في كتابه الجديد (النسر المحلّق) رضا الظاهر يساهم في إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ - امرأة دافعت عن قناعاتها


كمال فهمي
2010 / 2 / 9 - 16:19     

في كتابه الجديد (النسر المحلّق)
رضا الظاهر يساهم في إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ
امرأة دافعت عن قناعاتها

كمال فهمي

في إطار مسعاه الى الاسهام في إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ وتقييم إنجازاتها الفكرية وسيرة حياتها الكفاحية أصدر الكاتب رضا الظاهر كتابه الجديد (النسر المحلّق) الذي يتأمل فيه المثال الذي قدمته روزا لوكسمبورغ طيلة حياتها كمفكرة ماركسية وثورية لامعة.
ويبدأ هذا الكتاب، الصادر مؤخراً عن دار الرواد، بفصل يحمل عنوان (صورة شهيدة الثورة)، وفيه يقدم المؤلف صورة مكثفة لحياة لوكسمبورغ القصيرة والمفعمة بالانجازات والمآثر التي اختتمت باستشهادها ورفيق كفاحها كارل ليبنخت يوم الخامس عشر من كانون الثاني عام 1919 على يد الكتائب الفاشية.
ويدرس الظاهر في كتابه نزاعات روزا لوكسمبورغ مع إدوارد بيرنشتاين، حيث انغمرت في واحدة من أهم الجدالات في ذلك الزمن، وهي المتعلقة بمسعى بيرنشتاين الى "إعادة النظر" بالماركسية. ويبقى رد لوكسمبورغ على بيرنشتاين في بحثها الموسوم (إصلاح اجتماعي أم ثورة) ـ 1899 إحدى الاجابات الأكثر إبداعاً على الأوهام التي يخلقها استقرار الرأسمالية.

وفي رسالة كتبتها عام 1908 وجهت نقداً لاذعاً لكارل كاوتسكي، وفيها قالت "سأكون، قريباً، عاجزة تماماً عن قراءة أي شيء كتبه كاوتسكي ... إنها سلسلة مقرفة من شبكات العنكبوت ... لا يمكن إزالتها إلا بحمام ذهني عبر قراءة ماركس نفسه".
ويرى الظاهر أنه في نواحٍ كثيرة كان نقد لوكسمبورغ لكاوتسكي في مقالة (النظرية والممارسة) أكثر أهمية حتى من نقدها لبيرنشتاين في (إصلاح اجتماعي أم ثورة). فقد حاول بيرنشتاين، صراحة، أن يعيد النظر بالماركسية عبر جعل النظرية تتوافق مع الممارسة الاصلاحية. أما كاوتسكي فقد واصل، من ناحية أخرى، الزعم بالاخلاص للماركسية الثورية حتى عندما قاد الحزب في طريق إصلاحي.

ويضيء المؤلف جوانب أساسية من خلاف روزا لوكسمبورغ مع لينين. ففي مؤلفها (قضايا تنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الروسية) ـ 1904 عارضت مركزية لينين المفرطة. وعلى الرغم من أن لوكسمبورغ أيدت، شأن لينين، مفهوم الحزب الطليعي، فانهما عالجا العلاقة بين الوعي الثوري والتنظيم باتجاهين مختلفين الى حد ما.
وبينما يعتبر نقد لوكسمبورغ عام 1904 لمؤلف لينين (ما العمل) معروفاً، فان المخطوطات الأخرى المكتشفة حديثاً تلقي ضوءاً جديداً على نقدها لمفاهيمه التنظيمية. ونجد الموقف الأكثر أهمية لفكرة لوكسمبورغ حول الحاجة الى الديمقراطية الثورية في مقالتها الطويلة (الثورة الروسية)، المكتوبة عام 1918، والمنشورة عام 1922، أي بعد رحيلها. وبينما توجه المقالة انتقادات قوية للثورة البلشفية في أكتوبر 1917، يتعين علينا أن نتذكر أن هذا العمل دفاع عن ثورة أكتوبر. وإذ كتب بينما كانت في السجن بسبب معارضتها للحرب العالمية، فانه أثنى على البلاشفة لجرأتهم ومبادرتهم. غير أنه في الوقت ذاته ـ وهذه النقاط هي التي أثارت الاهتمام الأكبر ـ انتقدت لوكسمبورغ، بحدة، عدداً من سياساتهم عند استلامهم السلطة. وكانت عميقة القلق من أن ميل البلاشفة لكبت حرية التعبير والصحافة والتجمع عرض للخطر الحركة ذاتها نحو مجتمع اشتراكي.

وفي الكتاب فصل يحمل عنوان (تراكم رأس المال)، وفيه يضيء المؤلف عمل لوكسمبورغ النظري الأعظم الموسوم (تراكم رأس المال: مساهمة في التفسير الاقتصادي للرأسمالية) الصادر عام 1913. ويشير الى أن هناك اتفاقاً واسعاً على أن هذا الانجاز يجسد واحداً من أشمل الجهود في تاريخ الماركسية لتفسير ما يصطلح عليه اليوم "عولمة رأس المال".

أما في فصل (كراسة جانيوس) فيذكّر المؤلف بتلك الكراسة الهامة التي كتبتها لوكسمبورغ عام 1915، وهي وثيقة فكرية ضد الحرب التي اندلعت عام 1914، وكتبتها تحت الاسم المستعار "جانيوس". وأدت هذه الكراسة، التي جرى تهريبها من السجن وطبعها عام 1916، بادانتها المريرة للحزب الاشتراكي الديمقراطي والأممية الثانية، دور محفز على إعادة تجميع القوى الثورية.
ولعل من بين أهم ما قدمه الظاهر في (النسر المحلّق) تلك الصفحات التي كرسها لاسهام روزا لوكسمبورغ في قضية النساء وإنجازاتها في جماليات الأدب.
فبينما كانت روزا لوكسمبورغ داعمة بقوة لحركات تحرير النساء العاملات عبر حياتها، فان الكثير من مساهمتها حجبته حقيقة أنها كانت، عادة، تعمل، خلف الكواليس، من خلال صديقتها الحميمة كلارا زيتكين، التي كانت قائدة حركة النساء الاشتراكيات الديمقراطيات الألمانيات، ورئيسة تحرير صحيفة (المساواة) واسعة الانتشار.
ويعتبر مقالها (مسألة تاكتيكية) ـ 1902 هجوماً لاذعاً على الاشتراكيين الديمقراطيين البلجيكيين الذين كان يهيمن عليهم الاصلاحيون، جراء قبولهم بالتخلي عن دعوتهم لحق النساء في الاقتراع بناء على طلب الليبراليين الذين كانوا في تحالف انتخابي معهم. وفي هذه المقالة تقول لوكسمبورغ إن تبني حق النساء في الاقتراع يمكن أن يهز ليس فقط أركان المجتمع ككل، وإنما أيضا نزعة التمييز "الخانقة" الموجودة بين قادة وقواعد الحركة الاشتراكية الديمقراطية.

وفي (خطاب الى المؤتمر الأممي للنساء الاشتراكيات) ـ 1907 دافعت لوكسمبورغ عن بقاء منظمة النساء في مقرها بشتوتتغارت، حيث يمكنها الحفاظ على وجود مستقل كان لها أن تفقده لو أنها انتقلت الى بروكسل، حيث يوجد مكتب الأممية الثانية.
ويشكل الخطاب الذي ألقته عام 1912 حول (الصراع الطبقي وحق النساء في الاقتراع) حجة قوية لاستمرار حركة النساء العاملات مستقلة عن الجمعيات الألمانية لنساء الطبقة الوسطى.
وأخيراً فان مقالتها (النساء البروليتاريات) المكتوبة عام 1914، بمناسبة يوم النساء العالمي، تقدم خطة اجتماعية تاريخية محركة حول اضطهاد النساء العاملات ومقاومتهن في الدول الصناعية وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث كانت النساء يصارعن من أجل حياتهن في ظل البربرية الكولونيالية والرأسمالية.
ونظرا لما تتمتع به هذه المقالات الأربع من أهمية تاريخية قام المؤلف بترجمتها عن كتاب (مختارات روزا لوكسمبورغ) الصادر بالانجليزية عام 2004.

ويلفت الظاهر الانتباه الى أنه على الرغم من أن مقالات روزا لوكسمبورغ حول جماليات الأدب والفن لا تشكل سوى جزء يسير من كتاباتها، فانها جديرة بالقراءة والتقييم. وفي فصل يحمل عنوان (في جماليات الأدب) سعى الكاتب الى إلقاء أضواء على هذه المقالات، وهي تقييماتها لشاعر بولندا العظيم آدم ميسكيفيتش، وروائي روسيا العظيم ليو تولستوي، وعرضها لسيرة حياة الشاعر والمسرحي الألماني يوهان شيلر، سوية مع تقييم للاشتراكي الألماني البارز فرديناند لاسال. وهي مقالات فائقة الأهمية ضمها كتاب (روزا لوكسمبورغ ـ كتابات سياسية وأدبية مختارة) الصادر عن دار نشر ميرلين برس بالانجليزية عام 2009.

وفي سياق التعرف الوجيز على مساهمتها في الثقافة الجمالية قرأ المؤلف البعد النقدي الابداعي الذي تجلى في رسائلها، والذي حفزها، أيضاً، على كتابة تقييمات مدهشة للأدب في مقالات هامة مثل (روح الأدب الروسي) و(تولستوي كمفكر اجتماعي) جسدت بعض آرائها الأساسية في النظرية والممارسة الثقافية الماركسية. وكل هذه الجوانب تضيء ذلك العنصر الابداعي والعميق لهذه الثورية التي اعتمدت على الأدب من أجل الالهام وإغناء الروح وهدوء البال.

والحق إن آراءها المتقدة حول غوته وشكسبير وتولستوي ودستوييفسكي وكثيرين غيرهم بحاجة الى دراسة وإعادة تقييم باعتبارها مساهمتها الأصيلة في ميدان سوسيولوجيا الأدب والجماليات الماركسية.
وليس من المدهش أن لوكسمبورغ المبدعة كانت تستجيب، باستمرار، لابداع الآخرين. وشأن ماركس كانت، أيضاً، تطرز رسائلها ومقالاتها بردود فعل على النصوص الأدبية للآخرين. ومرة أخرى شأن ماركس شمل مدى قراءاتها لغات عدة ـ الألمانية والفرنسية والروسية والانجليزية بشكل خاص.

وفي رسالة كتبتها من السجن الى سونيا ليبنخت في 5 شباط 1917 تقول إنه "يبدو لي أنني لست كائناً بشرياً على الاطلاق ... فأنا أشعر بصورة أكبر بأنني في البيت، في حديقة صغيرة ... في المروج حيث العشب ينصت الى أصوات النحل، أكثر مني في واحد من مؤتمرات حزبنا ... وعلى الرغم من كل ذلك فانني أشعر بأنني آمل حقاً أن أموت في موقعي، في معركة في الشارع أو في سجن".
إن "مروجها حيث العشب ينصت الى أصوات النحل"، ودورها المقاتل في اجتماعات ومظاهرات العمال، هما تجليان مترابطان للحلم ذاته الذي يمزج بين العنصرين ـ الغنائي التحريري، والسياسي المخلّص ـ في جدل ملهم.
ويقول المؤلف إن مفهوم لوكسمبورغ للحياة "الجديرة بأن تعاش" حدد مصيرها. فالحب والعمل، اللذان لا ينفصمان، يخلقان الحياة الحقيقية. وكانت في السابعة والأربعين، وهي في السجن، تعاني من المرض، عندما كتبت تقول إنه "بالنسبة الي أيضاً يظل الحب دائماً أكثر أهمية وقدسية من الشخص الذي يحفزه. لأن الحب يحول العالم الذي يحيط بنا الى حكاية بهية متألقة، ويطلق فينا الأسمى والأجمل، ويدع المرء يعيش بجذل ونشوة".

ويؤكد المؤلف على أن روزا لوكسمبورغ دافعت بلا مساومة وبصوت عالٍ عن قناعاتها. وبدفء إنساني ومزاج متقد كانت قادرة على كسب جميع من تعاملوا معها دون تعصبات. غير أنها واجهت الاذلال والحقد من أولئك الذين كانوا يحسدونها. ولم يفقد كفاحها المتفاني ضد الحرب، والراديكالية التي أصرت بها على الآصرة بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، أي شيء من قوتهما اليوم، حيث نحن بأمس الحاجة الى إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ واستيعاب فكرها العميق ومثال حياتها الساطع والملهم. وهذا هو جوهر ما سعى اليه الكاتب رضا الظاهر في كتابه الهام والممتع هذا.

وأخيراً، وليس آخراً، يؤكد الظاهر على حقيقة أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة تجدد الاهتمام بروزا لوكسمبورغ، سوية مع ظهور قضايا قديمة وجديدة مثيرة للجدل. وظلت نظرياتها تدرس من جانب الماركسيين وغير الماركسيين على حد سواء. وأصبحت لوكسمبورغ، التي وصفها لينين، عن حق، بأنها (النسر المحلّق)، بالنسبة لكثيرين رمزاً لحلم لم يتحقق بعد.