناك شيئاً من فوضاه الأثيرة.
ورغم أنه عاش في الوقت الضائع كما يقال، فقد أصيب بـ237 جرحاً وأجريت له 12 عملية، ومكث في المستشفى في ميلانو نحو 6 أشهر، وقد حدث ذلك يوم كان في الجبهة الإيطالية عندما عمل مراسلاً حربياً في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى التشبث بالحياة وخوض غمارها والاستمرار في مغامراته التي بدأها منذ صباه، فقد تشبث بالحياة بكل ما فيها من عنفوان، وهو ما ترك حيرةً واستفهاماً كبيرين حول موته.
لقد وصف همنغواي الموت الذي تعرّض له في الحرب العالمية الأولى عندما قال: لقد متُّ في تلك اللحظة، أحسست روحي تخرج من جسدي. افهموا هذا الإحساس كما تريدون. شعرت بأن روحي تنسلّ من جسدي كما ينتزع منديل حريري من جيب سترة، لكن هذا الشعور تبدد فجأة وعاد إليّ شيء أنعش جسدي من جديد، وعرفت أنني لم أمت وقد استوحى همنغواي من هذه الحادثة فيما بعد قصته الشهيرة «وداعاً للسلاح»، وكان قد وصف الحرب باعتبارها أخطر قضية في حياة الإنسان وأصعب مشكلة للعقل البشري.. إنها الشيء الرهيب في حياة البشر، ولا نستطيع تناولها إلا إذا قدّرنا خطورتها في صدق وحرارة.
كان أول ما نشره همنغواي وهو ينتقل من الصحافة التي أحبّها، لأنها تعنى بالواقع، إلى الرواية التي تعنى بالمتخيّل هو قصة: لا تزال الشمس تشرق العام 1926، وهي تصوير حزين للحياة القلقة المتشردة، لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى، وبخاصة للأميركان في أوروبا، وبمجرد صدور الكتاب أصبح همنغواي مشهوراً، حيث هيمن على نفوس القراء، لاسيما من الشباب، شعور بأن ثمت من يُحسن التعبير عن مشاعرهم.
التحق همنغواي بالجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، فترك كل شيء، وكان همّه الأساسي هو القضاء على الفاشية، وكما يقول، فإنه لم يكتفِ بالقتال، بل اشترى سيارة إسعاف وأهداها إلى الثوار. وكان حصيلة مغامرته الإسبانية «قصة موت بعد الظهر»!
وقد التقى همنغواي في إسبانيا بالكاتب الفرنسي المعروف أندريه مالرو وارتبط معه بصداقة مديدة، وقررا الاشتراك في مشروع أدبي هو الكتابة عن الثورة واقتسما المراحل، حيث ألف مارلو كتاب الأمل في العام 1938 في حين أصدر همنغواي روايته الشهيرة «لمن تقرع الأجراس» عام 1940. وقد تحوّلت روايات وقصص همنغواي إلى أفلام مثيرة غزت الشاشة وتركت انطباعات إيجابية على قدرته في تصوير حياة الحرب وتفاصيلها وآلامها. وهو ما قدّر لي أن أشاهده في أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات.
في عام 1946 تزوّج للمرة الثالثة وقرر الرحيل إلى كوبا للعيش فيها نهائياً، حيث سكن في فيلا شهيرة تبعد نحو 20 كيلومترا عن هافانا واسمها كما ذكرنا «لافيهيا» وهي عبارة عن مزرعة فيها أعداد من الحيوانات الأليفة. ونشر في العام 1950 روايته «عبر النهر وتحت الشجر»، ثم روايته الرائعة «الشيخ والبحر» العام 1952 التي في إثرها نال جائزة نوبل العام 1954، وقد اعتبر الناقد روجيه غروينر أن همنغواي كتب تلك الرواية «الشيخ والبحر» متأثراً بالكاتب ملفيل وروايته «موبي ديك» Moby Dick وذلك كما ورد في كتاب لصدقي إسماعيل بعنوان «نبلاء الإنسانية» الصادر عن دار رياض نجيب الريس، بيروت، 2008.
وإذا كانت حياة همنغواي قد عرفت كل هذه المنعرجات والمغامرات والتحديات، فإن عزاءه كان التأمل والعزلة والتفكير، وهو يتقدم في مرحلة الكهولة، إلى أن أنهى حياته بضربة واحدة من قدر غامض، لعله كان مثل غموض بعض شخصياته وربما شخصيته الغامضة هو بالذات أيضاً.
يشير الكاتب صباح المندلاوي على لسان الجواهري إلى تفاصيل غالباً ما كان الجواهري يرددها بشأن رفض بعض الناشرين نشر كتب بعض المبدعين، وإذا بهم يتنافسون عليهم بعد أن يذيع صيتهم، وكيف أنه تم رفض بعض مخطوطات همنغواي، الذي عاش الفاقة والعوز والجوع حتى وصل الأمر في إحدى المرات أن يجمع له بعض العاملين في تلك البارات مبلغاً من المال لغرض مساعدته وانتشاله، وذلك قبل حصوله على جائزة نوبل العام 1954، حيث انفتحت أمامه أبواب الدنيا، وهو ما ذكّرني بالشاعر المبدع عبدالأمير الحصيري، الذي عاش حياة متشردة، نؤاسية، متصعلكة، وكان في كل مقهى أو بار هناك من يقوم «بواجبه» بدفع متطلباته، فارقه الوحيد مع همنغواي، أنه مات منتحراً ولكن على طريقته، معوزاً ووحيداً ومحروماً من كل شيء بما في ذلك النساء، إلا أنه مُتخماً بالخمرة صديقته الوحيدة وملاذه الأخير، في حين انتحر همنغواي وهو يرفل بكل أنواع الامتيازات والترف.
لقد مزج همنغواي تجربته الأدبية بتجربته الحياتية لدرجة التماهي أحياناً، حيث كانت حياته حافلة بالأحداث والمغامرات والخفايا وإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً فكان يخترعها أحياناً ويبدع في تخيّلها، وقد قال عن نفسه: لم أفهم حياتي بعد، لأنني أخشى الالتفات إلى الوراء.
صدق هادي العلوي عندما أطلق على صباح المندلاوي «صباح النجيب» وهو ما كنت أشاطره الرأي فيه منذ أن اقترن المندلاوي بكريمة الجواهري خيال، حتى أصبح عين الجواهري التي يقرأ بها، فالتزمه وحرص على تلبية جميع متطلباته، لاسيما خلال فترة مرضه، وكان يجول معه في روائع وأمهات الكتب، وما يحبب وما يرغب أبا فرات، وهو ما يكشف عنه في كتابه، الذي أحسن صنعاً بإصداره. الشيخان همنغواي والجواهري، استلهما من البحر الشيء الكثير، ففيه عالم الأسرار والغموض واللانهايات والمتعة في الاكتشاف الأبدي.