ماركس المغربي


خليل اندراوس
2010 / 1 / 10 - 01:17     

بدون وعي ذاتي ثوري ومراجعة من خلال المؤلفات الرئيسية لماركس وانجلز ولينين، وثقل هذه المعرفة لجماهير الشعب الواسعة وخاصة الطبقة العاملة وحلفائها، لا يستطيع الثوري الحقيقي القيام بواجبه الطبقي القومي الأممي الثوري، فالنظرية الماركسية تحمل في طياتها كنظرية كاملة متكاملة علمية، هي عبارة عن قلب كبير ينبض بالحياة وبالقوة من اجل الانسان والانسانية. ولكن في نفس الوقت يجب ان ننظر للنظرية الماركسية ليس كصنم للعبادة بل كنظرية تدعو الى التفكير والخلق و التفاعل مع تطورات الحياة والمجتمع العالمي ككل وفي كل بلد ودولة، وممارستها بشكل صحيح وخلاق وبدون فقدان خيطه الاساسي الأحمر الثوري كلبؤة فهذا الانسان ماركس الذي كان يحمل رأسا كرأس الأسد ولبؤة سوداء فاحمة كلبدة الليث، هو رجل علم وفلسفة لم يقم رجل مثله. كرس حياته لأجل تحرير الانسانية من عبودية رأس المال، والثوري الحقيقي هو الذي يحمل رسالته بوعي، وادراك، ومعرفة وعمق ويمارسها بجدارة ويحملها علما ونورا للآخرين وبثقة.
لا شك بأن المجتمع البرجوازي الرأسمالي اثبت جبروته وقدرته على الحياة، وكذلك في الماضي أدرك ماركس هذا بعد فشل الانتفاضات العمالية المختلفة عام 1848 وبعدها وبعد فشل الكومونة وكذلك لينين بعده أدرك جبروت استمرارية المجتمع الرأسمالي حيث قال "لا يمكن ان تنتصر الاشتراكية على الرأسمالية، إلا إذا اصبحت انتاجية الاشتراكية ضعفي انتاجية الرأسمالية" وهذا ما لم يستطيع الاتحاد السوفييتي لاسباب موضوعية وذاتية كثيرة القيام به، ولكن قد تفشل التجربة أي تجربة الثورة الاجتماعية وإحداث القفزة النوعية نحو مجتمع المستقبل، ولكنها ستنتصر في النهاية لأن النتيجة المحتمة للثورة الاقتصادية وتطور وسائل الانتاج ستكون الثورة السياسية، لأن هذه ليست سوى تعبير لتلك لا بل حدث جدلي لتلك، فماركس نفسه في حياته كان ثوريا وكان ايضا معلما ويتعلم من تجارب الآخرين، فمثلا لم يكن يشعر بأي حرج بالاستفسار من مختصي اللغات عن بعض أعمال ارسطو او افلاطون او غيرهما، وكان يحب اللغات ويروي أحد الأصدقاء بأن ماركس أنّبه. لانه لا يعرف اللغة الاسبانية، ويروي هذا الصديق بأن ماركس سحب كتاب "دون كيشوت" من كومة الكتب وأعطاه درسا في الحال. ( الصديق هو ولهم ليبكنخت في مقال - ذكريات عن ماركس) فقد كان ماركس يتقن اللغة الألمانية والانجليزية والفرنسية والاسبانية كتابه "بؤس الفلسفة" الموجهه ضد "فلسفة البؤس" لبرودون كتبه باللغة الفرنسية.ومقالاته لأجل جريدة
New York Daily Tribune كتبها بالغة الانجليزية. وفي لندن تعلم اللغة الروسية أثناء حرب القرم (الحرب بين أعوام 1853-1856 بين روسيا وتركيا المتحالفة مع انجلترا وفرنسا ومملكة سردينيا فقد منيت روسيا بالهزيمة في هذه الحرب) وعزم ماركس على تعلم اللغتين العربية والتركية الا انه لم يتسن له تحقيق ذلك. وفي ذكريات معاصري ماركس يذكرون بانه كان يحب المطالعة باهتمام وكان يملك ذاكرة نادرة حيث يستوعب بسرعة المفردات اللغوية والتراكيب والعبارات للغة المعينة.وكان ماركس يمتاز بموهبة رائعة في القاء المحاضرات وترويج أفكاره الفلسفية بين الجماهير من خلال القاء محاضرات في القاعات المزدحمة. وكان يعبر بوضوح وجلاء عن فكرته، فوضوح اللغة هو نتيجة للتفكير الواضح، والفكر الواضح يشترط بالضرورة تعبيرا واضحا، ولذلك كان ماركس خصما لدودا للابتذالية او لتزوير وامتهان واذلال العلم. ومحاضراته كانت تجري بشكل منهجي مدروس فكانت لديه جميع مؤهلات المعلم الممتاز.
كتب ولهام ليبكنخت في مقاله "من ذكريات عن ماركس" يقول: "يزعمون انه لم يكن لدى ماركس أي اسلوب وان وجد اسلوب رديء جدا. هكذا يقول أولئك الذين لا يفقهون ماذا تعني كلمة اسلوب أي فصحاء اللسان واصحاب الجمل المنمقة الذين لم يفهموا ماركس وغير القادرين على فهمه، وغير القادرين على تتبع تحليق فكره الى أرفع قمم العلم والحماس ، والى اعمق لجج فاقة البشرية وبؤسها. "واذا كان ثمة شخص ما يمكن ان تطلق عليه في يوم من الايام عبارة بوفون "الاسلوب هو الانسان" فان هذا الشخص هو ماركس بالذات. ان اسلوب ماركس هو ماركس. ففي النهاية دراسة الماركسية تحتاج و تتطلب الكد والجهد والارتقاء بالنفس وعمق التفكير. من خصائص ماركس في ذكريات معاصريه تثمينه الكبير لوضوح ودقة التعبير ففي حياته كان يقرأ غوته وليسنغ وشكسبير ودانتي وسرفانتس كل يوم تقريبا. وكان ماركس بالرغم من شهرته العالمية خاليا من أي غرور وتكبر، وكان المثل المفضل لماركس بيت الشعر الآتي لدانتي ( المتأثر بأبي العلاء المعري) "سر في طريقك وليقل الناس ما يشاؤون"
كتب ولهلم ليبكنخت عن ماركس:
وكم من مرة استشهد ماركس بهذا البيت الذي ختم به مقدمته لكتاب "رأس المال " أيضا! أليس بوسع أحد ان يعبأ لا بالضربات والرفسات وعقصات البرغش والبق، وكم من مرة كان ماركس، وهو يصادف في طريقه التهجمات من جميع الجهات وتمزقه الهموم لكسب لقمة العيش، ولا يفهمه جمهور الكادحين، الذي كان في سكون الليل يشحذ السلاح لاجل نضالهم التحرري، لم يفهمه فحسب بل أحيانا يصل به الأمر حتى الى صد هذا الجمهور بنفسه بفظاظة الذي كان يركض وراء الثرثارين الفارغين والخونة المرائين أو حتى وراء الاعداء الصريحين، وكم من مرة كان ماركس في خلوته في غرفته البائسة البروليتارية حقا، يشجع وينشط نفسه بكلمات الشاعر الفلورنسي العظيم مستقيا منها قوى جديدة! ويذكر معاصرو ماركس بانه كان يقضي اياما كاملة في قاعة المطالعة في المتحف البريطاني ، ذات الكنوز التي لا تنضب من الكتب وكان يقول لاصدقائه دائما: تعلموا! تعلموا! وهذا يذكرني بقول لينين بعد ذلك تعلم، تعلم ثم تعلم. وفي بعض الاحيان لم يكن لماركس ما يأكله ولكن هذا لم يمنعه من الذهاب الى قاعة المطالعة في المتحف البريطاني ويصفه معاصروه بانه كان معلما صارما ولكن بدون تثبيط العزيمة وكان يحمل أصدقاءه وتلاميذه على ممارسة النقد الذاتي وكان لاذع الانتقاد بسخريته المعروفة لكل من يمارس التأمل الخيالي المثبط للهمم. ومن صفاته أيضا عدم التأثر بالتصفيق والمدائح وعديم التأثر بسباب وافتراء الاعداء، مؤكدا على اهمية ممارسة الحياة بنشاط ودراسة مفعمة بالنضال، وكان يكره كرها شديدا هواة الثرثرة عن السياسة والثرثرة السياسية فبالنسبة لماركس السياسية هي علم تطبيقي.
" فمن صفات ماركس اعترافه بأفضال الآخرين وكرمه وعدْله. وكان ارفع بكثير من ان يحسد او يغار، وارفع من ان يكون مغرورا ومتكبرا.
"لم يكن ثمة انسان اكثر اخلاصا للحقيقة من ماركس، لقد كان ماركس تجسيدا للحقيقة لقد كان ماركس عبقريا مع طاقة خارقة وقدرة خارقة على العمل. كان يعمل كثيرا طوال الليل تقريبا ولا يأوي الى الفراش الا قبيل الصباح، ومن صفاته حب الاطفال حبا جما.
كتب ولهلم ليبكنخت عن ماركس "كان ينبغي للمرء ان يرى ماركس وسط اطفاله لكي يكوّن فكرة تامة عن الاخلاص وصفاء النية وسلامة الطوية الطفولية لدى بطل العلم هذا".
وكتب يقول "كانت السيدة ماركس المرأة لاولى التي عرفت انا بفضلها قوة التأثير النسائي في رفع قدر الانسان" وهنا نتذكر قول غوته في "توركفاتو تاسو" الفصل الرابع:
"اذا اردت ان تعرف كيف تسلك فاسأل امرأة نبيلة عن ذلك" خلال فترة مرض ماركس سافر الى الجزائر حول هذا الموضوع تكتب ابنته فان ايليتورا ماركس – ايفلينغ وتقول: "فيما يخص اقامة المغربي المقصود ماركس في مدينة مصطفى (الجزائر) استطيع ان اخبرك فقط بان الطقس هناك كان رديئا جدا، وان المغربي (أي ماركس –خ.ا) وجد هناك طبيبا حاذقا ولطيفا جدا وان جميع الناس في الفندق كانوا يلاطفونه ويعاملونه جميل المعاملة".
اما حول اطلاق لقب المغربي على ماركس كتب ولهلم ليبكنخت يقول: "بيت ماركس في لندن كان شقة متواضعة في منطقة سوهو" وكما اطلق عليه أي على بيت ماركس ولهلم ليبكنخت"لقب برج حمام" تؤمّه وتطير منه كثرة من الاشخاص المتجولين والشاردين والمهاجرين وايضا من مفكري ذلك الوقت، وكان اصدقاء ماركس يدعونه المغربي – وبيته بيت المغربي.
وفي النهاية من يدرس الماركسية يشعر بالاحترام الكبير لهذا الانسان العظيم الفيلسوف والمعلم الكبير والمتواضع الذي عاش حياة صعبة ولكن بيته كان "برج حمام" الفكر والفلسفة والعطاء والتواضع، مغربي. فواضع البيان الشيوعي مع صديقه انجلز ومؤلف "رأس المال" هو ملك للانسانية جمعاء، ولكل من يريد ان يُحدث القفزة، الثورة الاجتماعية، ويبني مملكة الحرية للانسان على الارض.
كان انجلز يقول في معرض حديثه عن نفسه وعن صديقه ماركس ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما مرشد للعمل، وهذا المظهر للماركسية كمرشد للعمل، يغيب عن البال في الكثير من الاحيان، فلنعمل من اجل "ان تكون الماركسية مرشدا للعمل الجماهيري الشعبي وتعميق صلتها بقضايا العصر المتغيرة استنادا الى اسسها النظرية الجوهرية الجدلية".

// المرجع:
- كارل ماركس وفريدريك انجلز في ذكريات معاصريهما. لينين في الايديولوجية والثقافة الاشتراكية.