الماركسية أفق مستقبلي لكل الثقافات


خليل المياح
2010 / 2 / 7 - 13:24     

إنّ الفلسفة هي تصورٌ ما للعالم، وهذا تعريف شائع، والأخذ به يعني أن ثمة أفكاراً نأخذ بها تدور حول الإنسان والمجتمع والتاريخ والعالم، بشرط أنْ ينتظمها تصور واحد.
والتأويل الماركسي يتناول أن البشر يعون مشاكلهم عن طريق إدراك التعارض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج على صعيد الأيديولوجيا، لكنها أي الفلسفة الماركسية تنوي إنجاح المشروع الإنساني بتغيير الشرط البشري، ولا تكتفي بتأويل التاريخ.
وهنا يتحقق لها المشروع الديمقراطي التحرري بعد أن تتجاوز التأويل التاريخي لكي تُدخل الناس إلى ملكوت الحرية الحقيقي.
والفلسفة الماركسية تعدّ نظرية مطلقة للتأريخ مؤنسنة، لكنها ترفض كل فلسفة أخلاقية تُطلب في حياة أخرى، أي بمعنى البحث عن مغزى لهذه الحياة الأرضية!
وحتى لا نقع في شباك النظرة المادية العاميّة مثل أولئك الذين نبذوا نظرية القيمة وتناسَوْا أنّ (قوة العمل) التي يبذلها الإنسان هي التي تنتج (القيمة) فعلينا إدراك أن المفهوم الأساسي في الفلسفة هو (البراكسيس) الذي يجعل البنية الفوقية تولــّد منجزات جديدة، وبالتالي تشكل عصب الجدل التاريخي الذي يبحث في نمو التناقضات بين الإنسان والمادة.
ولو أنّ المـُصلح (لوثر) يظهر لنا في عصرنا هذا، فهو بلا شك سيـُدين التأويل الماركسي بوصفه ميلاً أحمق يخالف الكتاب المقدس الذي يشير إلى أنّ (يوشع) قد أمر الشمس أنْ تستقر!
والماركسية كمنهجية حديثة في علم التاريخ تنفي التعالي (الترانسندنتالية)، وهي تأخذ الأحداث ضمن مشروطيتها المادية الثقيلة.
لما كانت الماركسية كعلم اجتماعي يقودُنا إلى الاستبصار النقدي، تجدنا مؤمنين ومتفائلين بغدنا الاشتراكي، والطرح الديمقراطي الراديكالي، لاسيما أن المستقبل بات حقلاً مفتوحاً للاكتشاف والتجريب، وبالتالي لن يتهمنا أحد بأن تركيبنا الفكري السياسي هو واحد موحد وفريد!
ولماكانت الرؤيا والسرديات المتعددة أتت بسبب من العولمة التي يرى البعض أنها قد سفـّهت الاعتقاد بأن الحلول قائمة وأنّ مناهج البحث الاجتماعي باتت عقيمة وتعاني أزمة عميقة، فإننا نقف إلى جانب هيجل بهذا الصدد إذ نراه يقول (إن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق).
عليه نرى أن عقلنا الاستطلاعي المستقبلي الذي هو عقل ما بعد الحداثة ومنهجنا العلمي لا يثير الشفقة ولا الازدراء وله القدرة على تفسير الظواهر التي نعيش.
وتأسيساً على ما جاء آنفاً تجدنا لا نستجيب للفوبيا من الأنطولوجيا الشيوعية أبداً، وسنبقى مسكونين بهاجس الأفق الاشتراكي حلاً لإشكالياتنا البشرية.
والجميع يعلم أننا كمثقفين ننظر إلى الدياليكتيك من الداخل، خلافاً للنظرة البرانية لأنشتاين، إذ اتخذ في فلسفته مواقف مثالية على غرار (أرنست ماخ) وينتهي إلى ذاتية الزمان إذ لازمان قبل الإنسان وساعاته!
لكن يبقى صحيحاً أنّ زمننا البرجوازي هذا هو زمان مضطرب، والكيد العولمي يحيق بنا ويبقى قدرنا تصحيح المسار الكوسموبوليتي الكوني اللعين!
ومعلوم أن جوهر الممارسة الإيديولوجية البرجوازية هي اعتيادها قلب السبب أثراً والأثر سبباً في تحليلها للواقع الاجتماعي.. وهكذا راحت تـُخفي سيطرتها الطبقية، وصدعت بالقول إن التراث هو الذي يحيي ويميت، لتغطي بهذه الأطروحة على موضوعة الإنتاج الرأسمالي، وبالنتيجة تغطي على الأسباب الفعلية لمظاهر التخلف!
وعموماً فالمنطق المثالي يرى في الفكر عامل النهضة، وأيضاً عامل التخلف، وهو المبدأ التفسيري لحركة التأريخ الاجتماعي والعقل العربي كلما حاول الوثوب إلى العلمية سقط في الجدلية الهيجلية المغلقة، في حين أن الماركسية ترى أنه ما من واقع ينفصل عن النمو الجدلي للتناقضات بين الإنسان ووسطه المادي.
والوسط المادي هنا هو الطبيعة، كما يراها (غرامشي)، وقد أنسنها الإنسان وسيطر عليها بالقوى المنتجة.
وهنا نجد مناسباً التطرق إلى رؤية علي الوردي (بإصلاح الأذهان قبل البدء بإصلاح البلاد). وهو يرى أن البشر سيديمون النزاع حتى بتوفر الموارد، وهي محاولة للتفلسف خارج نطاق كل علم!
وقبل الوردي وفي عالمنا الإسلامي كان الفقهاء والكتاب والصوفيون يؤكدون نزعات دائمة وثابتة للفكر الإسلامي، مع أنها حلول خادعة ولكنها فعـّالة بشكل مدهش، بُغية إغراق معالم المأسوي في حياتنا وطمسه!
إنهم كما أسلفنا ينظرون إلى الدياليكتيك الاجتماعي من الخارج بصورة تجريدية ولا يريدون الخروج من التخلف برفض الرأسمالية طريقاً للحياة!
وفي مجتمعاتنا العربية يقف العقائديون الجُدد من الماركسية موقف (ديكارت) ومنهجه (الكوجيتو): (أنا أفكر إذا أنا موجود) فقد عرضه لكي يشد من أزر الديانة المسيحية غداة تحريم الكنيسة لمؤلفات غاليليه!
وعندما ثار المصلح كالفن ضد الذين أيّدوا كوبرنيكوس بالضد من الكتاب المقدس، كان لابد للعلم الحديث أنْ يصطدم بسلطة الدين.
وهكذا سادت النزعة النقدية عصر التنوير كرد فعل لسلطة الدين، وأخضعت الوقائع التاريخية المذكورة في الكتاب المقدس للنقد التاريخي.
وكان مونتيسكيو يقول: من السخف أن تُرد وقائع التاريخ إلى المصادفة العمياء , فسلوك البشر تحكمه مبادئ مشتقة من طبيعة الأشياء. وصار بإمكان المؤرخ أن يفسر اغتيال القيصر على غرار الجيولوجي إزاء الزلازل!
وحينما قال سقراط: إن تحطم القيثارة لا يعني فناء النغم، قال فقهاء برجوازيون: ربما كان للماركسية حظوظ ومستقبل في الدول النامية، إنّ الشيوعية قد خسرت المعركة الفكرية مع الغرب!
وهاجم ريمون آرون الماركسية وقال بـ(نهاية عصر الإيدولوجيا).
وكان ثمة أصوات في أوربا والولايات المتحدة تشير إلى أنّ الحقائق الاقتصادية والسياسية الجديدة تقدمت على طروح آدم سمث وكارل ماركس!
لكن ثمة أصواتاً أخرى صريحة قالت: إن موت الشيوعية المزعوم قد انتزع القوة من الراديكالية وأضعف الليبرالية!
وحتى فوكوياما راح يناقض نفسه إذ أنهى مقالته بلون من الحنين، بهذه الكلمات: ستكون نهاية التاريخ حدثاً جد حزين.
وهنا في ساحتنا الساخنة ينسى المتأسلمون أنّ الإسلام ليس كياناً جوهرانياً لا يتغير ولا يتبدل على مدار التاريخ، ويصبح جديراً بالتفحص والتعرف إلى كيفية إنتاج (المعنى) في المجتمعات البشرية في التراث ذاته، وأنه ليس أزلياً بل يتعرض للتحول والتجدد بفعل العوامل التاريخية.
وتجدر الإشارة إلى أن الفكر العربي المعاصر المكتوب باللغة العربية ظل لاهوتياً حتى عندما كان يستخدم ألفاظ الثورة والاشتراكية والتقدم (مثلاً فكر حزب البعث)، إذ الواقع أن النقد الجذري للبنية اللاهوتية المسيطرة على الفكر العربي منذ مئات السنين لم يحصل، وبالتالي لم يدخل هذا الفكر إلى دائرة الحداثة الفعلية!
أمّا الأنظمة السياسية التي هيمنت بعد الاستقلال فقد أكدت ضرورة تعليم الدين في مدارسها بُغية بناء الشخصية الوطنية التي فككها الاستعمار سابقاً (الجزائر مثلاً). وفات تلك الأنظمة إمكانية أنْ يتحول التعليم التقليدي للدين إلى إيديولوجيا ظلامية!
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة فريسيين ممن ركبتهم روحية الإقصاء المكارثية يريدون لنا البراءة من الإرث الإنساني الماركسي الممثل بالمادية التاريخية والمادية الجدلية، لذا رأينا مجاهد عبد المنعم مجاهد يكتب: الماركسية فلسفة غير إنسانية!
وسبق لهرطقة مماثلة في عصر سلاجقة القرن الثالث عشر أنْ هدرت دم المعتزلة ببيان صادر عن الخليفة القادر آنذاك!
والكُثر منّا يعرف أن للماركسية إغراءآت متعددة، لكن الأرأس من بينها ربما يكمن في أنها تعبر عن منظومة من القيم وتجيب عن السؤال: ماالذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟
أما قوة الماركسية فتكمن في تأكيدها استشراف الإمكانية السياسية باعتبارها متجذرة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج.
لكن ينبغي عدم إغفال أنّ ثمة (شك أكال) ينتاب مثقفين كـُثراً محسوبين على اليسار الاشتراكي وهم غير منخرطين في العملية السياسية، ويرون أنفسهم خوارج محاصرين بالأصولية البائسة التي يرفع شعارها الظواهري عن أن الإرهاب عقيدة إسلامية دونها الكفر!
وأصبح أولئك المثقفون عدمييّ النزعة مثل أقرانهم من أصحاب النظرة (الكلبية) اليونانية القديمة، التي قوامها أن الأفكار تستخدم لمصلحة القوة والقهر، وهي التي تقود العمل الثقافي، فالحقيقة كانت دوماً غائبة مهجورة!
ومع ذلك ورغم الأقاويل المتعددة ترانا نهزج بحدوس أنْ: ليس ثمة مستقبل دون ماركس