يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي يتعزز


داود تلحمي
2009 / 12 / 21 - 18:47     

مع بدء العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يبدو اليسار الأميركي اللاتيني، الذي حقّق صعوداً مثيراً في معظم بلدان هذه المنطقة خلال العقد الأول من القرن، أمام مرحلة جديدة، يظهر فيها الجناح الجذري منه وقد عزّز مواقعه الشعبية، فيما يبدو الجناح الأكثر "إعتدالاً" مرشحاً للتعرض لتراجعات في بعض مواقعه.
وكمؤشر قوي على نجاحات الجناح الجذري، جاءت إعادة انتخاب رئيس بوليفيا إيفو موراليس يوم 6/12/2009 بأغلبية كبيرة- زهاء 63 بالمئة من أصوات الناخبين، ومنذ الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية- لتؤكد صلابة القاعدة الشعبية التي تمكّن من بنائها خلال السنوات الأربع التي قاد فيها البلاد منذ تسلمه السلطة لأول مرة في مطلع العام 2006، حيث تجاوزت النتيجة التي حققها معظم توقعات استطلاعات الرأي عشية الإنتخابات، والتي كانت تعطيه الأغلبية ولكن بنسبة تزيد قليلاً عن الـ 50 بالمئة من الأصوات.
بالمقابل، جاءت الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة في تشيلي يوم 13/12/2009 لتضع مرشح اليمين، الملياردير سيباستيان بينييرا، الذي يقود تحالفاً يشمل ورثة نظام الجنرال اوغستو بينوتشيت الإنقلابي الدموي (1973-1990)، في المقدمة مع نسبة 44 بالمئة من أصوات الناخبين، فيما جاء مرشّح إئتلاف يسار الوسط الحاكم، إدواردو فري، في المرتبة الثانية بنسبة تقلّ قليلاً عن الـ30 بالمئة. مما يفرض تنظيم دورة ثانية للإنتخابات، ستجري في 17/1/2010.
فهل نحن أمام تعزيز لمواقع اليسار الجذري في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، مقابل عدم استقرار لسلطة أنظمة اليسار "المعتدل"، أو يسار الوسط؟

قصة هوندوراس: مرشح حزب يميني يتحول الى اليسار بعد انتخابه!

ولنبدأ، أولاً، بالحديث عن حالة خاصة هي حالة هوندوراس، البلد الواقع في أميركا الوسطى والذي شهد، في أواسط العام 2009، إنقلاباً عسكرياً- مدنياً يمينياً على رئيسه المنتخب، الذي كان في الآونة الأخيرة من حكمه محسوباً على اليسار. فالصورة هنا ملتبسة، ولا بد من توضيحها. وذلك حتى لا يعطي نجاح الإنقلاب، حتى الآن على الأقل، الإنطباع بأن موجة اليسار في القارة يمكن أن تكون قد دخلت مرحلة انحسار عام، أو هي بدأت تواجه هجمة مضادة يمينية عنيفة. وهذا، دون أن نقلل من خطورة الحدث الإنقلابي، كما من بعض الخطوات الأخيرة للإدارة الأميركية في القارة، وخاصة تعزيز وتوسيع قواعدها العسكرية في عدد من بلدان القارة، وخاصة في كولومبيا.
ذلك ان حالة هوندوراس لها خصوصية تميزها عن تجارب اليسار الأخرى في المنطقة. فحين تم، في أواخر العام 2005، انتخاب مانويل سيلايا رئيساً لجمهورية هوندوراس (8 ملايين نسمة)، الواقعة الى الشمال من السلفادور ونيكاراغوا، كان مرشحاً عن الحزب الليبرالي، الذي يُصنّف في خانة يمين الوسط، وهو كان أحد الحزبين التقليديين اللذين تناوبا على حكم البلد في العقود الأخيرة (الحزب الثاني هو الحزب القومي). ولم يكن برنامج سيلايا بالتالي برنامجاً يسارياً. ولكنه، بعد فترة من حكمه، وبسبب عدد من التعقيدات الداخلية، وفي مناخ الموجة العارمة من نجاحات اليسار في القارة الأميركية اللاتينية، رأى أن يفتح خطوطاً مع الأنظمة اليسارية في المنطقة، وخاصة مع فنزويلا الغنية بالنفط، ورئيسها أوغو تشافيس، الوجه الأكثر بروزاً للتيار اليساري الجذري الجديد في القارة. وذهب سيلايا الى حد ضم بلده، في أواسط العام 2008، الى تحالف "ألبا"، وهي الأحرف الأولى بالإسبانية لما بات يُعرف الآن بـ"التحالف البوليفاري لشعوب أميركتنا"، والمقصود أميركا الشعوب، وهو التحالف الذي تشكلت نواته الأولى من فنزويلا وكوبا، ثم انضمت إليه لاحقاً بوليفيا وإكوادور ونيكاراغوا وعدد من جزر البحر الكاريبي. وقد أغضب هذا التحول السياسي قطاعات من حزب سيلايا، الحزب الليبرالي، بينما دعمته قوى يسارية وقطاعات شعبية في البلد، الثالث الأفقر في مجمل القارة الأميركية بعد هاييتي ونيكاراغوا. وعندما حاول سيلايا الدعوة الى تنظيم استفتاء شعبي حول إمكانية إعداد دستور جديد للبلاد بالرغم من معارضة قوى نافذة في البلد، استبقته قوى اليمين، بما في ذلك في حزبه، مستعينة بالجيش، فاقتحمت مجموعة من العسكر منزله يوم 28/6/2009 واقتادته بملابس النوم الى أحد المطارات العسكرية، ومن هناك جرى نقله الى دولة كوستاريكا. واتفق الإنقلابيون على تعيين رئيس المجلس التشريعي روبيرتو ميتشيليتي، الذي ينتمي الى نفس "الحزب الليبرالي" للرئيس المطاح به، رئيساً حتى فترة انتهاء مدة رئاسة سيلايا في مطلع العام 2010، وانتخاب رئيس جديد في الموعد المحدد لذلك في أواخر العام 2009.
وبالرغم من تمكّن سيلايا من التسلل مجدداً في أيلول/سبتمبر الى بلده والإقامة في سفارة البرازيل، رفض الإنقلابيون عودته الى الرئاسة، مخالفين توصيات منظمة دول القارة الأميركية، وقاموا بتنظيم انتخابات رئاسية في 29/11/2009، قاطعتها القوى اليسارية والمؤيدة للرئيس المطاح به، وأُعلن في محصلتها عن فوز مرشح الحزب القومي، اليميني، الذي كان قد خسر انتخابات 2005 في مواجهة سيلايا.
باختصار، إذاً، لم يكن الإنقلاب العسكري اليميني في هوندوراس، بحد ذاته، مؤشراً على بداية انحسار قوى اليسار في القارة، أو بداية مرحلة هجمة شاملة من قبل اليمين والعسكر، الذين حكموا معظم القارة طوال عقود طويلة خلال القرنين الماضيين. دون أن يعني ذلك أن ليست هناك أوساط من اليمين في بلدان أميركا اللاتينية المختلفة، وأوساط في الإدارة الأميركية، تفكّر بكيفية الحدّ من تنامي نفوذ القوى اليسارية في أميركا اللاتينية، ولو من خلال أعمال إنقلابية أو أشكال من التخريب المقصود. وقد شهدت بوليفيا، بشكل خاص، طوال فترة حكم إيفو موراليس منذ مطلع العام 2006 سلسلة من المحاولات للتخريب على النظام والتهديد بتقسيم البلد. كما شهدت فنزويلا أعمالاً كهذه وعملية إنقلابية فعلية.
ومن المفيد الإشارة هنا الى المواقف المتناقضة للإدارة الأميركية الحالية في واشنطن تجاه تطورات هوندوراس. فلو حصل هذا الإنقلاب في عهد الرئيس السابق جورج ووكر بوش، لكان بالتأكيد تبناه ودعمه، كما فعل ابان الإنقلاب على أوغو تشافيس في فنزويلا في العام 2002، وهو الإنقلاب الذي لم يعمّر أكثر من 47 ساعة، حيث أعادت التظاهرات الشعبية وقطاعات من القوات المسلحة تشافيس الى الحكم، وخرج جورج بوش بـ"سواد الوجه"، خاصة وأنه كان يقدّم نفسه في بعض مناطق العالم، ومنها منطقتنا الشرق متوسطية، باعتباره بطل الديمقراطية وداعيتها الأول.
ونذكر أنه، تحت هذه الراية، أي راية نشر هذه الديمقراطية المزعومة، اجتاح بوش العراق في العام 2003، بعد اجتياح أفغانستان في أواخر العام 2001، ساعياً، بدون نجاح، الى إعادة رسم خارطة "الشرق الأوسط"، و"دمقرطتها"، وهو الإسم الحركي لتحويلها الى منطقة سيطرة أميركية مطلقة، وفق النوايا الحقيقية لبوش وحاشيته من اليمينيين القدماء و"الجدد".
لكن باراك أوباما، الآتي الى الحكم تحت شعار "التغيير"، وفي ظل أزمة إقتصادية طاحنة في الولايات المتحدة، انتقلت الى أنحاء العالم، وبعد مرحلة من العزلة الدولية الواسعة للولايات المتحدة في عهد سلفه، لم يكن بإمكانه أن يعلن تأييداً للإنقلاب العسكري في هوندوراس، لا بل قامت إدارته بإعلان اعتراضها على الإنقلاب، ودعت الى إعادة الرئيس المطاح به. ولكنها في الوقت ذاته اتخذت موقفاً متناقضاً تجاه الإنتخابات الرئاسية التي نظمها الإنقلابيون في 29/11/2009، حيث أعلنت تأييدها لها واعترافها بنتائجها، في حين رفضتها الغالبية الساحقة من بلدان أميركا اللاتينية واعتبرتها غير شرعية.

بوليفيا: موراليس ويساره الجذري يحققان انتصاراً كاسحاً

لنعد الى بوليفيا وانتخاباتها الأخيرة. فقد حقق إيفو موراليس في انتخابات 6/12/2009، كما ذكرنا، نجاحاً كاسحاً ومنذ الدورة الأولى للإنتخابات، حيث حصل على قرابة 63 بالمئة من الأصوات، في حين حصل المرشح اليميني الرئيسي المنافس له على زهاء 28 بالمئة.
كما ان حزبه، "الحركة نحو الإشتراكية"، حقّق أيضاً نجاحاً قوياً في ذات اليوم في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ، حيث حصل على الأغلبية المطلقة في كلا المجلسين، وأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، الذي لم تكن له حتى الأغلبية في الدورة السابقة. وكانت المعارضة اليمينية تستخدم أغلبيتها في مجلس الشيوخ خلال السنوات الماضية لتعطيل العديد من الإصلاحات والتغييرات التي كان يحاول موراليس تمريرها.
وبوليفيا (حوالي 10 ملايين نسمة) هي واحد من بين البلدان الأفقر في أميركا الجنوبية، وتسكنها غالبية من أصحاب البلاد الأصليين، الذي ينتمي موراليس الى أحد شعوبهم، شعب إيمارا، الذي يشكل حوالي ربع سكان البلد، في حين ينتمي حوالي 30 بالمئة غيرهم الى تشكيلات أخرى من سكان البلاد الأصليين، لكل منها ثقافته ولغته وتقاليده. واسم البلد الرسمي حالياً، بعد تبني الدستور الجديد في مطلع العام 2009، هو "دولة بوليفيا متعددة القوميات"، حيث أصبحت اللغات الرسمية 36 لغة محلية، بالإضافة الى اللغة الإسبانية، لغة الغزاة والمهاجرين من أوروبا، ونسبة النسل الصافي لهؤلاء، أي البيض، من سكان البلد لا تتجاوز حالياً الـ 15 بالمئة، فيما يشكل المختلطون، "ميستيسو" بالإسبانية المحلية، أي من نسل التزاوج بين البيض وأصحاب البلاد الأصليين، حوالي 30 بالمئة من السكان.
ومشروع موراليس، كما هو معروف، هو مشروع يساري جذري، وهو سياسياً أقرب الى تجربة أوغو تشافيس في فنزويلا، ويقيم صلات قوية مع كوبا. وقد حقق موراليس بعض الخطوات الهامة في فترة رئاسته الأولى، ومن أبرزها نجاحه في وضع دستور جديد من قبل مجلس تأسيسي منتخب، وهو دستور تم الإستفتاء عليه في مطلع العام 2009 وحاز على أغلبية واسعة - أكثر قليلاً من 61 بالمئة من الأصوات-، وهو دستور يعترف بحقوق كافة الشعوب والثقافات الموجودة في البلد، وبشكل خاص طبعاً تلك الغالبية من السكان التي هي من نسل سكان البلد الأصليين، كما ذكرنا. ومن المتوقع أن يقوم موراليس بتعميق هذه التحولات في ولايته الجديدة، بحيث يتمكن من التقدم على الطريق الطويل الذي اعتبره هدفاّ لحزبه "الحركة نحو الإشتراكية"، إشتراكية القرن الحادي والعشرين، كما يسمونها هناك، وعلى الأقل في المراحل الأولى، إخراج غالبية شعبه من حالة الفقر والعوز التي عانى منها لعقود، بل لقرون، طويلة.
ولم يكن موراليس ليحقق هذا النجاح الكبير في الإنتخابات الأخيرة لولا الإنجازات الملموسة التي تحققت لمواطنيه وللبلد خلال مرحلة حكمه الأولى. حيث تمكنت بوليفيا من التخلص من الأمية في العام 2008، بإقرار من منظمة "يونسكو" التابعة للأمم المتحدة، وهو إنجاز كبير بالنسبة لبلد من أفقر بلدان أميركا الجنوبية. كما حقق اقتصاد البلاد نمواً بمعدل يقترب من الـ 5 بالمئة سنوياً منذ تسلّم موراليس السلطة في مطلع العام 2006، وهي نسبة لم تشهدها بوليفيا منذ 30 عاماً. ومن المتوقع أن يحقق إقتصاد بوليفيا مع نهاية العام 2009 نسبة نمو تقترب من الـ 3 بالمئة، وهي أعلى نسبة بين كافة بلدان النصف الغربي من الكرة الأرضية، أي بما يشمل دول أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية جميعها، وذلك وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وهي جهة لا يمكن اتهامها بالتحيز لصالح نظام يساري. وهو ما يُعتبر إنجازاً كبيراً في فترة الأزمة الإقتصادية العالمية الطاحنة التي انطلقت من شمال القارة.
وكان نظام موراليس قد أقدم، منذ بدايات حكمه، على إجراءات تأميم طالت قطاعات الموارد الطبيعية، وخاصة الغاز، الذي تعتبر بوليفيا البلد الثاني في أميركا الجنوبية، بعد فنزويلا، من حيث حجم الإحتياطي المكتشف منه. ومجمل الثروات الطبيعية للبلد كانت قبل وصوله الى الحكم تحت سيطرة احتكارات أجنبية، وقلة صغيرة من السكان كانت تستفيد منها على حساب الأغلبية، وخاصة من أهل البلاد الأصليين. كما قامت حكومة موراليس بتغيير شروط التعامل مع الشركات المستثمرة المتبقية أو الجديدة، بحيث تحصل الدولة البوليفية على نسبة أكبر من الأرباح. وهو ما سمح بمضاعفة دخل الدولة من هذه الثروات. ومجمل هذه الإجراءات وغيرها، خاصة في مجال ضبط الوضع الإقتصادي في بلد كان يعاني من الفوضى والفساد في العقود الماضية، جعلت موازنة الدولة البوليفية تحقق فائضاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مقابل سنوات طويلة سابقة كانت تعاني فيها من عجز مزمن.
هذا، ويحتوي باطن الأرض في بوليفيا، الى جانب الغاز والنفط، على معدن ليثيوم، المستخدم في مجالات صناعية وعسكرية وطبية عديدة، منها صناعة البطاريات وبعض مكونات أجهزة الحاسوب وأجهزة إلكترونية أخرى. وبالرغم من أن بوليفيا لم تبدأ بعد باستخراج هذا المعدن، فإن ما يتوفر لديها من احتياطي مكتشف يضعها في المرتبة الأولى في العالم، حيث يكاد يصل حجم احتياطيها من هذا المعدن الى نصف الإحتياطي المكتشف منه في العالم. وهو ما سيشكل مصدر ثروة هاماً إضافياً للبلد، يفتح مجالاً لتطوير مستوى معيشة السكان. علماً بأن الدولة خصصت نسبة ملموسة من موازنتها خلال السنوات الماضية من ولاية موراليس للخدمات الإجتماعية، وخاصة في مجالات التعليم والصحة، ولدعم الفئات الأفقر وتربية الأطفال وتوفير الضمان المعيشي للمسنين.
كما بدأت حكومة موراليس بإصلاحات في المجال الزراعي لتقليص سيطرة كبار الملاك، لكنها لقيت مقاومة قوية من الأقلية ذات الأصول الأوروبية المتحكمة بالمناطق الأغنى في شرقي البلد، حيث تنتعش الملكيات الإقطاعية الكبيرة. وبات البلد في إحدى مراحل الصراع الداخلي مهدداً بالتفتت، وبانفصال هذه الولايات الشرقية الغنية. لكن نتائج الإنتخابات الأخيرة تعطي لموراليس دعماً قوياً، وتضع تلك الأقلية اليمينية في زاوية ضيقة، وبالتالي تقلل كثيراً من احتمالات الإنفصال وتقسيم البلد، خاصة وأن موراليس حقق نتائج إنتخابية جيدة نسبياً في الولايات التي يحكمها ولاة ينتمون الى اليمين المعارض، حيث بلغت نسبة التصويت له في هذه الولايات ما بين 37 و45 بالمئة من الأصوات، في حين اقتربت أصواته في ولايات أخرى من الـ 80 بالمئة، ولم يتجاوزه مرشح اليمين في الأصوات إلا في 3 ولايات من أصل 9، وبفروقات غير كبيرة. في حين صوتت الجاليات البوليفية خارج البلد بنسبة تقترب من الـ 70 بالمئة لصالح موراليس.
وكان موراليس قد طرد السفير الأميركي في بوليفيا في أيلول/سبتمبر 2008، ابان عهد جورج بوش، لكونه أجرى اتصالات ولقاءات مع المتمردين والساعين الى تقسيم البلد من المعارضة اليمينية، متهماً الإدارة الأميركية بمحاولة النيل من وحدة البلد والمس بأمنه الداخلي.
ومعروف أيضاً أن موراليس قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ابان عدوانها على قطاع غزة في الأيام الأخيرة من العام 2008 والأيام الأولى من العام 2009، تضامناً مع الشعب الفلسطيني وإدانةً للممارسات الإسرائيلية. وكان حليفه الفنزويلي، أوغو تشافيس، قد شاركه في اتخاذ قرار شبيه.

تشيلي: خليفة الرئيسة الحالية سيكون من اليمين أو الوسط

من الجهة المقابلة، شهدت الإنتخابات الرئاسية التي جرت يوم 13/12/2009 في تشيلي، تقدم مرشح اليمين بنسبة عالية من الأصوات في الدورة الأولى، مما يجعله، بطبيعة الحال، في موقع أفضل للنجاح في الدورة الثانية التي تجري في 17/1/2010. لكن هذا الأمر ليس محسوماً تماماً، لكون المرشحَين الآخرين في الدورة الأولى، اللذين جاءا في المرتبتين الثالثة والرابعة من حيث عدد الأصوات، ينتميان الى التيار اليساري، حيث حصلا معاً على أكثر قليلاً من 26 بالمئة من الأصوات، وإن كان أقواهما لم يعلن دعمه لمرشح إئتلاف يسار الوسط في الدورة الثانية. مما يعني أن بعض المصوتين له قد لا يدعمون هذا المرشح في الدورة الثانية، وهو ما يعزز فرص مرشح اليمين الرئيسي في النجاح.
ويُذكر أن الرئيسة الحالية لتشيلي، ميشيل باتشيليت، التي بدأت ولايتها في آذار/مارس 2006، تنتمي الى الحزب الإشتراكي، أحد شركاء إئتلاف يسار الوسط الذي ينتمي إليه أيضاً مرشح الرئاسة الحالي إدواردو فري. لكن فري ينتمي الى الحزب الديمقراطي المسيحي، الأقرب الى الوسط في إطار هذا الإئتلاف. أي ان الرئيس القادم لتشيلي لن يكون محسوباً على اليسار في كلا الإحتمالين. وكانت الرئيسة باتشيليت قد مارست خلال سنوات حكمها سياسة إقتصادية معتمدة على الإنفتاح الرأسمالي داخلياً، مع بعض إجراءات الدعم الإجتماعي للقطاعات الأفقر، وعلى جملة من اتفاقات التجارة الحرة مع عدد من دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة والصين. وهي اتبعت، بالمقابل، نهجاً تضامنياً، الى حد ما، مع الأنظمة اليسارية الأخرى في القارة اللاتينية. وهي، من هذه الزاوية، مارست سياسة هي اقرب الى تجربة حكم الرئيس "لولا" في البرازيل.
والمرشح الحالي لإئتلاف يسار الوسط في انتخابات الرئاسة، الديمقراطي المسيحي إدواردو فري، كان رئيساً سابقاً للبلد بين العامين 1994 و2000. ومعروف أن النظام الإنتخابي في تشيلي، وبعض بلدان أميركا اللاتينية الأخرى مثل أوروغواي، لا يتيح للرئيس أن يترشح مرة ثانية مباشرة بعد ولايته الأولى، بينما يتيح له ذلك بعد مضي سنوات على مغادرته الرئاسة. وهو ما يعني أن الرئيس القادم في تشيلي إما أن يكون مليارديراً يمينياً أو أن يكون من الوسط. واستطلاعات الرأي الأولى، قبل شهر من الدورة الثانية للإنتخابات، ترجّح احتمال نجاح مرشح اليمين.

هل يتكرر سيناريو تشيلي في البرازيل، بعد عام؟

يبقى أن نشير، في السياق ذاته، الى أن البرازيل، عملاق القارة اللاتينية (أكثر من 190 مليون نسمة)، ستشهد في أواخر العام 2010، انتخابات رئاسية وتشريعية، ما زالت استطلاعات الرأي تعطي الأفضلية فيها لمرشح يمين الوسط، ليرث الرئيس اليساري الحالي.
وكان الرئيس الحالي للبرازيل، لويس اناسيو داسيلفا، المعروف بلقب "لولا"، والذي جرى انتخابه رئيساً للمرة الأولى في العام 2002، ثم أعيد انتخابه في العام 2006، ينتمي أصلاً الى الوسط النقابي العمالي والى حزب يساري جذري، هو "حزب الشغيلة". لكنه، في موقع الرئاسة، مارس سياسات تشجّع رأس المال المحلي والإستثمارات الخارجية، مع إدخال بعض الإجراءات الإجتماعية لمساعدة الشرائح الأفقر في البلد، بحدود معينة، دون تغيير السمة الغالبة الرأسمالية للبلد، ودون حل جذري لمشكلة الفقر والتفاوت الكبير في المداخيل بين السكان.
وفي الوقت ذاته، أبدى تضامناً مع الأنظمة اليسارية الأخرى في القارة، ولعب دوراً إيجابياً على الصعيد الدولي في محاولة لتطوير العلاقات بين بلده وبلدان أميركا الجنوبية عامة، من جهة، وبلدان إفريقيا، من جهة أخرى، والمنطقة العربية، من جهة ثالثة، ومع البلدان العملاقة الصاعدة في آسيا، وخاصة الصين والهند. وعلى الصعيد الإقتصادي الإجمالي، حققت البرازيل خلال ولايته تقدماً ملحوظاً وتمكنت من تجاوز مضاعفات الأزمة الإقتصادية العالمية بدون ضرر كبير. وتحول البلد فعلاً الى أحد البلدان الصاعدة الرئيسية المرشحة للعب دور كوني أكبر في إعادة رسم الخارطة العالمية. وتُعتبر البرازيل اليوم، مع الهند وروسيا، وبعد الصين، أحد البلدان المرشحة للصعود الى مرتبة الدول الكبرى في السنوات، أو العقود، القادمة.
وبما انه لا يحق للرئيس الحالي "لولا" أن يجدد ترشيحه للرئاسة مرة ثالثة، فقد دعم ترشيح الأمينة العامة للحكومة، ديلما روسيف، لتكون ممثلة عن حزبه، حزب الشغيلة، في انتخابات الرئاسة القادمة، وهو اختيار تبناه الحزب لاحقاً بشكل رسمي. لكن استطلاعات الرأي، كما ذكرنا، لا زالت حتى الآن تعطي الأفضلية، وبمسافة كبيرة، لمرشح أحد أبرز أحزاب يمين الوسط.

انتخابات أوروغواي: زعيم "توباماروس" السابق يصبح رئيساً

أما ما جرى في الإنتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في بلد صغير من بلدان أميركا الجنوبية، وهو أوروغواي (أقل من 4 ملايين نسمة)، فهو ذهب في الإتجاه الآخر، بصيغة مختلفة عما جرى في تشيلي.
ففي الدورة الثانية للإنتخابات الرئاسية، التي جرت يوم 29/11/2009، فاز مرشح إئتلاف اليسار- الوسط، الذي يحمل اسم "الجبهة الواسعة"، على مرشح اليمين. وكانت "الجبهة الواسعة" – فرينتيه أمبليو، بالإسبانية - قد حققت أيضاً فوزاً على أحزاب اليمين في الإنتخابات التشريعية التي جرت، مع الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية، يوم 25/10/2009، مجددة نجاحها الأول، في أواخر العام 2004، الذي شكّل إنجازاً تاريخياً، لكونها المرة الأولى التي تنجح فيها قوة من غير أحزاب اليمين التقليدي في البلد. مع إن "الجبهة الواسعة" خسرت عدداً قليلاً من المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ في الإنتخابات الأخيرة، ولكن دون خسارة الأغلبية في المجلسين. وجاء مرشحها للرئاسة في المرتبة الأولى في هذه الدورة الأولى.
وبما ان القانون في أوروغواي لا يسمح، كما في تشيلي، بالترشح للرئاسة أكثر من مرة واحدة بالتتالي، فإن الرئيس المنتخب في العام 2004 تاباري فاسكيس، الذي تولى مسؤولياته في مطلع العام 2005، والذي حظي بشعبية كبيرة في البلد خلال سنوات حكمه، أفسح المجال أمام مرشح آخر من "الجبهة الواسعة"، هو في الواقع على يساره من حيث المنشأ، واسمه خوسيه موخيكا. وكان بعض أطراف الجبهة الواسعة يتخوف من إمكانية فشل المرشح الجديد للرئاسة، خاصة وأنه كان سابقاً أحد قادة حركة التحرر الوطني "توباماروس"، التي مارست العمل المسلح و"حرب العصابات في المدن" في الستينيات ومطلع السبعينيات، وتعرّض للإعتقال من قبل الإنقلابيين العسكريين في العام 1973 وأُودع السجن في ظروف قاسية جداً، حيث أمضى عامين من أعوام اعتقاله الثلاثة عشر في قاع بئر، وبقي سجيناً الى أن انتهى حكم العسكر في العام 1985. وبعد إطلاق سراحه، قام موخيكا ورفاقه بتشكيل حركة جديدة في العام 1989 عُرفت باسم "حركة المشاركة الشعبية"، انضمت بعد ذلك الى "الجبهة الواسعة"، التي كانت قد تشكّلت منذ العام 1971. وانتخب موخيكا عضواً في المجلس النيابي في العام 1994، ثم في مجلس الشيوخ عام 1999، وأعيد انتخابه في العام 2004، ثم جرى اختياره وزيراً للزراعة والثروة الحيوانية في حكومة الإئتلاف اليساري بعد تسلّم هذا الإئتلاف السلطة في مطلع العام 2005.
وخلافاً للرئيس اليساري الذي تولى الحكم في ذلك العام، تاباري فاسكيس، والذي ينتمي الى المجتمع المديني المثقف، فهو طبيب مختص بمرض السرطان، وسبق أن كان رئيساً لبلدية العاصمة مونتيفيديو بين العامين 1990 و1995، فإن الرئيس الجديد المنتخب، موخيكا، أقرب الى الوسط الفلاحي والشعبي. وهو استمر، بعد إطلاق سراحه، في العيش في منزل متواضع في منطقة شعبية، حيث كان يقوم بنفسه بأعمال زراعية في أرض حول منزله. كما أنه معروف بقلة الإعتناء بهندامه، وبلكنته وتعبيراته الشعبية الأقرب الى الشرائح الأفقر في البلد.
هذا، مع العلم بأن أوروغواي، التي تعيش فيها أغلبية من أصول أوروبية خالصة (88 بالمئة)، ولا يعيش فيها عدد كبير من أهل القارة الأصليين (الملقبين خطأً باسم "الهنود الحمر") وقلة قليلة من السود الأفارقة المستوردين في عهود العبودية في أنحاء القارة، تُعتبر في مستوى معيشتها وسلوكيات قسم كبير من مواطنيها أقرب الى المناخ الأوروبي الغربي، منها الى مناخ دول القارة الأخرى الأفقر والأكثر تنوعاً عرقياً. ولذلك جاء نجاح موخيكا كإنجاز، استفاد بالتأكيد من كون حزبه "حركة المشاركة الشعبية" قد تحوّل في السنوات الأخيرة الى القوة الأكبر في "الجبهة الواسعة"، التي تضم أكثر من عشرين حزباً وحركة وتجمعاً، وتشمل تيارات متنوعة، من الحزب الإشتراكي الى الحزب الشيوعي الى الحزب الديمقراطي المسيحي وقوى أخرى.
وخلافاً لبلد مثل بوليفيا، بقي اليمين قوياً نسبياً في أوروغواي، حيث حصل مرشحه في الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة في 29/11 الماضي على 43 بالمئة من الأصوات مقابل أكثر قليلاً من 52 بالمئة لموخيكا.
وهذا الإئتلاف اليساري أو اليساري – الوسطي الحاكم في أوروغواي منذ العام 2005 أقرب في برنامجه وسياساته، خاصة على الصعيد الإقتصادي، الى سياسات الرئيس البرازيلي الحالي لويس إناسيو "لولا" دا سيلفا. وقد حرص الرئيس المنتخب الجديد في أوروغواي، خوسيه موخيكا، على التأكيد على قربه من النموذج البرازيلي، لطمأنة البورجوازية في البلد، على حد تعبيره، وكذلك لطمأنة المستثمرين الأجانب الذين تدفقوا بكثافة على البلد خلال السنوات الأخيرة، مما جعل أوروغواي تحقق نمواً إقتصادياً جيداً في الفترة الأخيرة، بالرغم من الأزمة المالية والإقتصادية العالمية.
وإذ تبدو هذه النتيجة الإنتخابية في أوروغواي مختلفة عن تلك التي حصلت في تشيلي، يبقى من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه التجربة، مع استمرار قوة اليمين والشرائح الرأسمالية المحلية، والإعتماد الكبير على الإستثمارات الخارجية. ومن الواضح أن لكل بلد في المنطقة خصوصيته، وهناك دور مهم في كل حالة للتوازنات الداخلية في البلد، وتحديداً بين القاعدة الإجتماعية لليمين، وخاصة الشرائح الرأسمالية، والقاعدة الشعبية لليسار وحلفائه.

تشافيس يدعو الى "أممية خامسة" لقوى اليسار والحركات الشعبية في العالم

وجدير بالذكر أن رئيس فنزويلا، أوغو تشافيس، الذي استضاف في العاصمة كاراكاس بين 19 و21/11/2009 أكثر من خمسين منظمة يسارية من 31 بلداً، دعا أثناء هذا اللقاء الى تشكيل "أممية خامسة" لقوى اليسار والحركات الشعبية في العالم "لمواجهة التحدي الذي تشكله الأزمة الكونية للرأسمالية". وقال تشافيس ان هذا الإطار الإشتراكي "ينبغي أن يكون إطار اليسار الحقيقي، المستعد للكفاح ضد الإمبريالية والرأسمالية". وأضاف ان هذه الأممية الجديدة ينبغي أن تعمل "بدون تقييدات"، وأن تحترم تنوع مكوناتها المختلفة.
وقد لقي اقتراحه تجاوباً من عدد من القوى المشاركة، وخاصةً "الحركة نحو الإشتراكية" الحاكمة في بوليفيا، و"جبهة فارابوندو مارتي للتحرر الوطني" في السلفادور، القوة الأولى في ذلك البلد حالياً، و"الجبهة الساندينية للتحرر الوطني" في نيكاراغوا، و"تحالف البلاد" الحاكم في إكوادور، بالإضافة الى عدد من القوى الأخرى الأصغر في بلدان أميركا اللاتينية، وفي أستراليا. فيما وعدت قوى يسارية أخرى من ألمانيا وفرنسا والبرتغال بدراسة الإقتراح في هيئاتها المقررة. بينما أبدت بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية الأخرى المشاركة، مثل الحزب الشيوعي اليوناني والحزب الشيوعي البرازيلي، إعتراضاً أو تحفظات على المقترح.
وقرر المشاركون في اللقاء تشكيل لجنة تحضيرية للدعوة الى مؤتمر واسع للقوى اليسارية في العالم يعقد في كاراكاس في نيسان/أبريل 2010. وفي بيان صدر عن اللقاء، أكدت القوى المشاركة "على قناعتها بضرورة العمل بحزم لبناء وكسب اشتراكية القرن الحادي والعشرين"... في وجه "الأزمة الشاملة للنظام الرأسمالي الكوني". كما عبرت القوى المشاركة عن تضامنها مع شعوب العالم المكافحة من أجل حريتها وتطورها، منددة بالحصار المفروض على كوبا، وبـ"المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني"، كما بغزو العراق وأفغانستان.
وكرر تشافيس دعوته لتشكيل "الأممية الخامسة" في افتتاح المؤتمر الأول الإستثنائي للحزب الإشتراكي الموحد في فنزويلا، يوم 21/11/2009، وهو الحزب الذي يترأسه هو والذي بات يضم زهاء المليون عضو. ومن المفترض أن يستمر هذا المؤتمر حتى نيسان/أبريل القادم، موعد انعقاد المؤتمر العالمي التحضيري لـ"الأممية الخامسة" الذي تم الإتفاق عليه في لقاء القوى اليسارية.
***
وجدير بالذكر أن كافة البلدان الأميركية اللاتينية ذات الأنظمة اليسارية، بتلاوينها المختلفة، صوتت في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2009، ثم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر التالي (5/11)، لصالح إقرار تقرير غولدستون الخاص بإدانة جرائم الحرب في قطاع غزة، باستثناء أوروغواي، التي امتنعت عن التصويت. وهو ما فعلته أيضاً دول أميركا اللاتينية الأخرى ذات الأنظمة غير اليسارية، مثل المكسيك في لجنة حقوق الإنسان، التي عادت وصوتت لصالح التقرير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما امتنعت عن التصويت كل من كولومبيا وكوستاريكا، اللتين يحكمهما نظامان غير يساريين، في الجمعية العامة. في حين كانت باناما الدولة الوحيدة في أميركا اللاتينية التي صوتت ضد تبني التقرير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل و15 دولة أخرى، مقابل 114 دولة صوتت لصالح التقرير.
ومن الواضح أن المناخات اليسارية في أميركا اللاتينية تدفع، بشكل عام، الى التضامن مع الشعب الفلسطيني وشعوب "العالم الثالث" عامة. هذا دون التقليل من أهمية الدور الذي تلعبه هناك الجاليات ذات الأصول الفلسطينية والعربية، وهي كبيرة في بعض هذه البلدان.