كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (9) جيفارا والمهدي بن بركة.. غياب غامض!


عبد الحسين شعبان
2009 / 12 / 29 - 18:31     

«لحيةٌ، شعرٌ طويل، بدلة عسكرية خضراء، وبعض الجبال من دون موقع محدد في بلد لا يعرف أحد عدد سكانه، ولا أحد يعلم بأنه جزيرة».. بهذه الكلمات اختزل جيفارا «الثورة الكوبية» وهو يتحدث في القاهرة في أول زيارة لها في عام 1959، وقد أعيد نشر مداخلته تلك التي ذاع صيتها تحت عنوان «أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية» في سبتمبر 1959. ولعل جيفارا كان رساماً ماهراً في التعبير عن تطلّع جيل الستينيات وأحلامه بما اتّسمت من عنفوان ورومانسية وآمال.
كانت مهمة جيفارا التعريف بالثورة الكوبية كسفير «مطلق الصلاحيات» بعد نجاح الثورة مباشرة، لكنه شعر أن أميركا اللاتينية قارة تكاد تكون مجهولة بالنسبة للعرب والأفارقة والآسيويين على حد سواء، فما بالك بكوبا الجزيرة البعيدة، ولذلك قدّر ثقل مهمته، فضلاً عن أنه هو الآخر شعر بأن الكثير من العالم العربي والإسلامي وشعوب آسيا وإفريقيا كانت مجهولة بالنسبة إليه، وهو ما عبّر عنه في مداخلته تلك حين قال «ونحن نجهل جزءاً كبيراً من العالم».
ولعل جيفارا أراد بهذا التقديم التمهيد لجسر التواصل بحثاً عن المشترك الإنساني للقارات الثلاث، وهو ما كان شاغل صديقه المهدي بن بركة، الزعيم المغربي الذي اختفى قسرياً في باريس في خريف عام 1965، وهو يحضّر لمؤتمر القارات الثلاث مثل صديقه جيفارا، وينتقل من عاصمة إلى أخرى ليبشر بالثورة ويعمل لتحقيق تضامن عالمي من أجلها.
لقد كان هاجس المهدي بن بركة وجيفارا إضافة إلى الزعيم الجزائري أحمد بن بلّه ومصر عبدالناصر وعدد من قادة دول عدم الانحياز، تنسيق الجهود لتحرير إرادة المُستغَلين ومواجهة أسباب الاستغلال وتحدي مسبّبيه، لاسيَّما الاستعمار والرأسمالية الاحتكارية العالمية التي نهبت خيرات وموارد شعوب القارات الثلاث: أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وهذا السبب بحد ذاته يمكن أن يكون عامل اشتراك بين القوى التحررية من أجل الانعتاق والاستقلال واستعادة الثروات المسروقة، وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
ورغم أن علاقات أميركا اللاتينية مع العرب تمتد إلى زمن بعيد، منذ وصول المستعمرين الإسبان في القرن الخامس عشر، وفيما بعد المستعمرين البرتغاليين، الذين أسهموا في فتح حلقة اتصال مع الحضارة العربية-الإسلامية، فإن العلاقات ظلّت شحيحة ومحدودة. كانت كوبا الجزيرة الوادعة الجميلة شبه مجهولة قبل الثورة، لكنها أصبحت بوابة أميركا اللاتينية بعدها، وكان لجهود جيفارا وعمله الحثيث، لاسيَّما صداقاته مع المهدي بن بركة وأحمد بن بلّه وعبدالناصر، دور في ذلك حيث تم بناء جسور بين القارات الثلاث عبر المشترك في الأهداف والمصالح والسعي لتقريب المواقف والتوجّهات.
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن كوبا هي أول أرض في أميركا اكتشفها كريستوفر كولومبس، وعُدّت مستعمرة إسبانية منذ ذلك التاريخ، ولم تتمكن من التحرر من الاستعمار الإسباني إلا بحرب طويلة ودامية دامت نحو 30 عاماً، من عام 1868 إلى عام 1898، وعندما كانت وحدات المقاومة الكوبية تهاجم الجيش الإسباني عام 1868 كانت كوبا تعيش ازدواجية اجتماعية وسياسية، فمن جهة كان الإسبان يستغلون الكوبيين، ومن جهة أخرى كانت توجد أعداد كبيرة من العبيد في كوبا، ولكن المقاومة استطاعت توحيد الصفوف، فانضم الزنوج إليها، وهم بذلك تحرروا من العبودية من جهة، وحرروا بإسهاماتهم مع الكوبيين الآخرين كوبا من الاستعمار الإسباني.
وقد تدخلت الولايات المتحدة عشية حصاد نتائج التحرير، مستغلة انفجار الباخرة العسكرية الأميركية «مني» في كوبا، ونزل الأميركيون في سانتياغو الكوبية واستولوا على الجزيرة، الأمر الذي جعل استقلال كوبا مشوباً بالشبهة، واستخدمت واشنطن كوبا فناءً خلفياً، لاسيَّما لكبار المحتكرين الذين استغلّوها كمنتجع رخيص وعملوا على نهب ثرواتها.
واستمرّ الأمر على هذه الصورة حتى انتصرت الثورة في مطلع عام 1959 بعد بداية انطلاقتها بالهجوم على ثكنة مونكادا في 26 يوليو 1953، هذا الهجوم الذي مُني بالفشل وتحوّل إلى نكبة على حد تعبير جيفارا، حيث سجن الأحياء، لكنهم عادوا بقيادة كاسترو إلى النضال الثوري بعد حصولهم على العفو، بحرب عصابات مثّلت طليعة كما قيل إزاء خدر الشعب التي سعى المقاومون لتحريكه، وقد مثلت الطليعة «الضمير الثوري» وكانت وسيطاً لخلق الظروف الذاتية الضرورية للانتصار. وهذه الفكرة هي التي شكّلت جوهر حركة الكفاح المسلح التي راحت في الستينيات. وإذا كان سيمون بوليفار قد مثّل بطولة أميركا اللاتينية وساعد في نجاح نضال العديد من دولها في الحصول على الاستقلال من إسبانيا، ودعا إلى اتحاد فيدرالي بين دولها الناطقة بالإسبانية، فإن جيفارا مثّل تطلع الشباب وحيويته، وكأنه في نضاله كان أقرب إلى مغامرته لقيادة دراجته النارية مع صديقه ألبيرتو غرانادو التي قطع فيها أميركا من جنوبها وحتى شمالها، مثلما قطع جيفارا رحلته الشيّقة ومغامرته النضالية الممتعة من جبال السيرامايسترا وحتى بلغ كماله في موته المبجّل في كيبرادا ديل ورو في بوليفيا يوم وقع أسيراً ثم شهيداً في الوادي الضيق شديد الانحدار يوم 8 أكتوبر 1967، ذلك الوادي الذي ذكّرني بمنطقة نوكان (ناوزنك) في كردستان العراق، تلك المنطقة الحدودية النائية، التي لا يعيش فيها إلا «الخنازير» (تعبير كان القصد منه الصبر والجلد وقوة الاحتمال، لاسيَّما وعورة المنطقة ومناخها القاسي، حيث تصل درجات الحرارة في الشتاء إلى نحو 20 درجة تحت الصفر) على حد تعبير بعض الفلاحين أو المتعهدين الذين يزورون المنطقة كل بضعة أسابيع، حيث كان الوادي عميقاً وانحدار النهر شديداً والمياه سريعة، وفي إحدى المرات جرفت معها خيام الشيوعيين الأنصار وبعض المباني الطينية، التي كانوا يضطرون للعيش فيها، فضلاً عن اضطرارهم إلى تركها عندما تقدّمت القوات الإيرانية باتجاههم.
وحسب بعض المعلومات فإن الكثير من المهاجرين العرب، لاسيَّما من المسيحيين في سوريا ولبنان وفلسطين، أخذوا يتوافدون على أميركا الجنوبية، منذ عام 1875 ويقدر عددهم اليوم بنحو 18 مليون نسمة من أصول عربية يعيشون في أميركا اللاتينية.
وإذا كان الاهتمام بما كتبه جيفارا كبيراً، فإن الكثير من الكوبيين اليوم يعرفون، بالقدر نفسه من الهيبة والاعتزاز، أن جيفارا بلور أفكاره الرئيسية في العالم العربي ومع أصدقاء عرب، ولعل هذا ما نجهله نحن، وربما لم نعطه حقه بما فيه الكفاية، وهو يحتاج إلى عمل متواصل، أرشيفي ووثائقي، وحوارات ومقابلات مع من التقاهم وتحدث إليهم وكانوا قريبين منه، ولعل الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل يمكنه أن يكشف جانباً من هذه العلاقة مع عبدالناصر وربما مع بن بله (الذي كتب شهادته بشكل مقتضب ولكنه مهم جداً) والمهدي بن بركة، بحكم لقاءاته غير القليلة مع جيفارا وصلته بعبدالناصر، وذاكرته الخصبة، وما تراكم لديه من معلومات ووثائق.
لقد لعبت ظروف جيفارا، لاسيَّما مكانياً وزمانياً وعلاقته مع عبدالناصر وبن بلّه والمهدي بن بركة دوراً كبيراً في صياغة منظومة أفكاره أو في التأثير على تلك الصياغة، بحيث اقترب إلى حدود غير قليلة من توجهات الزعماء الثلاثة رغم ماركسيته، مثلما هم اقتربوا منه وتأثروا به وصار الجميع يكمّل بعضه البعض!
لعب المهدي بن بركة مثل صديقه جيفارا دوراً في بلورة خطة قبول كوبا وعضوية دول أميركا اللاتينية في المؤتمر الذي كان مزمعاً عقده في هافانا، والذي انعقد بعد رحيله، وكان قد صاغ مع جيفارا برنامج «التحرير الكامل» بدعم من الدول الاشتراكية، لاسيَّما الصين والاتحاد السوفييتي في حينها وهو البرنامج الذي تضمن عدة أهداف منها:
- مساعدة الحركات الوطنية التحررية وبخاصة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) وكانت كوبا قد أقامت علاقات معها ومع منظمة فتح التي تأسست في 1/1/1965.
- تعزيز وتعميق النضال السلمي والمسلح في القارات الثلاث.
- دعم ومساندة الثورة الكوبية.
- العمل على إلغاء القواعد العسكرية الأجنبية للدول الإمبريالية.
- تشجيع سياسة نزع السلاح، لاسيَّما تحريم الأسلحة النووية.
- النضال ضد العنصرية والتمييز العنصري.
وإذا كان ثمة تغييرات كبيرة قد حصلت على الصعيد العالمي، فإن برنامج المهدي بن بركة-جيفارا ما زال حتى هذه اللحظة يحظى من حيث الجوهر باهتمام غير قليل، لاسيَّما ما تضمنه من أهداف بعيدة أو قريبة، لكن غيابهما الغامض أضفى عليه نوعاً من الروتينية، وهو ما كانا بحيويتهما يتجاوزانها لأفق أكثر رحابة وشفافية.