دولة العدالة الاجتماعية 2


حسقيل قوجمان
2010 / 1 / 13 - 12:43     


في الحلقة السابقة راينا عدم امكانية وجود دولة عدالة اجتماعية في مجتمع طبقي لان المصالح الطبقية متناقضة وما هو عدل بالنسبة لطبقة قد يكون ظلما بالنسبة لطبقة اخرى. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو هل الدولة الاشتراكية دولة عدالة اجتماعية؟
لكي نستطيع الاجابة على هذا السؤال علينا اولا ان نعرف اذا كان المجتمع الاشتراكي مجتمعا طبقيا ام مجتمعا لا طبقيا. المجتمع الاشتراكي هو طبعا نقض للمجتمع الراسمالي. ومن جراء هذا النقض تتحول الطبقة الحاكمة التي كانت سائدة في المجتمع الراسمالي الى طبقة محكومة والطبقة المحكومة في النظام الراسمالي الى طبقة حاكمة. ولا يعني التحول من النظام الراسمالي الى النظام الاشتراكي محوا للطبقات. فالمجتمع الاشتراكي مجتمع طبقي واذا كانت القاعدة التي توصلنا اليها صحيحة فيجب ان تنطبق على المجتمع الاشتراكي ككل مجتمع طبقي.
ولكن المجتمع الاشتراكي مجتمع طبقي يختلف اختلافا جوهريا عن المجتمع الطبقي الراسمالي. فهو اولا مجتمع طبقي اصبحت فيه الطبقة الحاكمة طبقة تمثل مصالح الاغلبية الساحقة من المجتمع واصبحت الطبقة المحكومة اقلية تحولت من طبقة حاكمة الى طبقة محكومة. وهذه الطبقة المحكومة تعمل كل ما بوسعها لاستعادة سيطرتها السابقة وموضعها السابق في المجتمع الطبقي. تريد العودة الى النظام الراسمالي. ومن اهم واجبات الطبقة الحاكمة الجديدة واجب منع هذه الطبقة من العودة الى موضعها السابق كطبقة حاكمة. لذلك تطلب الامر دكتاتورية تقمع كل محاولة لاستعادة الراسمالية. ان القضاء على الطبقة الحاكمة الراسمالية السابقة يتألف من جزأين هما القضاء عليها كمالكة لوسائل الانتاج والقضاء عليها كفئة انسانية.
يتألف القضاء على الطبقة الراسمالية كمالكة لوسائل الانتاج كما كان في روسيا الاتحاد السوفييتي من قسمين. الاول هو الاستيلاء على الشركات الراسمالية الصناعية والمالية والتجارية الكبرى وهذا ما حققته الثورة البروليتارية في الايام الاولى من الثورة. والثاني هو المشاريع الصغرى في المدينة والراسمالية الزراعية في الريف. وتحقيق هذا الجزء الثاني من القضاء على البرجوازية كمالكة لوسائل الانتاج اصعب من القسم الاول ويتطلب وقتا وتكتيكا يختلف عن الاول. ولم يحقق الاتحاد السوفييتي القضاء على هذا الجزء من مالكي وسائل الانتاج الا سنة ١٩٣٣ حين تم القضاء على الكولاك كطبقة. ولذلك اعتبرت هذه السنة سنة تحول المجتمع السوفييتي الى مجتمع اشتراكي اي الى مجتمع انعدمت فيه البرجوازية المالكة لوسائل الانتاج. تحقق كل ذلك باساليب دكتاتورية لم يكن بالامكان بدونها تحقيق الديمقراطية للاغلبية الساحقة من الشعوب السوفييتية. وهذا ما استلزم دكتاتورية البروليتاريا.
فهل تحول المجتمع السوفييتي بعد تحقيق هذه المهمة الى مجتمع لا طبقي؟ بالطبع لا. اولا بقي الاشخاص الذين كانوا يشكلون الطبقة البرجوازية الحاكمة كاشخاص يعيشون في الاتحاد السوفييتي. وكان على دكتاتورية البروليتاريا التعامل مع هذه البقايا من الطبقة البرجوازية بطريقة تمنعهم من استعادة سلطتهم المفقودة بوسائل اخرى غير الوسائل القسرية التي استعملت في الاستيلاء على وسائل الانتاج التي كانوا يمتلكونها. كان عليها اولا ان تقمع كل محاولة لاستعادة الراسمالية بالقوة عن طريق التخريب او الانقلاب او اي شكل من اشكال المقاومة المنظمة باحالة مرتكبيها الى المحاكم ومعاقبتهم بالصورة المتاحة قانونيا. وثانيا عن طريق السماح لهم بالعيش بانفاق ثرواتهم الشخصية التي كانت لهم ولم تصادرها الحكومة البروليتارية بدون ان يعملوا وثالثا بان تعمل دكتاتورية البروليتاريا على دفعهم واجتذابهم الى مشاركة الشعوب السوفييتية بالعمل ونيل معاشهم عن طريق عملهم كسائر مواطني الاتحاد السوفييتي.
ولكن المجتمع السوفييتي لم يتحول الى مجتمع لا طبقي حتى بعد تحقيق هذه المهمة، مهمة القضاء على بقايا البرجوازية كطبقة. كانت الشعوب السوفييتية ذاتها تتألف من طبقات مختلفة متباينة في مصالحها. كانت الاغلبية الساحقة من سكان الاتحاد السوفييتي تتألف من الفلاحين وليس من الطبقة العاملة وكانت المراتب المتوسطة الحرفية والثقافية كثيرة ومتنوعة في المدينة وفي الريف. وقد بين لينين منذ بداية الثورة ان مهمة القضاء على هذا الجانب من المجتمع الطبقي هو الاصعب نظرا الى ان دكتاتورية البروليتاريا لا تستطيع تحقيقه بالقوة والقسر. كان على دكتاتورية البروليتاريا ان تجد الطرق المناسبة للقضاء تدريجيا على التكوين الطبقي لطبقات متآخية لا طبقات متناحرة.
وكان نجاح الحكومة السوفييتية باهرا في تحقيق هذا الواجب الصعب عن طريق تحويل الزراعة الفردية الى زراعة جماعية تعاونية بدفع الفلاحين الى الزراعة التعاونية وتقديم كل المساعدات الفنية والعلمية لهم لتطوير زراعتهم التعاونية. ولكن الملكية الزراعية التعاونية كانت محدودة بطبيعتها. فلم تكن الارض ملكا للمزارع التعاونية بل كانت منذ يوم الثورة ملكا للدولة يسمح للمزراع التعاونية استخدامها وتوسيع مساحاتها الزراعية بدون ان تتحول الى ملكية لها. ولم تكن ادوات الانتاج الزراعية الكبيرة مثل التراكتورات والحاصدات والكومباينات ملكا للمزارع التعاونية بل بقيت ملكا للدولة تقدم خدماتها للمزارع التعاونية. وما تبقى ملكا للمزارع التعاونية كان الانتاج الزراعي والحيواني وبعض ادوات الانتاج الصغيرة فقط. وبهذه الطريقة تحولت الاغلبية الساحقة من سكان الاتحاد السوفييتي الى الانتاج الاشتراكي للمزارع التعاونية.
ان التحول التام للمجتمع من مجتمع طبقي الى مجتمع لا طبقي يتطلب تحول جميع الطبقات المكونة للمجتمع بمن فيها الطبقة العاملة الى فئة واحدة، طبقة واحدة، اي لا طبقة. وهذا الواجب كان واجبا سار المجتمع الاشتراكي في اتجاهه تدريجيا سواء من الناحية الاقتصادية ام من الناحية الاجتماعية والثقافية والفكرية. فمن الناحية الاقتصادية كان الامر يتطلب تحويل المزارع التعاونية الى مزارع دولة وهذا يعني تحويل سكان المزارع التعاونية الى طبقة عاملة شبيهة بعمال مزارع الدولة، السوفخوزات. وقد بين ستالين الطرق الصحيحة لتحقيق هذا التحول في كراسه حول المشاكل الاقتصادية للمجتمع الاشتراكي. فدكتاتورية الطبقة العاملة لا تستطيع ان تحقق هذا التحول عن طريق القوة انما يجب تحقيقه عن طريق الاقناع والترفيه الاقتصادي.
والمهمة الاصعب امام دكتاتورية البروليتاريا هي نقض الجانب الاخلاقي الذي نشأ عليه العالم كله الاف السنين، اخلاق حب الانسان ان يحصل على اكثر من غيره او ما يطلق عليه الطمع. ان الحياة في المجتمعات الطبقية كانت تضطر الانسان الى ان يضمن مستقبله بان يكون لديه ما يحميه عند اشتداد الامور كالشيخوخة والمرض والبطالة وغيرها. ان المثل المعبر عن ذلك هو "القرش الابيض ينفع في اليوم الاسود". ان الثقافة السائدة في المجتمعات الراسمالية تفيد بان هذا الطمع، او الرغبة في الحصول على المزيد، هو من طبيعة الانسان ولا يمكن القضاء عليها او تغييرها. ولكن الواقع هو ان هذه النزعة خلقتها الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجتمعات الطبقية ولا علاقة لها بطبيعة الانسان.
ان مهمة المجتمع الاشتراكي السائر في اتجاه المجتمع الشيوعي هي ان يقضي على هذه النزعة الانسانية المستأصلة في اذهان البشر وفي سلوكهم الاف السنين. والنضال ضد هذه النزعة ومن اجل ازالتها يجري في المجتمع الاشتراكي بطريقين. اولا الطريق الاقتصادي. فمن الناحية الاقتصادية يعمل المجتمع الاشتراكي على توفير الضمان الاقتصادي واقناع الانسان الاشتراكي بضمان مستقبله وانتفاء خطر الافتقار والحاجة في مستقبله ومستقبل عائلته. اذا اقتنع الانسان ان مستقبله مضمون وليس هناك خطر اليوم الاسود فان حاجته الى القرش الابيض تصبح قليلة الاهمية وآئلة للزوال. وثانيا يتحقق التخلص من هذا الشعور عن طريق التثقيف. عن طريق تربية الاطفال منذ نعومة اظفارهم على عكس هذا الشعور وعلى الشعور بالمصالح المشتركة التي تربط البشر. ان هذه المهمة هي اصعب مهام النظام الاشتراكي ودكتاتورية البروليتاريا.
الخلاصة هي ان المجتمع الاشتراكي ما زال مجتمعا طبقيا والدولة الاشتراكية هي اداة طبقية لقمع كل محاولة لاعادة النظام القديم، النظام الراسمالي، وفي الوقت ذاته اداة ازالة الفروق الطبقية والوجود الطبقي. ولهذا لا يمكن للدولة الاشتراكية ان تكون سوى دكتاتورية البروليتاريا طوال المرحلة الاشتراكية.
نعود الان الى ما جاء سابقا من ان الدولة في المجتمعات الطبقية لا يمكن ان تكون دولة عدالة اجتماعية. فهل ينطبق هذا على الدولة الاشتراكية؟ الجواب هو نعم بكل تأكيد. لكي تصون الطبقة العاملة دولتها في مصلحة المجتمع الاشتراكي عليها ان لا تكون دولة عدالة اجتماعية. وهذا ما حصل في الاتحاد السوفييتي اذ كان على دكتاتورية البروليتاريا استخدام اقسى انواع الدكتاتورية ضد الطبقة الراسمالية المدحورة وضد كل محاولات استعادة النظام الراسمالي وضد العملاء الذين تشتري الدول الامبريالية المحيطة ضمائرهم. وكان تقاعس دكتاتورية البروليتاريا عن هذه المهمة الاساسية والغاء دكتاتورية البروليتاريا بحجة ان مهمتها قد انتهت اول الخطوات في طريق استعادة النظام الراسمالي والقضاء على الاشتراكية. ومن الناحية الاقتصادية كانت خطوة بيع ادوات الانتاج الزراعية الى المزارع التعاونية وتحويلها الى ملكيتهم الخاصة ثم تحويل الارض الى سلعة يمكن تملكها وبيعها ورهنها وشراؤها الخطوة الاقتصادية الكبرى في سبيل اعادة الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي.
وثمة نضال اخر بين طبقات ومراتب المجتمع الاشتراكي ذاته باتجاه ازالة الفروق بين هذه المراتب والطبقات وازالة الوجود الطبقي للمجتمع وتحويل جميع الطبقات الى الانسان الشيوعي وهذا اهم واصعب مهام دكتاتورية البروليتارية وهو في الوقت ذاته نضال دكتاتورية الطبقة العاملة نحو تحقيق زوالها.
كان التحول من النظام الراسمالي الى النظام الاشتراكي نقضا للنظام الراسمالي ويشكل التحول الى المجتمع الشيوعي نقضا للنظام الاشتراكي. يلاحظ انني استعمل عبارة النظام الشيوعي وليس الدولة الشيوعية لان من المفروض ان تزول الدولة في المجتمع الشيوعي لان المهمة الاساسية لكل دولة هو الدكتاتورية ضد الطبقات المحكومة ولا تبقى حاجة الى الدولة في مجتمع لا توجد فيه طبقات. وقد بحث ستالين هذا الموضوع وبين ان انتقال الاتحاد السوفييتي الى الشيوعية قد يستلزم بقاء الدولة والجيش في حالة بقاء دول امبريالية راسمالية في العالم تمثل خطرا على وجود المجتمع الشيوعي.
هل المجتمع الشيوعي مجتمع عدالة اجتماعية؟ نعم بكل تأكيد . فهو مجتمع عدالة اجتماعية لانه مجتمع لا طبقي. فليس في المجتمع طبقة او فئة ينبغي ممارسة الدكتاتورية ضدها من اجل تحقيق الديمراطية للطبقات الاخرى. ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو هل يعني مجتمع العدالة الاجتماعية انه مجتمع مساواة؟ المجتمع الشيوعي هو مجتمع عدالة اجتماعية بالضبط لانه مجتمع عدم مساواة. وشعار المجتمع الشيوعي "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته" تعبير عن عدم المساواة.
فعبارة من كل حسب طاقته تتضمن اختلاف الطاقات البشرية. فلا يطلب من الانسان الشيوعي ان يقدم مقدارا من الطاقة مساويا لطاقة الانسان الاخر. وليست الطاقات البشرية متساوية لدى جميع الناس. فالطفل لا يستطيع ان يقدم للمجتمع ما يعتبر من كل حسب طاقته وكذلك لا يمكن للطاعن في السن ان يقدم ما يقدمه الشاب. ولا يمكن المقارنة بين طاقة الانسان السليم العقل والجسم مع انسان مريض يعاني من امراض تعجزه عن تقديم الكثير الى المجتمع. وتختلف كفاءات البشر الفكرية والعلمية مما يجعل ما يقدمه شخص الى المجتمع يختلف عما يقدمه شخص اخر. فشعار "من كل حسب طاقته" هو شعار عدم المساواة في تقديم الخدمات للمجتمع.
وشعار "لكل حسب حاجته" هو الاخر شعار عدم مساواة. فحاجات انسان تختلف عن حاجات انسان اخر. تختلف حاجات الانسان نفسه في فترات نموه من طفل الى شيخ طاعن في السن. وتختلف حاجة الانسان المريض الى العناية الصحية والطبية عن حاجة الانسان السليم الى نفس العناية. ولكن المجتمع يقدم لكل انسان "حسب حاجته". فالمجتمع الشيوعي مجتمع شيوعي لانه مجتمع عدم مساواة.