الإيجابيات المزعومة للعولمة وسياسة التضليل


محمد بودواهي
2009 / 12 / 19 - 09:47     

بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي في أواخر القرن العشرين ، هيمنت الولايات المتحدة الأمريكية على دول العالم ، وظهر بذلك النظام العالمي الجديد المؤسس على القطبية الواحدة ، فأصبحت العولمة تفرض نفسها على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية والتقنية ، وبالتالي تداخلت العلاقات بين مختلف دول العالم وتقلصت المسافات بينهم وألغيت الحدود الجغرافية مما أدى إلى تسهيل حركة مرور الأشخاص والسلع والمعلومات ورؤوس الأموال والخدمات .
وعلى إثر هذا التحول تطورت وسائل الإعلام والاتصال والمواصلات ، وحدثت الثورة المعلوماتية ، وتزايد نفوذ وسيطرة الشركات متعددة الاستيطان الأمريكية منها خاصة والأوربية واليابانية والصينية ، وتم إنشاء منظمة التجارة العالمية بهدف تحرير المبادلات التجارية والاقتصادية عبر دول المعمور لتضاف إلى مهام صندوق التقد الدولي والبنك العالمي حيث تكالبت هذه المؤسسات الاقتصادية الضخمة - ومن ورائها الدول الإمبريالية - لإضعاف اقتصادات الدول النامية سواء عن طريق الإقراض أو " منح الهبات " أو الحصار أو عن طريق التدخل العسكري المباشر ....
وموازاة مع هذه التطورات كان إعلام الليبرالية الجديدة يسوق خطابا يقول أن العلمانية هي الوحيدة الكفيلة بانتشال دول العالم الثالث من تخلفها وفقرها وتأهيلها اقتصاديا واجتماعيا وفكريا ، وبأنها الوحيدة القادرة على تغيير العالم إلى الأفضل ، وأن سعادة البشرية رهين بتطبيق برامجها التي تعمل من أجل تقليص الهوة بين الثراء الفاحش والبؤس ، وأن بفضلها ستعرف الإنسانية الاستقرار والرفاه ، وسينتشر السلم بين الشعوب ، وسيعم الازدهار الاقتصاد العالمي ، وأن العولمة ادماج واندماج للعلاقات التجارية والتباذل الثقافي والتواصل الإعلامي والسيولة المالية على مستوى العالم ، وأنها فرصة سانحة لمجموع الدول والشعوب لرفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمعيشي على المديين المتوسط والبعيد ، و أنها تساهم في إنعاش الديموقراطية وما يرتبط بها من مبادئ حقوق الإنسان وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، وعلى أنها يمكن أن تكون مصدرا للغنى الثقافي والاجتماعي بما توفره من آليات وإمكانيات ضخمة في هذا الاتجاه ، إذ تسمح بالانفتاح على العالم والاطلاع على أشكال التواصل والتباذل الثقافي ، كما يمكن لها أن تكون مصدرا للثروات والأموال وبالتالي إحداثها للعديد من مناصب الشغل بفضل الاستثمارات العالمية ، لذلك فما على الشعوب النامية إلا أن تستغل هذه الفرصة لتقوم بتأهيل اقتصادياتها وإعادة هيكلتها لتندمج فيها .
غير أن هذا الخطاب كان كله مخادعا إذ أن حصيلة العولمة - وفي هذا الظرف الوجيز من ظهورها - كانت عجفاء بكل المقاييس ، إذ أصبح العالم يئن تحت وطأة الأحادية الفظيعة التي بسطت سيطرتها على جميع القطاعات والمجالات بما فيها مجالات الفكر والثقافة والإعلام والبحث العلمي والقضاء والقانون والملكية الفكرية ، إذ لم يستفد منها إلا مجموع الشركات الرأسمالية العملاقة التي غزت الأسواق واحتكرتها ، فنما رأسمالها بشكل اخطبوطي وبسط هيمنته على الاقتصاد العالمي ، فتنامت البطالة والفقر واتسعت طبقة المهمشين وجيوش المحرومين والعاطلين ، وحرمت أغلبية المجتمعات من التمتع بالكرامة الإنسانية والمساواة وأسباب الحياة الكريمة من تعليم وصحة وسكن ....، كما تم التطاول على السيادة الوطنية للدول وتجاهل الثقافات العالمية التي تتطلبها وترافقها ، بالإضافة إلى أنها منحت للرأسماليين قدرة أكبر للتحكم في صناعة القيم ورؤى الناس وتمثلاتهم وأحلامهم وفي المعلومات والأفكار والتصورات ، وكذلك التحكم في الخيرات الطبيعبة والموارد الأولية سواء منها الفلاحية أو المعدنية أو البحرية أوالغابوية ...ويالتالي إضعاف اقتصاداتها الوطنية ، وهو ما سبب في كوارث اقتصادية واجتماعية جمة حيث اتسعت الفوارق الطبقية بشكل كبير واستفحلت الهجرة القروية والهجرة السرية ، وبدأت الهوية الوطنية في فقدان خصوصيتها ... وفي حالات أخرى تم العمل على زعزعة استقرار الدول عبر إشعال نار الفتنة الطائفية والإثنية والعرقية بين أفرادها وبالتالي تشتيتها وبلقنتها إلى دويلات صغيرة وضعيفة ، وانتشرت الحروب واتسعت دائرتها حيث تحولت إلى شيء عادي وطبيعي وأصبحت مكونا بنيويا لهيمنة الولايات المتحدة التي ما فتئت تستخدم القوة العسكرية للسيطرة على ثروات الشعوب الاستراتيجية كالنفط والغاز من أجل تأبيد هيمنتها الاقتصادية على العالم .
يقول الدكتور سيار الجميل عن العولمة : " إنها عملية اختراق كبرى للإنسان وتفكيره، وللذهنيات وتراكيبها ، وللمجتمعات وأنساقها ، وللدول وكياناتها ، وللجغرافيا ومجالاتها ، وللإقتصاديات وحركاتها ، وللثقافات وهوياتها ، وللإعلاميات وتداعياتها ... "
كما يقول عنها روجيه غارودي : " نظام يمكن الأقوياء من فرض الديكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بدريعة التبادل الحر وحرية السوق "
إن ما أصبح في إطار الحتمي والمؤكد في ظل هيمنة العولمة الحالية هو تغيير ملامح الدولة ومرتكزاتها السابقة حيث أصبحت أقل استقلالا وأقل سيطرة على العمليات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري أطوارها على الرقعة الجغرافية الوطنية أو الإقليمية بل وحتى على مستوى القدرة على صون المميزات الثقافية والهوياتية والقومية .
فمع العولمة الليبرالية لم تعد الدول هي الفاعل الرئيسي في تسيير الحياة العامة للمجتمعات بل تصبح تابعة للرأسمال الدولي وتنحسر سلطتها إلى أدنى المستويات إذ تصبح مهمتها هي توفير الأمن وضمان حرية الاسواق وتنفيد كل الاتفاقيات والمعاهدات التي توقعها مع المؤسسات المالية الدولية وتضمن مصالح الشركات متعددة الاستيطان التي أصبحت هي التي توظف الدولة لسن تشريعات تلائم تطلعاتها فتمنحها سلطة أكبر تضيق بها على حقوق الإنسان وحقوق العمال ومصالح الشعوب . فلا مجال هنا لحرية الإنسان إذ تصبح مجرد رقم في حسابات الربح والخسارة لأننا هنا أمام قوة ضاغطة وقاهرة تكرهه على سلك طريق وحيد مما يشكل تراجعا عن القيم الإنسانية النبيلة التي ناضلت البشرية من أجل تثبيتها قرونا طويلة من الزمان .
إن التكيف مع تحديات العولمة لا يمكن أن يعرف النجاح بالنسبة للدول النامية إلا إذا توفرت مجموعة من الشروط الذاتية والتي هي بمثابة تحديات يجب مواجهتها إن هي أرادت الخروج من دائرة التبرير إلى وضعية المشروع الذي يبحث عن توفير إمكانات وجود محدثة . وفي هذا الإطار يجب التنبيه أن العولمة ليست باللعبة العادلة حيث تتخد القرارات داخل المؤسسات الدولية والاقتصادية على أساس سياسي ، ولخوض غمار هذه اللعبة يجب على الدول النامية أن تعمل على رفض كل السياسات التي لا تصب في مصلحتها ، وهذا يتطلب طبعا قوة تفاوضية كبيرة وترابطا إقليميا وجهويا للاقتصادات العالم ثالثية ، بالإضافة للموقف السياسي القوي والموحد .
إن ما يجعل العولمة هاجسا يؤرق الشعوب والدول النامية هو التسلط الذي تمارسه الولايات المتحدة كدولة عظمى في الوقت الراهن على مجموع دول العالم وعدم احترامها للشرعية الدولية والقوانين ، واتباعها لسياسات ظالمة اتجاه الشعوب المختلفة وفرض سيطرتها الاقتصادية والعسكرية . ومن هذا المنظور فإن معارضة العولمة قد تكون السياسة المثلى التي بواسطتها يمكن حماية الشعوب وخيراتها وأمنها واستقلالها من هيمنة واستغلال الدول العظمى خاصة منها أمريكا.
إن التقليل من المخاطر والقيود الناتجة عن العولمة قد أصبح مرهونا إلى حد كبير بقدرة الشعوب والأمم على زيادة قسمتها من الثروة العالمية وبقدر ما يربحه البلد من قيمة مضافة عبر مساهمته في الإنتاج المعرفي والصناعي والمالي العالمي ، ومدى اعتراف الآخرين بالمجهودات المبذولة ، هذا إضافة إلى اختراق المصاعب الناتجة عن القيود المفروضة في نقل التكنولوجيا الحديثة وانتقال قوة العمل ، والناتجة أيضا عن تقليص دور الدولة لصالح المؤسسات الاقتصادية العالمية في وضع السياسة الاقتصادية الوطنية بما في ذلك تحديد نسبة النمو الاقتصادي ونسبة الاستثمار ومستوى التشغيل والدخل والضمان الاجتماعي وسعر صرف العملة الوطنية ....
وفي هذا الإطار تقدمت حركة مناهضة العولمة في السنوات الاخيرة خطوات واسعة نحو التنظير لعولمة جديدة بديلة عن العولمة التي " أخلفت وعودها " منتقلة بذلك من مرحلة الانتقاد السلبي إلى مرحلة إبداع نظام جديد يكون أكثر عدلا وإنسانية وإنصافا ، فتركز الاهتمام أكثر على معالجة ظاهرة الفقر في الدول الفقيرة وعلى ضرورة إعفائها من الديون التي تراكمت عليها من قبل المؤسسات المالية الدولية ومن الدول الإمبريالية الكبرى .