كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 11 - شعاع الثورة ومتطلبات الدولة!


عبد الحسين شعبان
2010 / 1 / 11 - 20:46     

كان آخر ظهور علني رسمي لجيفارا هو حضور مؤتمر التضامن الأفروآسيوي (1965)، وذلك بعد عودته من الجزائر والقاهرة في 14 مارس 1965، وبعد اجتماع سري مغلق لم يعرف ما جرى فيه حتى الآن، اختفى جيفارا مثل شعاع، ولعل غضب الاتحاد السوفيتي إثر خطاب الجزائر قد يكون وراء ضغوطه على كاسترو، ولم يكن جيفارا يريد أن يحرج صديقه مثلما كان حريصا على الثورة الكوبية، وبغض النظر عن بعض الملابسات، فقد تقرر أن يخوض هو في المهمة العسكرية-الأممية خارج حدود كوبا، وبدعم من كاسترو وهو ما أراد، وأن تستمر الدولة وإداراتها وعلاقاتها الدولية طبقا لتوازن القوى السائد آنذاك، لاسيما للعلاقة الكوبية-السوفيتية. وسواء حصل الاتفاق بشكل مباشر أو غير مباشر، بقناعة تامة أو بنصف قناعة، أو تحت الأمر الواقع، فإن ذلك ما حصل.
وهكذا انتقل جيفارا يجوب أرض الله الواسعة ليبشر بالثورة ويحرض على المستعمرين ويعد الشعوب المنكوبة بغد أفضل، وكانت مهمته الأولى في إفريقيا من الكونغو تحديدا حيث بدأت العملية العسكرية، وبعد فشله غادر إلى بوليفيا، وحاول أن يلعب الدينامو المحرك للتحريض والتحضير وإنضاج العامل الذاتي لاندلاع الثورة، لكن ثمت ظرف موضوعي لم يتوفر وعامل ذاتي لم يتم تهيئته، الأمر الذي دفع جيفارا مثل غيره ثمنه باهظا، ناهيكم من أن محاولة نقل أو استنساخ تجربة قد لا يصح لتجربة أخرى، وهو ما كان ينبغي أخذ مواصفاته بنظر الاعتبار.
رغم بطولة وشجاعة جيفارا، فإنه أخطأ يوم اعتقد أنه بالإرادة يمكن فتح أكثر من جبهة، وزرع أكثر من حرب ثورية أمام الولايات المتحدة، وهو الذي دعا إلى خلق أكثر من فيتنام، واحدة.. اثنتان أخرى. لقد فشل جيفارا في هذه المهمة وكانت تقديراته غير موضوعية؛ لأن مهمة بهذا الحجم هي أكبر من طاقته، بل وطاقة الحركة الثورية حينها برمتها.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، فقد دعا جيفارا إلى «خلق اثنين وثلاث وعدة فيتنام» وكان يشعر أن الشرق الأوسط في حالة غليان كامل ومن المستحيل التكهن بمسارات الحرب الباردة (قبل العام 1967) مع إسرائيل المدعومة من الإمبرياليين، ولعل هذه المنطقة أحد أكبر البراكين التي تهدد العالم كما قال، وكان على حق، فبعد بضعة أسابيع على تصريحاته تلك التي أدلى بها في 16 أبريل 1967، هاجمت إسرائيل البلدان العربية واحتلت كامل أراضي فلسطين التاريخية وأراض مصرية وسورية، ودخل العرب والعالم في فصل جديد من الصراع العربي-الإسرائيلي، ومن النضال التحرري، خصوصا أن الممارسات الإسرائيلية طيلة عقدين من الزمان كشفت عن الطابع العنصري الإجلائي الإحلالي للعقيدة الصهيونية التي قامت عليها إسرائيل، ولعل هذا ما كان يتميز جيفارا بإدراكه عن القيادات الثورية الأممية الأخرى، وما عبر عنه حول مآل الصراع، ناهيكم من المخاطر التي تهدد السلم والأمن الدوليين باستمرار، لاسيما التنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير.
حظي جيفارا بتمجيد عربي يوم رحيله، ونظمت في العالم العربي كله احتفالات تأبينية وتكريمية، وانتشرت صوره وكتاباته في كل مكان، في العديد من الجامعات والمنتديات، العلنية والسرية، وأتذكر أننا في العراق كنا قد نظمنا احتفالا كبيرا في جامعة بغداد، حيث كنت في الصف المنتهي، والتأم الاجتماع المهيب في كلية التربية، بخطب وأناشيد وأشعار، وفي جو حماسي زاده عريف الحفل اشتعالا، وكان حينها د.عبدالحسين رمضان (أبونهار). وكان صوت الشيخ إمام لاحقا وقصيدة أحمد فؤاد نجم تملأ الحناجر حيث كانت احتفالاتنا اللاحقة تنشد: جيفارا مات.. جيفارا مات.. جيفارا مات.. آخر خبر في الراديوهات وفي الكنايس والجوامع وفي الحواري وفي الشوارع وعالقهاوي وعالبارات... جيفارا مات... مات المناضل المثالي.. مات البطل /الكلمة للنار وللحديد/ والعدل أخرس أو جبان/ صرخة جيفارا.. يا عبيد، في أي موطن أو مكان/ما فيش بديل.. ما فيش مناص.. ياتجهزوا جيش الخلاص /يا تقولوا على العالم خلاص!!
وإذا كان جيفارا قد أخطأ في قراءة وتقدير العامل الذاتي والعامل الموضوعي واختيار اللحظة الثورية، لاسيما توازن القوى والجهات المؤثرة في خارطة الصراع على المستوى الدولي، والظروف الخاصة بنضال بعض الشعوب، لكنه نجح في وضع ما آمن به موضع التطبيق، والأكثر من ذلك حين وضع حياته وقودا لما اعتقد به بصدقية عالية وشجاعة نادرة، وهو القائل: «ليست هناك حدود في هذه المعركة حتى الاستشهاد».
ونجح جيفارا في جعل كوبا الرمز الأول لاستيقاظ أميركا التي بدأت دولها الواحدة بعد الأخرى تتمرد بطرقها الخاصة على هيمنة واشنطن من موجات الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات، إلى لاهوت التحرر في الثمانينيات إلى مصالحات واتفاقات، وصندوق اقتراع تفقس فيه الثورة في أواخر التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة.
كما نجح جيفارا في جعل كوبا بوابتنا إلى أميركا اللاتينية، لكن ثمت معوقات موضوعية وذاتية وقفت أمام تطوير التقنية وبناء الإنسان الجديد، وإذا كان لينين قد قال إن الشيوعية تعني السلطة السوفيتية زائد كهربة البلاد السوفيتية، وسعى لتحقيق ذلك، فإن جيفارا شغل نفسه بالتنمية والتقنية اللتين أسهمت الولايات المتحدة في وضع العراقيل أمامهما، لاسيما باستمرار فرض حصارها الجائر على كوبا منذ أكثر من 50 عاما.