لكن الجوع صناعة رأسمالية


رضي السماك
2009 / 12 / 11 - 08:35     

(1-3)
لم يبلغ إمام دين وقائد دولة في وصف الفقر كما أبلغ الإمام علي بن أبي طالب "ع" حيث قال: "لو كان الفقر رجلا لقتلته". فمنذ عصور غابرة، وتحديدا منذ نشأة الطبقات في المجتمعات البشرية وانقسامها إلى أغنياء وفقراء، أو طبقات مستغَلة (بفتح الغين) ومستغِلة (بكسر الغين)، ومع ان الفقر موجود والفقراء موجودون في كل المجتمعات من دون استثناء إلا ان مصادر ومراجع التاريخ لا تنقل إلينا كوارث بشرية عن حالات الفقر والجوع والاعداد الهائلة للجياع والفقراء في العالم كالتي نشاهدها بأم الأعين الآن في مختلف بلدان وبقاع العالم، كما لم تخبرنا مراجع التاريخ بوجود أعداد هائلة من الجياع كالتي نسمع عنها حاليا حيث بلغ مجموعهم مليارا ومائتي مليون جائع حتى مع الأخذ في الحسبان مجاميع سكان العالم في تلك العصور مقارنة بمجموعهم الآن.
أكثر من ذلك فقد صدق من قال: "الجوع كافر"، فهو وراء ظهور آفات اجتماعية وجرائم وموبقات لا حصر لها سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
لكن لماذا لم تكن نسبة حجم ظاهرة الجوع ونسبة أعداد الجياع في العالم ضخمتين على مدى تاريخ العالم كله على النحو الذي بلغتاه في عصرنا الحاضر؟
الجواب ببساطة لأن الطبقات المستغِلة (بكسر الغين) لم تصل إلى حد من التوحش الشرس في تلك الأزمنة الغابرة وصولا إلى فجر تاريخنا العالمي الحديث الذي بلغته الطبقات المستغلة في عصرنا الحاضر، وعلى رأسها الرأسمالية، لا بل ان الطبقات الاستغلالية القديمة على تعاقب الحقب والمراحل التاريخية لم تكن تملك أصلا وسائل السيطرة الرهيبة لاخضاع الطبقات المستغَلة (بفتح الغين) وتركيعها وسحقها كالتي تملكها الرأسمالية الآن وعلى الأخص الشريحة منها التي باتت تعرف بـ "الرأسمالية المتوحشة"، والوسائل التي تملكها هذه على الطبقات الفقيرة المسحوقة لا تقتصر فقط على الاسلحة البالغة التطور، بل تشمل وسائل متطورة أخرى عديدة، كالإعلام المتخصص في غسل المخ، وكالبنوك المرابية وأنظمة القوانين والاقراض والائتمان، دع عنك استغلال العمال والمستخدمين في المصانع والشركات عبر تشغيلهم بأجور بخسة ولساعات عمل طويلة العديد منها غير مدفوع الأجر كما هو الحال بوجه خاص في الكثير من دول العالم الثالث وفي أقطار مجلس التعاون الخليجي وعلى الأخص العمالة الأجنبية. ومن ظواهر ونتائج ما تسببه الرأسمالية العالمية من افقار وجوع لشعوبها ولشعوب العالم الثالث بسبب طبيعتها الاستغلالية المتوحشة وما تملكه من قوة كدولة لفرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.. نقول من هذه الظواهر البطالة المرتفعة وارتفاع الأسعار وتدني الأجور وكلها مجتمعة تعد بمثابة العوامل الرئيسية لازدياد حدة الفقر والجوع وللازدياد المطرد لأعداد الفقراء والجياع في العالم.
ان الرأسمالية الأمريكية اليوم تقف في مقدمة الدول الرأسمالية المسئولة عن تفاقم كارثة الجوع حدة ولازدياد أعداد الجياع والفقراء ليس في العالم فحسب بل داخل بلادها الولايات المتحدة نفسها، ولاسيما منذ انفجار أزمتها المالية في خريف العام الماضي 2008م وهو الانفجار الذي سرعان ما عمت شظاياه اقتصادات العالم بأسره وسرت في مفاصلها سريان النار في الهشيم.
ومنذ تفاقم محنة وكارثة فقراء العالم وجياعه بانفجار تلك الأزمة المالية انعقد الكثير من المؤتمرات الاقتصادية العالمية تحت عناوين مختلفة جميعها جاء عقدها من باب "رفع العتب" ومسايرة الأخلاق والقيم الانسانية في ظل تفاقم أزمة الفقر والجوع عالميا من دون ان تحلحل قيد أنملة ليس من الكارثة فحسب بل من دون ان تضع أدنى حد لتفاقمها المطرد اليومي. والسبب في ذلك بكل بساطة يعود إلى أن الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، غير جادة في حل مشكلة الفقر والجوع لا في العالم ولا في بلدها نفسه مادام القاضي هو الزاني، فمنذ متى كانت الآفة تملك علاجا لاشفاء ضحاياها والمبتلين بها؟
آخر مؤتمر من سلسلة هذه المؤتمرات والقمم المتعاقبة التي خصصت لمعالجة الجوع وليختم أعماله كأسلافه المؤتمرات السابقة ببيان انشائي هزيل "لا يسمن ولا يغني من جوع" بالمعنى الحسي الفعلي لهذه المقولة المأثورة لا بالمعنى المجازي كما اعتدنا في وصف المؤتمرات الأخرى الفاشلة غير المختصة بالجوع، هو مؤتمر قمة الأمم المتحدة لمكافحة الجوع الذي عقد مؤخرا في روما. ولربما حسنته اليتيمة الوحيدة الموافقة الالتوائية على زيادة المساعدات الزراعية الى الدول الفقيرة علما بأن منظمة الاغذية الدولية "الفاو" كانت قد طلبت إلى المؤتمر 44 مليار دولار سنويا وشدد جاك ضيوف مدير المنظمة على أهمية الرقم كحد أدنى لا مناص منه، وهو محق في ذلك إذا كان المؤتمرون جادين حقا لرفع المساعدات الى 44 مليارا لإنقاذ جياع العالم ولخفض عدد جياع العالم الى النصف بعد ست سنوات (عام 1015م)، علما بأن المهلة التي حددت مسبقا للقضاء على الجوع بعد 25 عاما تقريبا من الآن (عام 2025م)، والتي شكك أكثر المراقبين في الايفاء بها ألغيت من المشروع الاصلي وأقر المؤتمرون باستحالتها.
لكن ماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2015م، أي بعد ست أعوام من الآن قد بقي عدد جياع العالم على حاله إن لم يتضاعف؟
وماذا لو اكتشفنا انه بحلول عام 2025م وهو الموعد الذي حدد سابقا لانهاء الجوع من العالم لم يتم القضاء حتى على نصفه؟
على الأرجح هذا ما سيحدث فعلا ولن يفاجأ بذلك إلا من لم يفهم أو لا يريد أن يفهم الطابع الاستغلالي للرأسمالية بعد، أو من يتوهم بقرب زوالها المحتوم.




لكن الجوع صناعة رأسمالية (2-3)
لأن قادة الدول الرأسمالية الكبرى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، يشعرون في قرارة أنفسهم ليس فقط بالمسؤولية الاخلاقية والتاريخية التي تتحملها دولهم تجاه عار العصر المتمثل في مأساة مليار ومائتي مليون جائع في العالم، بل لعدم استعدادهم الجاد لتقديم أدنى مساعدة ممكنة لإنقاذ حياة أولئك الجياع الذين يمثلون خمس البشرية، فقد تغيب معظم أولئك القادة عن حضور قمة روما لمكافحة الجوع الأخيرة، ولم يجد معظم قادة الدول العربية بدورهم حرجاً من التغيب أيضاً عن هذا المؤتمر بالرغم من أهميته لبعضهم لوجود نسبة من الجياع ما بين سكانهم ولوجود شريحة من الفقراء متفاوتة النسب في كل الدول العربية واكتفى أغلبهم بالمشاركة في القمة على مستوى أقل من زعماء دولهم.
وكان ابرز المشاركين من الزعماء العرب الزعيم الليبي معمر القذافي الذي انتهز فرصة تغيب قادة الدول الكبرى الرأسمالية ليخطف الاضواء مجدداً، كما خطفها قبل ذلك بفترة وجيزة في الامم المتحدة، وذلك بأن انتقد بشدة تغيبهم معزياً اياه إلى أنهم قرروا عدم المساهمة في حل مشكلة الأمن الغذائي العالمي، وأضاف ما مفاده ان ذلك يحدث في الوقت الذي يشرف على الموت جوعاً ملايين الاطفال في افريقيا وآسيا وامريكا الجنوبية.
ولم يقتصر الأمر عربيا على غياب معظم الاقطاب العرب المفترض حضورهم الى قمة الجياع في روما فحسب بل غاب عن المؤتمر أي حضور عربي شعبيا مدنيا على هامشه بصفة مراقب او مستمع متابع لمداولاته للتأثير والضغط من قرب على المؤتمرين للخروج بأدنى ما يمكن من قرارات تخفف من حدة كارثة جياع العرب والعالم أجمع.
وفي الوقت الذي أسهم فيه بابا الفاتيكان بكلمة امام المؤتمر حث فيها على بذل المزيد من الجهد للقضاء على ظاهرة الجوع وواضعاً يده على جرح مسبباتها بأنها تكمن "في الطمع والمضاربات وليس زيادة عدد السكان" ومع انه لم يسم الدول الرأسمالية الا انه أضاف مؤكداً ان "الارض قادرة على انتاج غذاء يكفي كل البشر" بدليل النهج الذي دأبت عليه الدول المتقدمة من تدمير للسلع الغذائية لجني الأرباح بغية ضبط العرض في السوق لكي لا تتدنى الاسعار.. نقول في الوقت الذي تأتي فيه كلمة البابا هذه فإن مؤتمر روما خلا تماماً من أي كلمات أو رسائل لرموز اسلامية كبيرة لدولنا العربية، هذا على الأقل ما نستنتجه من غياب أي ذكر لمثل هذه الكلمات في التقارير الاخبارية العالمية.
واذا كان بابا الفاتيكان قد عرى دور الرأسمالية في صناعة الجوع من دون ان يسميها فإن مما له دلالته ومغزاه ان يعبر الشعب الافغاني بوعي معمق بالتزامن مع انعقاد قمة روما عن السبب الجوهري في استمرار صراعاته الاهلية موعزاً اياها الى الفقر والبطالة حسب نتائج دراسة استقصائية لمنظمة اوكسفام الدولية للإغاثة، هذا الى جانب الفساد الحكومي. واللافت ان نسبة قليلة هي التي ارجعت السبب الجوهري لحروب افغانستان الى التدخل الخارجي او طالبان او القاعدة وهذا يعني ان الافغان يعون جيداً جوهر مأساتهم المتواصلة منذ 30 عاماً، فلولا هذه المأساة (الفقر والجوع) لما انشغل الافغان بكل هذه المنازعات ولما تورطوا فيها أو غرر بهم من قبل تجار ومشعلي الحروب في الداخل والخارج على السواء.
قلنا يوم أمس ان الآفة لا تسعف ضحاياها بمعنى ما كان ينبغي من أحد أن يعجب لغياب قادة الدول الرأسمالية عن قمة روما حول الجوع لان هذه الدول هي التي تسببت في الكارثة فكيف لها ان تنقذ ضحاياها منها؟ ولعل واحدة من ابرز المفارقات التي تؤكد هذه الحقيقة ان الكارثة لم يعد يكتوي بنيرانها شعوب بلدان العالم الثالث فحسب بل الدول الرأسمالية نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ففي الوقت الذي تغيب رئيسها اوباما عن حضور القمة كانت وزارة الزراعة الامريكية تعلن أن عدد "الجياع" الامريكيين قد وصل الى 49 مليون شخص وهو أعلى معدل خلال 14 عاماً، واعترف المحللون الامريكيون بأن ازمة الرأسمالية الاقتصادية الاخيرة التي اصطلحوا على تسميتها بـ "الازمة المالية"، وبالرغم من محاولة وزارة الزراعة الامريكية تحاشي ان تسمي الظاهرة بـ "الجوع" وتحاول ان تصنف الجائعين الى درجات من حجم او حدة الجوع، فإن الرئيس اوباما نفسه لم يجد مناصاً من تسمية الاسماء بأسمائها حينما استنكر استفحال الظاهرة قائلا: "لقد ارتفعت معدلات الجوع الى حد كبير خلال العام الماضي".
أكثر من ذلك فإن محللين امريكيين يرجحون بأن عدد الجائعين يتجاوز 49 مليونا لأن وزارة الزراعة لم تأخذ بعين الاعتبار وقت المسح الاحصائي معدل البطالة الحالي الذي بلغ 2،10%. ومن أين تأتي البطالة؟ أليس من الرأسمالية؟ أليست هذه الظاهرة صفة لصيقة بها منذ بدايات صعودها وهي ستلازمها طالما بقيت على الحياة واستمرت بطبيعتها الاستغلالية المتوحشة؟
واذا كانت واحدة من أبرز مفارقات قمة روما المخصصة لإنقاذ جياع العالم انها انعقدت ليس في ظل غياب رئيس أكبر واقوى دولة رأسمالية في العالم بل بالتزامن مع اعتراف وزارة الزراعة بالعدد المخيف للجياع الامريكيين فإن مكتب الاحصاء قبل ذلك بفترة وجيزة اعترف بأن نحو 40 مليون امريكي يعيشون تحت عتبة الفقر هذا بخلاف اعداد الجائعين.
وعلى الرغم من ظاهرة الجوع المتفاقمة المرعبة، كواحدة من افرازات أزمات الرأسمالية وما يترتب عليها من نتائج وظواهر اجتماعية اخرى خطيرة كانتشار الجرائم والعنف والسرقات والاعمال الارهابية، فإنه يحسب للولايات المتحدة على الأقل انها ترصدها وتوثقها احصائيا بحد ادنى معقول من الشفافية في حين ان الدول العربية مازالت ترى ان انشاء اجهزة رصد حكومية من هذا القبيل يعد ضربا من العيب الذي يمس كرامتها ويفقد بريق ارقام انجازاتها الفلكية في التنمية البشرية بل هي لا تعترف اصلاً بوجود ظاهرة اسمها الفقر والجوع في مجتمعاتها.
لكن يظل الجوع هو بامتياز صناعة رأسمالية في البلدان المتبوعة والتابعة على السواء.




لكن الجوع صناعة رأسمالية (3-3)


ختمنا حلقة يوم أمس بالقول انه بالرغم من الدور المحوري الأساسي للدول الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة في التسبب في ظاهرة الجوع الذي وصفناه بأنه صناعة رأسمالية بامتياز ليس على الصعيد الداخلي للدول الرأسمالية فحسب بل على الصعيد العالمي، فإنه يحسب لتلك الدول الكبرى على الأقل انها تعترف بوجود هذه الظاهرة في مجتمعاتها وتعمل على رصدها ونشر مؤشراتها واحصائياتها بقدر معقول من الشفافية يفوق الحد الادنى من المصداقية بصرف النظر عن عدم اعترافها بمسؤولية انظمتها السياسية الرأسمالية عن خلق ازمة الجوع محليا وعالميا ومفاقمة كوارثها، في حين ان الدول العربية لا تجرؤ على الاعتراف بالظاهرة وان اعترفت بها فانها تصورها محدودة، وبالتالي فكيف لها ان تتبنى خططا واستراتيجيات لمكافحة الجوع والقضاء عليه في بلدانها؟
والحال ان الدول الرأسمالية لا تتميز عن الدول العربية والعالمثالثية عامة بنشر مؤشرات واحصائيات الجوع دوريا فحسب، بل لا يعدم المرء في هذه الدول مبادرات فردية وجماعية كبرى بعضها ذو طابع مؤسسي دائم لمساعدة الفقراء واطعام الجائعين وطرح مشاريع وافكار للتقليل مما يمكن تقليله من اعدادهم ان على الصعيد الداخلي وان على الصعيد الخارجي.
ومع ان المبادرات والمشاريع التي تتبناها شخصيات من الاثرياء والمليارديرية أو حتى شخصيات عالمية واجتماعية عادية هي تتم في إطار فلسفة وآليات النظام الرأسمالي القائم، الا انه تظل الحاجة إليها على الدوام قائمة ووجودها مهما يشوبها من عيوب أو كونها لا تحل المشكلة من جذورها افضل من عدم وجودها بالمرة، وهذا ما يميز الدول الرأسمالية الكبرى الديمقراطية عن دولنا المعروفة بأنظمتها الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة والتابعة لتلك الدول الرأسمالية الكبرى، ناهيك عن احجام الغالبية العظمى من رجال الاعمال الكبار والاثرياء في بلداننا عن تبني مشاريع كبيرة مؤثرة لمكافحة الفقر والجوع وحيث يكتفون في الغالب بمبادرات مؤقتة شكلية لرفع العتب ولا تسمن ولا تغني من جوع.
ثمة شخصيات عديدة غربية كرست ونذرت نفسها وكرست حياتها لمكافحة الجوع بشتى الوسائل السلمية الممكنة وبذلت كل ما في مقدورها لمساعدة جياع بلدانها والعالم، ولعل من ابرز هذه الشخصيات التي لعبت دورا ملموسا في هذا الصدد داخل الولايات المتحدة اكبر دولة رأسمالية وأكبر دولة مسؤولة عن صناعة الجوع في بلدها وفي العالم نورمان بورلوغ عالم النباتات الامريكي الذي رحل عن عالمنا في سبتمبر الفائت عن عمر يناهز 95 عاما بعد حياة مديدة كرسها من أجل انقاذ حياة مئات الملايين من الفقراء والجياع من خلال الانكباب على ابتكار الافكار والمخترعات والتجارب الزراعية التي من شأنها زيادة الطعام في دول أمريكا اللاتينية وآسيا وبفضل ما حققه من انجازات في هذا الصدد لقب في الستينيات بـ "الاب الروحي للثورة الخضراء" وتم بفضل اكتشافاته جعل العديد من المحاصيل ذات انتاجية عالية ومتنوعة التي أسهمت حينذاك في التخفيف من المجاعات التي كان يتوقع ان تحدث على نحو كارثي واسع النطاق، ومن هذه المحاصيل القمح من الاسمدة الكيماوية.
واعتبر البعض نجاحاته في هذا الشأن غيرت مسار التاريخ وبفضلها تمكنت الهند والمكسيك من ان تحققا الاكتفاء الذاتي في مجال الحبوب النباتية بعدما كانتا تعانيان نقصا في الغذاء، وحينما منح جائزة نوبل للسلام عام 1970 بررت لجنة نوبل منحه الجائزة بالقول إنه "ساعد على توفير الغذاء للجياع في العالم كله أكثر من أي شخص آخر في هذا العصر، وقد اخترناه أملا في ان يعمل توفير الطعام على اتاحة السلام أيضا".
وإذا كان واحدة من ابرز علامات العار الكبير الذي ارتكبته الولايات المتحدة بتغيب رئيسها باراك اوباما عن قمة روما المخصصة لمواجهة كارثة الجوع في العالم وهي التي تعد أكبر واقوى واغنى دولة في العالم والمتسبب الاول في الجوع فان واحدة من المفارقات الاخرى لذلك الغياب انه جاء بعد وقت قصير من وفاة واحد من اعظم رجالاتها في الجهود والمبادرات التي كرس حياته لها لانقاذ جياع العالم في حين لم تفكر حكومته ولو احترام ذكراه وذكرى المبادئ التي كرس حياته لها بحضور مثل هذه القمة البالغة الاهمية انسانيا وتخليد ذكراه بكلمة أمام هذا المؤتمر.
ومن دون التقليل من الجهود العظيمة والمنجزات التي حققها نورمان بورلوغ فلعل ما لم يدركه انه وفي ظل جرائم الرأسمالية بحق جياع وفقراء العالم والناجمة عن طبيعتها الاستغلالية المتوحشة تغدو جهودها حينذاك اشبه بمن يحرث في البحر وان بحصاد قليل.
أما على صعيد العالم الثالث و من ضمنه عالمنا العربي والاسلامي فلعل ابرز اسم في هذا المضمار البنغالي محمد يونس الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 2006 لجهوده الكبيرة لمكافحة الفقر في بلاده التي تعد واحدة من افقر دول العالم والتي كللها بمشروعه الكبير الرائد في نجاحه في بتأسيس "بنك جرامين للفقراء" وكان يونس قد وجه انتقادا شديدا للرأسمالية الحالية واعتبرها هي المسؤولة عن الانهيار المالي الذي ضرب العالم بأسره ووصف عمليات المضاربة التي سببت الانهيار اشبه بعمليات في نادي قمار، هذا في الوقت الذي دافع فيه عن آليات السوق وفلسفة السوق الحر وهو من خريجي الولايات المتحدة نفسها، والسؤال لماذا الرأسمالية الامريكية يخرج من تحت نظامها رجال انسانيون يعملون في إطار حتى الفلسفة الرأسمالية ما بوسعهم من مشاريع لمكافحة الجوع ولا يظهر أحد من أمثال هؤلاء في الدول العربية؟ لماذا حتى بنغلاديش الفقيرة انجبت شخصية فذة عالمية كانت رائدة في تأسيس مشروع كبير لمكافحة الفقر والجوع وفي دولة فقيرة ذات موارد مالية محدودة ولم تظهر مثل هذه الشخصية في أي من دولنا العربية؟