كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (14) ثورة ومغامرات وكبرياء


عبد الحسين شعبان
2010 / 2 / 2 - 22:04     

في 10 مارس 1952 دعمت المخابرات المركزية الأميركية انقلاباً حصل في هافانا، حين قاد الجنرال باتيستا هجوماً للإطاحة ببعض هوامش الحريات التي كانت متوافرة، حيث ألغيت العديد من الأنظمة والقوانين التي تؤمّن حرية الصحافة وبعض الحقوق والحريات العامة والفردية، وحلّت بالبلاد دكتاتورية جديدة سافرة، الأمر الذي سبّب خيبة أمل كبيرة للكوبيين، لاسيَّما لجيل الشباب المتطلع إلى الحرية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية.
وخلال أحاديثي مع العديد من الأوساط السياسية والأكاديمية والناس البسطاء في كوبا وخارجها، كان دائماً ما يُذكر باتيستا، وإلى جانبه، بل وندّه هناك من يذكر شاباً مفعماً بالحيوية كان قد تخرّج لتوّه في كلية الحقوق، ولم يبلغ عمره أكثر من 25 عاماً، فقد ولد كاسترو في عام 1927، وسيصبح هذا المحامي الشاب من أكثر ثوار العالم شهرة بعد قيادته لمجموعة من الشبّان، حيث كان كاسترو قد يئس من الأحزاب القائمة بما فيها "حزب الحقيقة" و "الحزب الشيوعي"، فأسس مع مجموعة من رفاقه سيبرز فيهم لاحقاً تشي جيفارا وراؤول كاسترو شقيقه، حركة أطلق عليها اسم "حركة 26 يوليو" كان هدفها الإطاحة بالنظام الدكتاتوري عبر اختيار طريق الكفاح المسلح وسيلة لذلك.
وبعد نحو عام من التدريب والتهيئة، اجتمع تحت قيادة كاسترو نحو 150 شاباً، انتقلوا من هافانا ليقوموا بهجومهم على ثكنة مونكادا في سنتياغو دي كوبا، مستهدفين الاستيلاء على السلاح واللجوء إلى الجبال للاحتماء بها ومن ثم الزحف على المدن، حسبما اقتضت خطة الكفاح المسلح.
وكان اللجوء إلى جبال السيرامايسترا، وهي أعلى سلسلة جبال في كوبا وتمتد بكتلة واحدة على طول البحر الكاريبي (نحو 150 كم وعرض 30 كم)، يستهدف الاختباء في جبال وعرة وغير مأهولة ومغطّاة بغابات يصعب اجتيازها، ولذلك فهي تؤمن ملجأً يمكن للثوار الاختباء فيه.
لكن فشل الهجوم دفع البلاد إلى المزيد من القمع والملاحقة، وتمكّن فيدل كاسترو من الهروب إلى خارج كوبا، وقد حُكم عليه وعلى 30 من رفاقه في جزيرة الصنوبر، إلى أن حان موعد الانتخابات العامة التي فرضها الرأي العام على حكومة باتيستا، والتي أُجريت عام 1955، حيث صوّت المجلس الجديد بالعفو عن فيدل كاسترو ورفاقه، وعند خروجهم من السجن غادروا البلاد والتجؤوا إلى المكسيك، وهناك تعرّف على جيفارا.
وخلال عام كامل استجمع كاسترو خطته ورجاله، ليعودوا بسرية تامة إلى الجزيرة وكان عددهم 82 شخصاً، ولم ينجُ منهم سوى 21 عند وصولهم إلى الشواطئ الكوبية. وخلال تلك الفترة سعت واشنطن لوضع هيمنتها بالكامل على أميركا اللاتينية، فقادت تحركاً لصالحها في غواتيمالا عام 1954، وقمعت فيه الحركة الوطنية الغواتيمالية المتطلعة إلى الديمقراطية. في تلك الظروف وتحت تلك المخاوف وتقاطع الأجندات، انطلقت الثورة الكوبية لتشق سكون أميركا اللاتينية آنذاك، الأمر الذي لم تحسب له واشنطن الحساب الكافي، لاسيَّما أن الثورة جاءت من حديقتها الخلفية، وإذا بها تصبح مصدر إزعاج تواجهه كل يوم وتنشغل به على نحو كبير، وبخاصة إشعاعاتها على أميركا اللاتينية!
لم يكن الانقلاب العسكري "السلمي" الذي قاده باتيستا هو الحدث الأول الذي حدث للجزيرة، فتاريخ كوبا شاهد على التدخل والحروب الإسبانية، والأميركية لاحقاً، حيث شهدت موجات إمبريالية للتدخل حتى بعد إحراز استقلالها من الاستعمار الإسباني الناقص، فوقعت مثل التفاحة الناضجة في حضن الولايات المتحدة، وتشهد على ذلك تدخلات واشنطن بتوقيع اتفاقية بلات عام 1901 التي أرادت حصد نتائج حروب التحرر الوطنية الكوبية فسعت لكي تقع التفاحة في سلّتها بعد أن تخلّصت من إسبانيا، ومن ثم تدخل السفير الأميركي سومتر 1933 للهيمنة وإملاء الإرادة، وصولاً إلى حكم باتيستا الذي أطاحت به الثورة في مطلع عام 1959.
في ليلة مكسيكية باردة، جمعته بكاسترو كما يروي جيفارا في مذكراته ، ودار بينهما نقاش حول السياسة الدولية وشؤون وشجون أميركا اللاتينية طوال الليل حتى ساعات الصباح الباكر، أعلن بعدها جيفارا انضمامه إلى العصبة الثورية التي كان قد بدأ كاسترو بتأسيسها، وقام معه برحلته الأثيرة من المكسيك، وفي المركب غرانما، وصولاً إلى الشواطئ الكوبية، ومن ثم بدء عمليات الكفاح المسلح في جبال السيرامايسترا وصولاً إلى هافانا. حدث ذلك بعد سقوط نظام جاكوب أربنز في غواتيمالا على إثر عدوان واشنطن، بإشراف جون فوستر دالاس محامي شركة الفواكه المتحدة، الذي يحمل عدداً من أسهمها كأكبر مؤسسة إمبريالية في غواتيمالا.
يومها جاء كاسترو إلى أرض المكسيك المحايدة ليجهّز حملته المضادة بالعودة إلى هافانا على أسنّة الحراب، وقد تعرّض الثوار إلى هجوم مباغت. وكانت مجموعتان من الشرطة المكسيكية تبحثان عن فيديل كاسترو بإيعاز من باتيستا، وسقط أعضاء المنظمة في أيديهم لدى مهاجمتهم المزرعة بالقرب من ضاحية المدينة، وكما يقول جيفارا في مذكراته" تشي جيفارا- يروي مراحل الثورة الكوبية، إعداد سعيد الجزائري، دار الجيل، بيروت، 2004"، وجدنا أنفسنا جميعاً في السجن... وقضى بعضنا 57 يوماً فيه وكان خطر تسليمنا لحكومتنا معلّقاً فوق رؤوسنا، وبسبب اكتشاف جاسوس بين صفوف الثوار، كما يروي جيفارا، فقد كان ينبغي عليهم القيام بنشاط محموم لإعداد المركب، الذي سيتم تخليده كرمزية كبيرة، وتحت اسم "غرانما" وينطلق يوم 25 نوفمبر 1956 حاملاً على ظهره 82 ثائراً وبضعة بنادق وأعتدة وألبسة عسكرية. وفي الساعة الثانية صباحاً كانت كلمات كاسترو تتردد "سنتحرر أو نستشهد" وظلّ صداها مخيّماً على أجواء الثورة حتى تحقق النصر، بل إن بعض الحركات الثورية كانت تختتم بياناتها بشعارات: الموت أو النصر.
لعل ساعة الانطلاق نحو الشواطئ الكوبية لبدء الكفاح المسلح كانت مثيرة ومدعاة للقلق والتأمل، فقد أطفأوا أنوار مركب غرانما، وتركوا على عجالة مرفأ توكسبان، لكن دوار البحر سرعان ما داهمهم، ويصف جيفارا وضعهم بالمحزن المثير للقرف بالقول: رجال وجوههم كالحة من الخوف والقلق ويمسكون بطونهم بأيديهم من الغثيان.. ثيابهم ملوثة بالقيء... وبعد مسيرة مضنية وإلقاء جزء من حمولة المركب لتخفيف الوزن يصلون إلى الشواطئ الكوبية بطريق استدارة كبيرة استمرت لبضعة أيام حيث وصلوا إلى البر الكوبي..
يقول جيفارا: كنّا جيشاً من الظلال والأشباح التي تتقدم كأنها مدفوعة بقوة بدنية غامضة، حيث تعرّضنا للجوع ودوار البحر لمدة 7 أيام، ثم لمدة ثلاثة أيام مريعة على الأرض، في بعض المستنقعات، لاسيَّما بعد هجوم قوات باتيستا عليهم وحصدها أرواح العشرات منهم لدرجة أن من تبقّى على قيد الحياة، كادت قواه أن تخور، وأن بعضهم كان جريحاً، لدرجة أن جيفارا الذي أصيب بجراح أيضاً، فكّر بالموت بأن يترك نفسه عند جذع شجرة ويستعد لإنهاء حياته بكل كبرياء، مثل بطل جاك لندن الذي عرف أنه محكوم عليه بالموت متجمداً وسط ثلوج آلاسكا، فاختار طريقاً آخر أقصر منه.
بعد فترة وجيزة تجمّع من تبقى من فلول الثوار المنتشرة دون هدى ما وكانت نقطة الالتقاء هي معرفتهم بأن كاسترو ما زال على قيد الحياة، ووصلوا إليه بواسطة بعض القرويين، وكان أن خططوا لمعركة سريعة لتحسين المعنويات، وتحقق لهم ما أرادوا حين كسبوا معركة لابلاتا التي انتصروا فيها في 17 يناير 1957 أي بعد 6 أسابيع من وصولهم إلى الشواطئ الكوبية، حيث هاجموا الثكنة الصغيرة التي تقع على مصب نهر لابلاتا في سيرامايسترا، تلك المعركة التي انتشرت أخبارها مثل النار في الهشيم، الأمر الذي عاظم من معنويات الثوار وزاد من ثقتهم بأنفسهم وعزز من قدراتهم. ولعل تلك المعارك التي استمرت منذ أواخر عام 1956 وأوائل عام 1957 وحتى الأول من يناير 1959 (يوم كان الإعلان عن انتصار الثورة) إنما تعيد إلى الذاكرة الحروب والتحديات التي تعرّضت لها كوبا قبل الثورة وما بعدها.