كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (8)- جيفارا وعبدالناصر: قلق وهواجس!


عبد الحسين شعبان
2009 / 12 / 21 - 18:45     

انتظر الرئيس عبدالناصر عودة جيفارا من الجزائر، وعاد إليها فعلاً قبل سفره إلى كوبا، وكان عبدالناصر قد اطلع على خطابه المشحون بالهّم والمسؤولية والقلق الذي حمله على كاهله، إزاء مستقبل "الحركة الثورية" وآفاق نضالها.
إذاً من الجزائر فجّر جيفارا القنبلة يوم ألقى خطابه الشهير، والذي سيعرف في الأدب السياسي "بخطاب الجزائر" الذي كان عبارة عن رؤية مكثفة لتوجهاته الاشتراكية ونقده للبيروقراطية السوفييتية، التي احتجّت على ذلك الخطاب رسمياً لدى كوبا، وجرى حديث في السر والعلن عن ضغوط موسكو على كاسترو، لاسيما وأن كوبا كانت بحاجة إلى المساعدات السوفييتية.
كان خطاب الجزائر في 24 فبراير 1965 محطة فاصلة عبّر فيها جيفارا عن ما كان يلوّح به من انتقادات ووجهات نظر إزاء التحديات والمصاعب النضالية، ليس في جانبها الموضوعي من طرف "العدو الطبقي" حسب، بل بجانبها الذاتي، خصوصاً مواقف البلدان الاشتراكية والاتحاد السوفييتي تحديداً، الأمر الذي جعله في تناقض بينه وبين الواقع من جهة، وبين الرغبات والإرادات من جهة أخرى، وبين الدول الاشتراكية ومصالحها من جهة والدول النامية وحركات التحرر الوطني في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا من جهة أخرى.
ولعل التناقض الأكبر كان بينه وبين نفسه، فرغم آماله الكبيرة لكن ثمة تشاؤم كان قد بدأ يتسلل إليه، لم يطرده إلا بشحذ العزيمة والإرادة بديلاً عن الواقع، وهو ما عبّر عنه في حديثه مع عبدالناصر، الذي وإن كان يكّن له محبة أخوية لأفكاره النبيلة ولشخصه الكريم الآتي من قارة أخرى (لنصرة الثورة في إفريقيا) لكنه كان يأمل "اعتدال" مطالبه الثورية، وعندما كان جيفارا قد حصل على موافقة أحمد بن بلّه على دعم ثوار الكونغو، الذي سيتولى هو تقديم المساندة الكوبية لهم، كان وقتها يتقلب في فراشه لليلة كاملة: هل يطلب ذلك من عبدالناصر أيضاً وماذا سيكون رد فعله؟
بعد خطاب الجزائر الشهير، توجّه جيفارا إلى القاهرة يوم 2 مارس 1965 ومكث فيها 8 أيام، ودار بين الزعيمين المصري القومي العربي وبين الكوبي الأممي حديث حول سبل تحرير إفريقيا، وعندما علم عبدالناصر بمشروع جيفارا بالانخراط في العملية العسكرية في الكونغو، أبدى قلقه ومخاوفه، ووجه الخطاب مباشرة إلى صديقه، قائلاً له بكل وضوح: "أنت تدهشني جداً.. هل تريد أن تصبح طرزاناً جديداً؟ رجلٌ أبيض بين الزنوج من أجل قيادتهم وحمايتهم.. هذا مستحيل!! لن تنجح أبداً.. سيسهل كشفك لأنك أبيض، وإذا أتيت مع الكثير من البيض.. فستعطي الإمبرياليين الفرصة للقول بأنه لا يوجد فرق بينكم وبين المرتزقة".
وأردف عبدالناصر بالقول ببعد نظرٍ ودراية بظروف الصراع الدولي وشؤون السياسة والدبلوماسية، فضلاً عن كونه عسكرياً ميدانياً يعرف خطورة اتخاذ قرار من هذا القبيل: "إذا ذهبت إلى الكونغو مع كتيبتين كوبيتين، وإذا أرسلت معك كتيبة مصرية فسيتهموننا بالتدخل في الشؤون الداخلية في الكونغو، وهذا يضر أكثر مما ينفع"!
في منزل عبدالناصر في المنشية، تابع الصديقان حوارهما في ليلة أخرى أفضى جيفارا بهمومه ومشاغله الفكرية والسياسية، ومتاعبه العملية، وشرح أسباب انتقاده لمعاملة الدول الاشتراكية "الأنانية"، كما وصفها، وأفاض ما في قلبه من حنق، كان قد عبّر عنه في خطاب الجزائر.
في تلك الليلة جرى الحوار بين عبدالناصر وجيفارا حول الموت، الذي كان يتردد على لسان جيفارا باستمرار، فقال عبدالناصر وهو الأخ الأكبر: لماذا تتكلم دائماً عن الموت؟ أنت رجل شاب، إذا اضطررنا أن نموت سنموت من أجل الثورة، ولكن الأفضل أن نحيا من أجلها، لكن جيفارا برومانسيته وحسّه لما هو ذاهب إليه، كان قد وضع الموت نصب عينيه، وعندما اضطر أن يضرب مثلاً حول بيرون الزعيم الأرجنتيني فأشار إلى جبنه وهروبه، لأنه لم يقوَ على مواجهة الموت، وشدد جيفارا قوله وهو ما أوفى بعهده: اللحظة الحاسمة في حياة الإنسان هي عندما يتخذ قراراً بمواجهة الموت، فإذا قرر ذلك فهو البطل سواءً توّجت معركته بالنجاح أو بالفشل! لقد كان يدرك خطورة قراره، وربما لم يتأكد من نجاحه في معركته، لكن ما كان متأكداً منه هو صدقية خياره وشجاعته في مواجهة الموت لحظة يتطلب ذلك منه، وهنا مقياس اختبار لقيمه ومبادئه، لاسيما حين يبدي استعداده للتضحية بحياته من أجلهما.
وبقدر حبّه للحياة وتمسكه بأهدابها، فقد كان يسترخص الموت من أجل حياة حرة كريمة، ولعلي بهذه القراءة الارتجاعية أستعيد هذا التناقض والتحدي الذي يمثل جوهر سلوك جيفارا من خلال هذا البيت الكثير الانطباق عليه وهو ما كان الجواهري الكبير يردده باستمرار:
وأركبُ الهولَ في ريعان مأمنةٍ
حبّ الحياةِ بحب الموت يُغريني
زار جيفارا سد أسوان العظيم وأعجب به أشدّ الإعجاب، وكان بصحبة عبدالناصر، وزار معه أيضاً افتتاح أحد المصانع، فلقي ترحيبا هائلاً من عمالها وأهل القرية، وقد تأثر جيفارا كثيراً لما أسماه "بالخميرة الثورية"، وقد علق عليها عبدالناصر، ببساطة: الحصول عليها يتطلب هذا، مشيراً إلى المعمل. ودار حوار بينهما حول انتصار الثورة التي تتحقق بجهود الثوار، لكن البناء يتم بمساعدة التكنوقراط البيروقراطيين الذين هم أحياناً ضد الثورة كما يُقال.
ولعل حواره مع ناصر كان وراء كتابة مقالة بعنوان "الاشتراكية والإنسان وكوبا" التي تعتبر أساساً في الفكر الجيفاري، الذي ألهم شباناً وشابات من جميع القارات، فقد أراد أن يضع بعض النقاط على الحروف، لاسيما فيما يتعلق بالحصول على التقنية وبناء الإنسان الجديد.
يقول جيفارا في خاطرة حول الموت: لون حريتنا وخبزنا اليومي أحمر كالدم وهما منتفخان بالتضحيات، تضحياتنا واعية، نحن نبني ثمن الحرية.. تسلّموا تحيتنا الطقسية كمصافحة أو كسلام ملائكي: النصر أو الموت.
لخّص جيفارا في الزيارة الأولى التجربة المصرية بقوله: أول خطوة قامت بها الحكومة المصرية لتنظيم الهيكل الاقتصادي هي الإصلاح الزراعي الذي تناول ألفاً و768 من كبار الملاكين مع توزيع الأراضي المسترجعة على الفلاحين والتي تشكل %10 من الأراضي. أصبحت التعاونية أساس الاقتصاد الزراعي وهي مؤلفة من صغار الملاكين لهكتار أو اثنين ويعملون في الأرض جماعياً ولكن يستفيدون منها قروياً. وكان جريئاً عندما ندد في 28 سبتمبر 1962 بتجربة المعامل المؤممة وهو وزير للصناعة، لأنها فشلت والآلات مهملة ويعلوها الصدأ.
آخر زيارة لمصر هي عندما جاءها متخفياً بهوية روسية، وأمضى نهاراً واحداً في القاهرة، وذلك في 5 أبريل 1965 قبل سفره إلى دار السلام لبدء العملية العسكرية في الكونغو، التي يتحدث عنها بمرارة. لعله تذكّر ما دار بينه وبين عبدالناصر وإذا استعدنا الأمر الآن، فكلاهما كانا على صواب، وربما في الوقت نفسه على خطأ، فعبدالناصر تحدث من موقع الدولة، المسؤول، الذي يحسب تبعات انخراطه في عمل مسلح لمجموعات ثورية وردود فعل الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الكبرى، ولكن كان بالإمكان التنسيق معه وتسهيل مهمته بشكل غير رسمي وهو غالباً ما كان يحدث.
أما جيفارا فقد أراد للثورة أن تبقى حلماً وردياً، حتى وإن كان بعيد المنال، فأسقط إرادته على الواقع، لكي يستعجل في إنضاج العامل الذاتي، حتى إن تطلّب الأمر أن يأتي من أميركا اللاتينية ليقود كتائب ثورية في الأدغال، دون حساب للمخاطر والتحديات التي قد تطال حياته، وهو ما كان يتطلب وربما ما يزال حتى الآن وقفة مراجعة جدّية جريئة، بخصوص دور العامل الذاتي سلباً أو إيجاباً، وكذلك تقدير دور العامل الموضوعي داخلياً ودولياً، دون استخفاف أو مبالغة بالذات بالآخر "العدو" ومراعاة مسألة التراكم الكمي والوضع الاجتماعي والعادات والتقاليد، التي تحول دون تحقيق الحلم الثوري!
كان جيفارا يستعد لتنظيم مؤتمر القارات الثلاث حيث كان من المزمع عقد اجتماعات تمهيدية في 24 أغسطس 1965 بتنسيق مع المهدي بن بركة تضم ممثلين عن: آسيا، وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن الذي حدث كان مفاجئاً بكل المقاييس: حصل الانقلاب ضد أحمد بن بلّه في 19 يونيو 1965 وقبل انعقاد المؤتمر اختطف المهدي بن بركة في باريس في خريف العام ذاته، واختفى جيفارا عن الظهور قبيل ذلك!