كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 12 - يوميات المغامر النبيل


عبد الحسين شعبان
2010 / 1 / 18 - 18:40     

أينما ذهبت في كوبا فهناك من يحدّثك عن الشخصية الأثيرة التي كلما ابتعد موسم رحيلها ازدادت قرباً، فقد كان لها سحر خاص ظلّ يفيض على كل من يتطلع إلى حياة جديدة، لاسيَّما من الشباب الحالم، الذين ما فتئوا يستعيدون ذكرى المغامر النبيل، وكأنها طيف، طالما تمنّوا أن يكون قريباً من اليقظة، فقد طبع حياتهم كلها بأحلام غامضة، وردية، هكذا يحدثني أحد الشباب في حانة أرنست همنغواي في هافانا "حانة بودغيتا دل ميديو" فقد حدس شكل ملامحنا الشرق أوسطية وربما سحنتنا العربية، فأراد أن يتعرّف علينا أو يثرثر معنا، وسرعان ما انضمت إلينا فاتنة حسناء، لكن حاجز اللغة حال بيننا وبينها. يقول الشاب الكوبي بإنجليزية طليقة: رغم أن تشي جيفارا غادرنا سريعاً، لكن صورته وصوته وابتسامته لا تزال تعيش معنا.
لقد أعادني هذا الحديث إلى ما سبق أن قرأته عن مغامراته التي حاول تدوينها لاحقاً في رحلته الشهيرة لعبور القارة الأميركية الجنوبية. وبفضول معرفي ورغبة في اجتراح المغامرة كنّا نحاول أن نجد طريقنا الخاص، بإعلان تمردنا ورفضنا النمطية والرتابة والمألوف بما فيها شكوكنا أحياناً بماركسية معلّبة أو وصفة جاهزة، في حين اعتبرنا جيفارا ناقداً لحدود الجمود والتحجر، طامحاً في تجاوز السائد، حتى وإن كان ذلك جزءا مما كنّا نعتقد فيه.

كيف نصنّف "يوميات دراجة نارية" وهو عنوان كتاب عن رحلة جيفارا في أميركا اللاتينية، هل ندخله في أدب الرحلات والرحّالة، وهو ما حاول المشروع الجغرافي العربي الذي يشرف على إصدار سلسلته الشاعر نوري الجراح، الإجابة عليه في تقديمه الذي كتبه محمد أحمد السويدي عن "ارتياد الآفاق" فضمّه إلى مجموعة المؤلفات التي وضعها الرحالة والجغرافيون العرب والمسلمون، وإن كانت رحلة جيفارا من طراز خاص ولغايات أخرى.
إن يوميات جيفارا في تجربته الأميركية اللاتينية والتي قطع فيها مع صديقه ألبرتو غرانادو على دراجة نارية نحو 4500 كيلومتر، لم تكن مغامرة فحسب، مدروسة أو غير مدروسة، بل كانت تطلع شاب إلى المعرفة واستعداده لاجتياز الصعاب، لإثبات التميّز، وبقدر ما في المسألة من جدّية، كان فيها الكثير من عناصر السخرية، إزاء الواقع، وإزاء ما صادفه من تحدّيات، وإزاء نفسه في الكثير من الأحيان، لكن تلك الرحلة كانت بروفة أولية ضرورية لمغامرة أكثر خطورة ومسؤولية لتشمل العالم كله هذه المرّة، مبشراً بالثورة والحرية والتمرد على ما هو سائد، طامحاً في عالم جديد أكثر عدلاً.
بواسطة الدراجة النارية جاب جيفارا مجتمع أميركا اللاتينية، وهو الطبيب الذي وجد المرض والتخلف والأمية منتشرة من جنوب القارة وصولاً إلى شمالها، وفي الشمال كانت أقلية صغيرة متنفذة تتمتع بالخيرات والموارد، ناهبة شعوب أميركا اللاتينية، واضعة كل ما تنتجه سواعد الملايين في خدمتها.
كان الطبيب الأرجنتيني الشاب ينتقل من على ظهر دراجته النارية مع صديقه من الأرجنتين إلى شيلي، ومنها إلى بوليفيا وبعدها يصل إلى بيرو ومنها ينتقل إلى بوليفيا ثم إلى فنزويلا، ولو اطّلعنا على خارطة الرحلة، لاسيَّما عبر دراجة نارية ليست على ما يرام، لاكتشفنا أية إرادة أسطورية نفّذت ذلك، وأية مفاجآت وتحديات واجهته، وكيف تعامل في ظروف بالغة القسوة والحساسية أحياناً، بكل ثقة بالنفس وبالسخرية، والخروج على المألوف.
هكذا التهمت الدراجة آلاف الكيلومترات في أميركا اللاتينية وصولاً إلى "سرّة العالم"- عاصمة الانكا، وكأنه يحمل شعلة لصهر روحه ومزجها بآلام القارة المستلبة، والمتطلعة إلى الانعتاق. لعل ذلك كان مقدمة لطريق الحرية والفداء الذي اختاره جيفارا دون تردد أو رجوع، حيث كان عمره لا يزيد على 24 عاماً عندما كتب "علمت أنه حين تشق الروح الهادية العظيمة الإنسانية إلى شقين متصارعين، سأكون إلى جانب الشعب، أعلم هذا، أراه مطبوعاً في سماء الليل، أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية، المعادل العظيم لإرادة الأفراد..". ولعل كتابة مثل هذا النص، وفي وقت مبكر من حياته، تكشف عن عمق مشاعره الإنسانية، وعن سحر كلمته الأنيقة.
يوميات جيفارا بدت أقرب إلى مغامرة تلقائية لروح مجبولة على المغامرة، وماذا ستكون الحياة من دونها؟ ولعل المغامرة من أجل الحقيقة هي أجمل المغامرات وأحلاها.
لعلنا في شبابنا كنّا قد تمثلنا تلك الرحلة المثيرة، فوق الجبال والبحيرات، في السهول والوديان، وفي عبور الحدود، والجميل في تلك المغامرة أن صاحبها حاول أن يكون أميناً في تدوينها، بل غير تقليدي أيضاً.
كان الشاب الأرجنتيني الأممي فيما بعد، اليافع، البالغ الحساسية، وهو يروي لنا يومياته ومغامراته، يظهر بقدر عقلانيته، جنونه أيضاً، وبقدر جديته، سخريته أيضاً، وهو ينقل لنا فقر وجوع واستغلال الأراضي الشاسعة التي يمرّ بها، وينتقل منها من بلد إلى آخر، وقد حاول بتلك الروح المرحة مقاومة التحديات وتجاوز الصعاب، وبقدر صلابته كان رقيقاً، وكان يميّز دائماً بين الجمال والفجاجة، وبين الحب والعطش إلى المعرفة والرغبة في التغيير، يقابلها الكراهية والتخلف والاستكانة.
لقد كانت ابنته أليدا جيفارا مارش محقّة عندما كتبت عن رحلته تلك قائلة "لم أعرف الشخص الذي كتبها، كنت آنذاك صغيرة وتماهيت مباشرة مع ذلك الرجل الذي سرد مغامراته بطريقة تلقائية كهذه.. عندما تنتهون من الكتاب ستودوّن العودة إليه للاستمتاع ببعض القطع ثانية، إما لجمال ما تصفه أو لكثافة المشاعر التي تتضمنها"، ولقد فعلت ذلك مرات ومرات، كنت أريد مقارنتها ببعض تجاربنا تارة، وأخرى لاختبار طول صبره، وثالثة لمعرفة حكمته أو جنونه، ورابعة لتقييم سجاياه الشخصية الشجاعة، لاسيَّما في المحن وتحدّي الصعاب.
يقول جيفارا الذي سيتحوّل إلى بطل كبير من أبطال القرن العشرين إن يوميات رحلة دراجة نارية "ليست قصة بطولة خارقة"، ولكنه لا يمكن إلاّ أن نفكّر بتلك البطولة باعتبارها مقدمة لتكوينه الثوري وشعوره الداخلي وهو يدوّنها، وهو ما يعبّر عنه بوضوح بالقول: الشخص الذي أعاد تبويبها وصقلها، أنا، لم يعد له وجود على الأقل، لست ذلك الشخص الذي كان. كل هذا التجوال هنا وهناك في "أميركتنا" لتكتب بحروف كبيرة"، غيّرني أكثر مما حسبت"، فقد كان ولوج عالم التمرد والتغيير، قد مرّ عبر جولته الأولى داخل قارة أميركا اللاتينية، برحلته المثيرة تلك.