دبي والأبراج المزدهرة


يعقوب بن افرات
2009 / 12 / 12 - 01:35     

إعلان "دبي وورلد"، صندوق الاستثمارات التابع لإمارة دبي، أنّه لن ينجح في تسديد ديونه هو تذكرة واضحة وتحذير بأنّ الأزمة التي نشبت في صيف 2007 لم تنتهِ بعدُ. صحيح أنّ المبلغ الذي نتحدّث عنه، والذي يصل إلى 56 مليار دولار، بعيد عن التليريونات التي ذهبت هباءً منذ نشوب الأزمة، إلاّ أنّه يشكّل تحذيرًا لكلّ هؤلاء الذين أسرعوا إلى التنبّؤ بأنّ الأزمة قد ولّت.

ما زالت الأزمة بعيدة عن نهايتها، ويشهد على ذلك وضع مجموعة أفريقا- إسرائيل التي تعتبر من إحدى أكبر الشركات في إسرائيل، على شفا الانهيار، على أثر عدم قدرتها على تسديد سندات الدَّيْن التي باعتها للجمهور. نجح ليڤ ليڤايڤ، وهو صاحب الشركة، كالشيخ آل مكتوم من دبي، في مضاعفة قيمة كلّ الأموال التي اقترضها في استثمارها في سوق العقارات الباهظة الثمن. والآن عندما تقلّص سعر هذه العقارات إلى حجمه الطبيعي، تجرّدت مجموعة أفريقا- إسرائيل ودبي من ممتلكاتهما.

مع ذلك، قصّة دبي تختلف عن أفريقا- إسرائيل. "دبي وورلد" هي صندوق حكومي، ما يسمّى Sovereign wealth funds ،(صناديق سيادية) ، الذي من المفترض أن يتمتّع كلّ المستثمرين والمقترضين فيه بضمان حكومي. إلاّ أنّ الأمر ليس على هذا النحو، لم يكن لهذا التوقّع أساس، لأنّ لائحة أنظمة الصندوق تتضمّن بوضوح بندًا مفاده أنّ الحكومة لن توفّر أيّ ضمان للقروض. ومع ذلك تواصلت الاستثمارات في التدفّق، وتواصل ازدهار الأبراج في السماء الصحراوية وبناء الجزر الاصطناعية في مياه الخليج العربي.

لو كان بيرني ميدوف رئيسًا في إمارة دبي، لكان بالإمكان تسمية ما حدث في دبي "لعبة الهرم" أو "لعبة ناطحات السحاب". لم يرغب مستثمرو دبي وورلد في معرفة أكثر من أنّ استثماراتهم جنت أرباحًا تفوق ما هو مألوف في السوق. لكن كما حدث في حالة ميدوف، دبي وورلد أيضًا تورّطت في صعوبات عندما تهاوت قيمة استثماراتها في العقارات في العالَم، وتوقّفت المشاريع العقارية الفاخرة ضمن حدود الإمارة. توقّفت البنوك عن تقديم القروض وتوقّف المستثمرون عن الاستثمار، وجفّت بئر الاستثمارات ولم يعد هناك مقتنون ومستأجرون ولا يمكن مواصلة تسديد الديون.

بما أنّ دبي وورلد هو صندوق حكومي، كان بالإمكان توقّع بأن تبادر حكومة دبي إلى مساعدته، وتتيح له تسديد القروض للبنوك البريطانية والسويسرية، التي موّلت هذه الفقاعة الصحراوية رغم عدم منطقيتها. وهذه المساعدة لم تكن مستحيلة. دبي متعلّقة بجارتها الكبيرة، أبو ظبي، الغارقة في النفط والأموال الفائضة التي تبذّرها في جميع أنحاء العالَم. لسوء حظّ دبي، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حاكم أبو ظبي، لا يحبّ ابن عمّه، آل مكتوم، واستغلّ الأزمة الحالية للحدّ من خطواته وتركيز نفوذ أكبر في يديه.

الاختلافات في الرأي بين الحاكمين هي سياسية في طبيعتها. تقيم دبي علاقات حميمة جدًّا مع إيران، في حين أنّ أبو ظبي مقرّبة للسعودية. التجارة مع إيران هي مصدر دخل يدرّ أرباحًا طائلة لحكّام دبي. يصل مجمل التصدير من دبي إلى إيران إلى تسعة مليارات دولار في السنة، وتصل استثمارات إيران في دبي إلى 300 مليار دولار. تحوّلت دبي إلى شبه طريق التفافية تتجاوز المقاطعة الاقتصادية المفروضة على إيران، بعد أن فتحت الشركات الإيرانية فروعًا لها في دبي واستوردت بضائع من تلك الدول التي امتنعت عن المتاجرة مع طهران بسبب المقاطعة الاقتصادية. يجني الشيخ آل مكتوم أرباحًا من استثماراته العقارية في نيويورك وكذلك من التجارة الواسعة مع إيران. إلاّ أنّه يبدو أنّ هذه اللعبة قد وصلت إلى نهايتها.

يمكن الادّعاء أنّ الأزمة في الخليج ليست إلاّ ردًّا متأخّرًا على انفجار الفقاعة الذي حدث قبل أكثر من سنتين. ينطوي هذا الادّعاء على شيء من الصدق، لكنّ هذا الأمر يعني أيضًا أنّ الأزمة ما زالت قائمة- فسوق العقارات لم تنتعش وكذلك الاقتصاد العالمي والبنوك لم تنجح في استرداد الخسائر الفادحة التي خسرتها. دبي لم تنجح في تجاوز الأزمة، حالها حال مجموعة أفريقا- إسرائيل. تشير مؤشّرات النموّ في أمريكا إلى ارتفاعات ضئيلة ولا تواكب وتيرة الزيادة في عدد السكّان، ونتيجة لذلك طرأ ازدياد دائم على البطالة، التي تشكّل عاملاً أساسيًا للانتعاش الاقتصادي البطيء الذي نشهده اليوم.

اقتصاد طفيلي

وهنا يمكن التنويه بالتحذير الثاني- رغم الأزمة المالية الصعبة التي زعزعت الاقتصاد العالمي، إلاّ أنّ النهج لم يتغيّر. التوجّه النيوليبرالي الذي تلقّى ضربة قاضية، ما زال مسيطرًا كالبديل الأوحد لدفع الزخم الاقتصادي المتوقّف. تشجيع رأس المال والمغامرات المالية والمضاربات في البورصة- هي قلب الجهاز الاقتصادي، الذي يواصل الاعتماد على القطاع الخاصّ وعلى "حكمة" السوق. في الولايات المتّحدة، ارتفعت نسبة البطالة إلى نسبة لا سابق لها، وتعدّت عشرة بالمئة، بينما لا تزال مؤشّرات البورصة ترتفع وتزداد كأنّ شيئًا لم يكن. وبالفعل كيف يمكن تفسير ذلك؟ هل البورصة تقرأ الخريطة بشكل صحيح، أم أنّنا مرّةً ثانيةً بصدد نشاطات مضاربات تُغذّيها الفائدة البنكية التي تقارب الصفر والتي تنتج أموالاً رخيصة ومتاحة لكلّ مغامرة مالية؟

وأكثر من ذلك، كيف يمكن تفسير حقيقة أنّ مديري البنوك الأمريكية، التي أدّت إلى فقد ملايين البشر لمصدر رزقهم وبيوتهم، توزّع هبات مالية للعاملين فيها (تتقاسم فيما بينها أرباحًا) مبالغ مالية تصل إلى 40 مليار دولار؟ وكلّنا نعلم أنّها أموال حكومية طائلة تمّ تحويلها إلى تلك البنوك لمنع انهيارها. واليوم، وبعد أن نعمت بمساعدة الجمهور، تمتنع البنوك عن استثمار دولار واحد في إقامة المصانع وتوفير أماكن العمل، وتواصل الاتّجار بالأموال لتجني أرباحًا أكثر.

كلّما ارتفعت البورصة ازداد حجم الدَّيْن القومي في الولايات المتّحدة، الذي يصل إلى مبلغ خيالي يساوي الناتج الإجمالي القومي الذي يبلغ 11 تريليون دولار. في نفس الوقت يزداد أيضًا العجز في ميزانية الحكومة ويصل إلى تريليون دولار. لكن في حين يتفاقم الدَّيْن والعجز، هناك عملاء في البورصة ومديرو صناديق تحوّط وبنوك، الذين بالنسبة لهم- " الأزمة قد ولّت".

ما يحدث اليوم في الولايات المتّحدة وفي أسواق أخرى في العالَم، لا يختلف كثيرًا عمّا حدث في دبي- الجميع يعلم أنّ النموّ الاقتصادي زائف، لكنّهم يفضّلون تجاهل ذلك والاستمرار كأنّ شيئًا لم يكن. في وول ستريت أيضًا، كما حدث في دبي، سيأتي يوم يرفض العالَم فيه تمويل الدَّيْن الأمريكي بعد أن يتّضح أنّ الولايات المتّحدة لن تنجح في تسديده أبدًا.

الذين ينادون بالنهج الاقتصادي الحالي يستندون إلى المقولة: "إنّه أكبر من أن يفشل". تعتمد هذه المقولة على المحاولة الأخيرة، التي بادرت فيها الإدارة الأمريكية إلى إغداق أموال طائلة وإنقاذ عمالقة الأموال والبنوك وشركات الاستثمارات وشركات التأمين وشركات قروض الرهن العقاري ومنتجة السيّارات العملاقة جنرال موتورز. آمن الجميع بأنّ الولايات المتّحدة أكبر من أن تفشل، لأنّه إذا هوت فسيهوي العالَم معها. يواصل الصينيون والأوروبيون وشيوخ الخليج تمويل المضاربات وتصرّفات العبثية للأمريكيين، الذين قرّروا أمس فقط صرف 30 مليار دولار في الحرب في أفغانستان.

إلاّ أنّ دبي أثبتت أنّ الأمور لا تسير بالضبط وفقًا للتوقّعات. الولايات المتّحدة تتراجع ويتراجع معها شركاؤها الاقتصاديون؛ وما يبدو غير منطقي وغير صحيح نهايته الوقوع في الهاوية ولا أهمّية لكونه كبيرًا. هذا ما حدث في الماضي، وهذا ما سيحدث في المستقبل.

تحوّل الاقتصاد الرأسمالي إلى اقتصاد طفيلي. ينجح هذا الاقتصاد في استغلال القوّة العاملة الرخيصة وبشروط عمل استعبادية؛ يمتنع عن تطوير الصناعة وتوفير فرص عمل في المراكز المتطوّرة في العالَم؛ يؤدّي إلى انخفاض في مستوى الأجور، ويدفع الجمهور إلى اقتراض الأموال من أجل الحفاظ على مستوى الحياة. إنّها دوّامة تعزّز قوّة رأس المال على حساب العامل، وتشجّع الاستثمار في مجال المضاربات وتُطلق فقاعات هواء مالية تؤدّي إلى كساد يتفاقم دوريًا. كلّ سقوط هو أعمق وهدّام أكثر من سابقه.

دبي بالفعل هي تذكرة للحاجة الملحّة لتبنّي توجّه اجتماعي، يضع نصب عينيه العمل قبل رأس المال. وعد أوباما بأن يُحدِث تغييرًا جذريًا في المؤسّسة الاقتصادية، لكنّ كلّ أعماله منذ اليوم الأوّل من فترة رئاسته، تشهد على وفائه للنهج القائم، وعلى عدم قدرته على إحداث تغيير حقيقي. لذلك الأزمة ما زالت هنا، وهذا أوان مهمّة خلق بديل سياسي يعتمد على رفاهية الإنسان العامل.