العائلة البطريركية الحديثة


فريدريك انجلز
2017 / 8 / 6 - 10:10     

" إن العائلة العصرية لا تنطوي على جنين العبودية (servitus) و حسب، بل أيضاً على جنين القنانة، لأنها مقرونة منذ بادئ بدء بفروض (خدمات) الزراعة. و هي تنطوي بشكل مصغر على جميع التناقضات التي تطورت فيما بعد على نطاق واسع في المجتمع و في دولته"(1).
إن شكل العائلة هذه يعني الانتقال من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج. فلأجل ضمان أمانة المرأة، و بالتالي لأجل ضمان أبوة الأولاد، توضع الزوجة تحت سلطة زوجها المطلقة، فإذا قتلها، فإنه لا يفعل غير أن يمارس حقه.
إن ضم العبيد إلى هذه العائلة و السلطة الأبوية هما العلامتان الجوهريتان اللتان تميزاه هذه العائلة. و لهذا كانت العائلة الرومانية النموذج النهائي الكامل لهذا الشكل من العائلة. إن كلمة familia لا تعني، في الأصل، المثال الأعلى للبرجوازي الصغير التافه المعاصر الذي يجمع في ذاته بين العاطفية و المشاجرات البيتية، بل إنها لا تعني بادئ ذي بدء عند الرومانيين الزوج و الزوجة و الأولاد، بل تعني العبيد فقط. إن كلمة famulus تعني العبد البيتي، و كلمة familia تعني مجموعة العبيد الذين يخصون رجلاً واحداً. و حتى في زمن غايوس، كانت familia, id est patrimonium (أي الميراث) تورث بالوصية. و قد استنبط الرومانيون هذا التعبير لأجل تعريف الهيئة الاجتماعية الجيدة التي كان رئيسها سيداً على المرأة و الأولاد و عدد معين من العبيد و كان يملك، بحكم السلطة الأبوية الرومانية، حق الحياة و الموت على جميع هؤلاء الأشخاص الخاضعين له.فلم يكن الزواج الاحادي
أبداً ثمرة الحب الجنسي الفردي، و لم يكن يجمع بينها و بينه أي جامع على الإطلاق، لأن الزواج ظل كما من قبل زواج انتفاع. و قد كانت أول شكل للعائلة لم يرتكز على الشروط الطبيعية، بل ارتكز على الشروط الاقتصادية، و نعني بها انتصار الملكية الخاصة على الملكية المشتركة البدائية و العفوية. سيادة الزوج في العائلة و ولادة أولاد لا يمكن أن يكونوا غير أولاده من دمه و صلبه، و لا بد لهم أن يرثوا ثروته في المستقبل، -ذلك كان الهدف الوحيد من الزواج الأحادي، كما نادى به اليونانيون بلا لبس و لا إبهام. و ما عدا ذلك، كان الزواج الأحادي عبئاً عليهم و واجباً حيال الآلهة و الدولة و أجدادهم بالذات، كان ينبغي أداؤه. و في أثينا كان القانون لا يفرض الزواج و حسب، بل و أداء الزوج الحد الأدنى مما يسمى بالواجبات الزوجية. و عليه لا يدخل الزواج الأحادي إطلاقاً في التاريخ بوصفه اتحاداً اختيارياً بين المرأة و الرجل، و لا حتى بوصفه الشكل الأعلى لهذا الاتحاد. بل بالعكس. فهو يظهر كاستعباد جنس من قبل الآخر، كإعلان لتناقض بين الجنسين لم يعرفه التاريخ كله من قبل.
و إني أجد في مخطوطة قديمة غير مطبوعة وضعتها أنا و ماركس في عام 1864 ما يلي:وإن أول تقسيم للعمل كان بين الرجل و المرأة لأجل إنتاج الأولاد"(2).
و بوسعي الآن أن أضيف إلى هذا القول: إن أول تضاد بين الطبقات ظهر في التاريخ يصادف تطور التناحر بين الزوج و الزوجة في ظل الزواج الأحادي، و أول اضطهاد طبقي يصادف استعباد جنس النساء من قبل جنس الرجال. لقد كان الزواج الأحادي تقدماً تاريخياً كبيراً، و لكنه يدشن في الوقت نفسه، إلى جانب العبودية و الثروة الخاصة، تلك المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى أيامنا، و التي يعني فيها كل تقدم تراجعاً نسبياً، و التي يتحقق فيها ازدهار و تطور البعض بآلام البعض الآخر و قمعه. إن الزواج الأحادي إنما هو هذه الخلية من المجتمع المتمدن التي تمكننا من دراسة طبيعة التناحرات و التناقضات المتطورة تماماً في قلب هذا المجتمع
و هكذا أخذت البرجوازية الصاعدة- و لا سيما في البلدان البروتستانتية حيث تزعزع النظام القائم أكثر مما في البلدان الأخرى- تعترف أكثر فأكثر، بحرية إجراء العقد فيما يتعلق بالزواج أيضاً، و تمارس هذه الحرية بالطريقة الموصوفة أعلاه. لقد ظل الزواج زواجاً طبقياً، و لكن الطرفين المعنيين نالا في حدود طبقتهما حرية معينة في الاختيار. و على الورق، في الأخلاق النظرية و في الوصف الشعري، لم يقرر أي مبدأ بنحو أثبت و أرسخ من المبدأ القائل بلا أخلاقية كل زواج لا يقوم على الحب الجنسي المتبادل و على موافقة الزوجين الحرة حقاً و فعلاً. و بكلمة، نودي بزواج الحب من حق الإنسان، و ليس فقط من []** droit de l`homme ، بل أيضاً و على سبيل الاستثناء من ***[] droit de la femme.
و لكن حق الإنسان هذا كان يختلف من ناحية عن جميع الحقوق الأخرى المسماة بحقوق الإنسان. و بما أن هذه الحقوق لم تشمل أيضاً في الواقع غير الطبقة السائدة،-الطبقة البرجوازية،- و لم تطبق مباشرة أو بصورة غير مباشرة بالنسبة للطبقة المظلومة، -البروليتاريا،- فإن سخرية التاريخ تبرز هنا من جديد. فإن الطبقة السائدة لا تزال خاضغة لسلطان مؤثرات اقتصادية معينة، و لهذا لا تقع في بيئتها زواجات معقودة فعلاً بحرية إلا بصورة استثنائية، بينا هذه الزواجات، كما رأينا، هي القاعدة في بيئة مظلومة.
و عليه، لا يمكن للحرية التامة في عقد الزواج أن تتحقق بصورة تامة و عامة إلا بعد أن يقضي إلغاء الإنتاج الرأسمالي و علاقات الملكية التي خلقها الإنتاج الرأسمالي، على جميع الاعتبارات الثانوية، الاقتصادية، التي لا تزال تؤثر الآن تأثيراً كبيراً في اختيار الزوج و الزوجة. و آنذاك لن يبقى أي دافع غير دافع الميل المتبادل.
و بما أن الحب الجنسي هو بطبيعته حب فردي صرف لا منازع فيه،- مع أنه لا يراعيه الآن بطبيعته هذه غير المرأة،- فإن الزواج القائم على الحب الجنسي هو إذن، بطبيعته، زواج أحادي. و لقد رأينا كم كان باهوفن على حق حينما اعتبر الانتقال من الزواج الجماعي إلى الزواج الأحادي خطوة تقدمية قامت بها النساء أساساً. إلا أن الخطوة التالية من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج كانت هي وحدها من صنع الرجال. و من حيث جوهر الأمر، أدت هذه الخطوة تاريخياً إلى تردي وضع المرأة و إلى تسهيل الخيانة الزوجية من جانب الرجال. و لذا، ما أن تزول الاعتبارات الاقتصادية التي كانت النساء يحتملن بسببها هذه الخيانة العادية الأليفة من جانب الرجل (الاهتمام بمعيشتهن بالذات و لا سيما بمستقبل أولادهن)، حتى تؤدي مساواة المرأة في الحقوق، المحقق بفضل ذلك، إلى الأمر التالي، إذا أخذنا بالحسبان كل الخبرة السابقة، و هو أنها ستيسر حقاً و فعلاً أحادية الزواج عند الرجل أكثر إلى ما لا حد له مما تيسر تعدد الأزواج عند النساء.
و لكنه في هذه الحال ستزول بكل تأكيد من أحادية الزواج تلك السمات المميزة التي طبعها بها نشوؤها من علاقات الملكية، و هذه السمات هي، أولاً، سيادة الرجل، و ثانياً، استحالة فسخ الزواج. إن سيادة الرجل في الزواج هي مجرد نتيجة لسيادته الاقتصادية، و ستزول من تلقاء ذاتها مع هذه الأخيرة. أما استحالة فسخ الزواج، فهي جزئياً عاقبة للظروف الاقتصادية التي نشأت في ظلها أحادية الزواج، و جزئياً تقليد من ذلك الزمن الذي لم تكن قد فهمت فيه بعد الصلة بين هذه الظروف الاقتصادية و أحادية الزواج فهماً صحيحاً و الذي كان فيه الدين يفسر هذه الصلة تفسيراً مشوهاً. إلا أن استحالة فسخ الزواج الاستحالة الظاهرية تنتهك في الوقت الحاضر في آلاف الأحوال. و إذا كان الزواج القائم على الحب هو وحده الزواج الأخلاقي، فإنه وحده يبقى كذلك ما دام الحب قائماً. و لكن مدة شعور الحب الجنسي الفردي تختف كثيراً باختلاف الأفراد، و لا سيما عند الرجال، و حين يستنفد كلياً أو يحل محله حب متأجج جديد، يغدو الطلاق عمل خير سواء بالنسبة للطرفين أم بالنسبة للمجتمع. و لكنه ينبغي فقط تجنيب الناس ضرورة الغوص في وحل دعوى الطلاق.
و لذا، إن ما يمكننا أن نفترضه الآن فيما يتعلق بأشكال العلاقات بين الجنسين بعد القضاء العتيد على الإنتاج الرأسمالي، يتسم على الأغلب بطابع سلبي، و يقتصر في أكثرية الأحوال على ما سيزول. و لكن أي عناصر ستحل محل العناصر الزائلة؟ إن هذا سيتقرر عندما ينمو الجيل الجديد، أي جيل من رجال لن يتأتي لهم أبداً في الحياة أن يشتروا المرأة بالمال أو بوسائل اجتماعية أخرى من وسائل السلطة، و جيل من نساء لن يتأتى لهن أبداً في الحياة أن يستسلمن لرجل بدوافع غير دافع الحب الحقيقي، و أن يمتنعن عن معاشرة الرجل المحبوب، خوفاً من العواقب الاقتصادية. و حين يظهر هؤلاء الناس، فإنهم لن يأبهوا أبداً لما ينبغي عليهم أن يفعلوا حسب الاعتبارات الحالية، فإنهم سيعرفون بأنفسهم ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، و سيرسمون وفقاً لذلك رأيهم العام في سلوك كل فرد بمفرده، و هذا كل ما في الأمر.


كتب بين أواخر آذار (مارس) و 26 أيار (مايو) عام 1884.

صدر في كتاب على حدة في زوريخ، عام 1884.

يصدر حسب نص الطبعة الألمانية الرابعة لعام 1891.



التوقيع: فريدريك إنجلس

ترجمة الياس شاهين .
دار التقدم موسكو
اعداد للنشر
جاسم محمد كاظم
[email protected]
مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار
http://www.ahewar.org/lc/

(1)المقصود هنا بحث كوفالفسكي " الحق البدائي. الطبعة الأولى. العشيرة". موسكو 1866. في البحث يستشهد بمعطيات أوردها أروشانسكي في عام 1875 و يفيمنكو في عام 1878 عن المشاعة العائلية في روسيا.

(2)يورد إنجلس فكرة ظهرت في مؤلف ماركس و إنجلس "الإيديولوجية الألمانية".