في المسألة القومية العربية الديمقراطية


نايف سلوم
2004 / 6 / 16 - 06:24     

طرح عجز البورجوازية العربية بكل ألوانها وأحجامها منهجياً على الطبقة العاملة العربية وتحالفها الشعبي مهام إضافية من الناحية التاريخية. من هذه المهام المسألة القومية كمهمة ديمقراطية كبرى من مهمات الطبقة العاملة في لحظتها السياسية وبرنامجها الديمقراطي، أي الطبقة العاملة كحزب ديمقراطي / بروليتاري في الأقطار العربية ومنها القطر السوري . لقد كانت الأصول الاقطاعية لهذه البورجوازيات والولادة المتأخرة والمتزامنة مع الطور الإمبريالي* للرأسمالية الأوربية في أساس هذا العجز. وعلينا أن نشير إلى وجود مسافة كبيرة بين المنهجي [الممكن تاريخياً]، أي الذي قدّمه التاريخ افتراضياً من جهة، وبين الفعلي، أي بين الهيمنة المفترضة للطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي من جهة وبين الهيمنة الفعلية لهذه الطبقة وبرنامجها الديمقراطي .

يفترض نمو هيمنة الطبقة العاملة وبرنامجها نمو مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي، وهذا الترابط بين نمو هيمنة البروليتاريا العربية كبرنامج يسعى للهيمنة وبين النهوض العربي الديمقراطي يتوجب نقله إلى حقل الوعي ، أي إلى مستوى البرنامج . كما أن هذا الترابط بين نمو هيمنة الطبقة وبرنامجها الديمقراطي من جهة أولى و مشروع النهوض القومي من جهة ثانية يشير إلى ترابط الصراع ضد الإمبريالية ذات السياسات العولمية والصهيونية من جهة مع مشروع النهوض العربي الديمقراطي والصراع ضد التخلف العربي من جهة أخرى وما يستدعيه هذا التخلف من نقد للتراث العربي ومنه الديني نقداً جذرياً وشاملاً . إن عالمية الصراع القومي العربي ضد الإمبريالية والصهيونية وشمولية هذا الصراع ، ومواجهة التخلف التاريخي العربي ونقد التراث نقداً جذرياً وشاملاً كل ذلك يشكل لحظات النهوض القومي العربي الديمقراطي. وفي هذا السياق نعقِّب نقدياً على عبارة ياسين الحافظ والتي تقول : "التجزئة هي محصلة وضع التأخر التاريخي للأمة العربية والأوضاع الإمبريالية التي نشأت عنه " [في المسألة القومية الديمقراطية ص16] ُتظهر هذه العبارة التأخر العربي والأوضاع البنيوية العربية ما قبل الرأسمالية وكأنها الطرف المسيطر في التناقض والصراع الذي قاد إلى وضع التجزئة العربية بشكله الراهن، وبالتالي فالأوضاع الإمبريالية نتيجة "طبيعية" لوضع التأخر العربي ، أي لهذه الأوضاع البنيوية ما قبل الرأسمالية حسب صياغة الحافظ. فالضمير في "عنه" تعود إلى التأخر . مع أن الأوضاع الإمبريالية هي التي تعيد إنتاج التأخر كأحد عناصرها . فالمسيطر عالمياً هي الإمبريالية ، ولها آلية اشتغال ذاتية عبر التحول من المنافسة إلى الاحتكار والكولونيالية الاقتصادية ، و عبر التحوُّل من الدولة الليبرالية إلى الدولة الرأسمالية الاحتكارية "الشمولية" . وهي التي تعيد إنتاج "التأخر" العربي وتكرِّس التجزئة، وهي العقبة الأكبر في وجه التقدم العربي الديمقراطي. ومن هنا نعتمد مقولة التخلف العربي والتي تتضمن الإمبريالية كعقبة خارجية بدلاً عن التأخر كعيب داخلي عاضدته العقبة الخارجية أو استغلته. التأخر يصح على تاريخ ألمانيا في القرن التاسع عشر ، ولا يصح عندنا نحن العرب* ، ذلك أن التخلف لا يشير إلى التأخر بالمعنى الكمي فحسب ، أي التأخر الصناعي ، بل يشير إلى الفارق النوعي التاريخي بين ألمانيا القرن التاسع عشر وبين الوضع العربي في عصرنا الراهن . فالتخلف يشير إلى التأخر بالمعنى الحرفي [تأخر صناعي ] ، وإلى الاختلاف في الوضعية التاريخية ، كما يوحي بقوى اجتماعية مختلفة مرشحة لتجاوز هذا الـتأخر الصناعي كمهمة ديمقراطية . يقول ياسين الحافظ : "إن التجزئة أبعد وأكبر من الفعل الاستعماري" [في المسألة القومية ص17] . نعقب أيضاً أن التجزئة هي أثر فعل الإمبريالية في البنية العربية ما قبل الرأسمالية . ونشير إلى استمرار الفعل الاستعماري في الزمن الحاضر ، وأن الأوضاع الإمبريالية هي أوضاع مستمرة وفاعلة وقد غدا التأخر مقولة من مقولات الأوضاع الإمبريالية، أي أن الإمبريالية والأوضاع (التموضع الإمبريالي في الداخل) تعيد إنتاج التأخر العربي عبر إعادة إنتاجها لأشكال من الحكم بائدة أو استبدادية ، كما أنها بإعادة إنتاج التخلُّع الاجتماعي الاقتصادي، فهي تصدع أرض التحديث العربي ، وهي في المعركة الفعلية حليفة هذا التأخر بكل ملحقاته وأدواته.

إن ما جمعته السيطرة القديمة الناجمة عن نمو هيمنة قبيلة قريش وتحقيق سيطرتها بقيادة "الأيديولوجية الإسلامية"، ما جمعته من عناصر سوف يتم التعامل معها في سياق نمو الهيمنة الجديدة وعلى أساس نقدي، أي تتم دراسة هذه العناصر نقدياً ثم يتم دمجها من جديد في العلم الاجتماعي التاريخي ومن ثم في الأيديولوجية العضوية للطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي# . وهنا نشير إلى ضرورة وأهمية التفريق بين مفهوم الأمة nation والتي تعني أمرين متضادين: الأمة بمعنى الأصل، أصل قوم من الأقوام ، والأمة بمعنى الملة أي عقيدة [أيديولوجية] هؤلاء القوم . وباعتبار أن عقيدة الأقوام الحديثة أكثر تعقيداً ، وهي منقسمة وفي حالة صراع وأن التوحيد لا يتم إلا مع نمو الهيمنة إلى درجة كبيرة ، هيمنة الأيديولوجية العضوية للطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي ، لذلك سوف نطلق على الأمة بالمعنى الثاني اسم القومية الحديثة وهي الشعور القومي الحديث وإحساس الجماهير العربية العفوي بضرورة التوحد القومي في سوق قومية واحدة ، والحضور العالمي القوي بما يضمن كرامة هؤلاء في وطنهم عبر الطموح نحو بناء دولة قومية حديثة[أمة- دولة ] . القومية بهذا المعنى تعني أمة المستقبل. لقد قامت على أساس هذا الشعور حركات قوْمويَّة متنوعة ، منها ما قادته الطبقات الوسطى، ومنها كانت دعوات ثقافية عربية، ومنها دعوات للتضامن العربي قادته بورجوازيات ليبرالية (أعيان المدن والملاك العقاريين). وكانت هذه الدعوات تشير إلى السياسة العربية لكل من هذه النظم . مصطلح الأمة سوف يترك ليشير إلى جماعة بشرية ذات أصول واحدة وتاريخ مشترك وثقافة مشتركة ، وهذه الأخيرة تفترض اللغة المشتركة والجغرافية المتصلة اجتماعياً ألا تلاحظ معي أن "الأمة من الرجل قومه .. وأم كل شيء أصله وعماده " [القاموس المحيط ص 1391 ، أيضاً راجع د. نايف سلوم "في القول السياسي1" ص 83]. يكتب د. حليم اليازجي : "تختلط في مباحث [منظري القومية] فكرة القومية بفكرة الأمة ، مع التأكيد على أن الأمة هي ذات نشوء عفوي نتيجة لمقومات طبيعية، فيما القومية هي عمل إرادي واع ، هي تصميم إرادي على الانتفاع [الانتفاع النقدي] بما آل للأمة عبر الأزمنة من تراث منظور ، وتراث خفي غير منظور ، وذلك عن طريق الخضوع لسلطة سياسية واحدة ، والقبول الظاهر أو الضمني بالقوانين أو المؤسسات التي ترعى هذه الوحدة وتنميها " [بحوث في الفكر القومي العربي ص65 . العبارات بين قوسين متوسطين ليست لـ د.حليم، بل هي نقدية للاقتباس ] ولفظة الأمة nation على خلاف لفظة القومية nationalism تتميز بالعراقة وهي تشير إلى قوم من الأقوام "وهي تعني في أصل معناها الولادة أي تعاقب الأجيال على أرض ثابتة تعاقب عفوي يورث هذه الوحدة البشرية المتعايشة تاريخياً على أرض ذات حدود ، والتي لا تحتاج إلى من يعترف بها سوى هذا الضمير الجمعي النابع من ذات الجماعة ، والخارج على كل نظام مفروض من الداخل أو الخارج ، فيما تعني القومية أفراد الجماعة وقد أصبحوا [أو طمحوا لأن يصبحوا ] عضواً في دولة لها شخصيتها الحقوقية المعترف بها داخلياً وخارجياً ، وباتوا بالتالي خاضعين لشرائع جماعية يعاقب الخارج عليها باسم القانون أو باسم الصالح العام " [بحوث ص66]

مشروع النهوض والتوحيد القومي العربي الديمقراطي في حالة نزاع مع الإمبريالية ومنها الإمبريالية ذات السياسات العولمية ، ومع المشروع الصهيوني القومي وتعبيره الفعلي؛ دولة إسرائيل . من هنا ضرورة قيادة الاشتراكية الماركسية لمشروع التوحيد والنهوض العربيين ، وكون هذا المشروع عالمي الأبعاد وديمقراطي ، ومعني بالتخلف العربي ومنه التأخر الصناعي والتخلف الاجتماعي يغدو نقد التراث القومي بما فيه الديني نقداً جذرياً وشاملاً ضرورة ، وهذا يعني أن المقدس ليس خارج هذا النقد ، فحضور المقدس أو القدسي يعني إزالة النقد وتغييبه. والنقد دابة الأرض التي سوف تشير إلى كل ما هو فاسد ومتعفن في هذا التراث فالنقد من يدل على الميت في هذا التراث .. جاء في سورة سبأ ، الآية 14 : "فلما قضينا عليه الموتَ ما دلهم على موته إلا دابة الأرض.." وهذا النقد سوف يعتمد على جهود مفكرين وباحثين ذوي رصانة عرب وغير عرب ، ويتم التعامل مع نتاج هذه الأبحاث نقدياً في حال تبني بعضها في البرنامج الاشتراكي الماركسي . بحيث يتم دمج كل ما هو حي ونابض في العلم التاريخي الاجتماعي الماركسي الجديد كعلم ذو محتوى قومي في جزء منه . يقول محمد أركون المفكر والباحث الجزائري في حوار أجراه معه حسن شامي ونشرته جريدة الحياة تاريخ 19/9/2002 : "ثمة أناس يضعونني في خانة إسلامية . وهؤلاء لا يقنعون بمساري النقدي ويصرون على تصنيفي كمسلم ويقولون لي : أنت مسلم معتدل . وهذا كلام سفيه " وحتى يتعرف القارئ على أن قولنا بما يخص نقد التراث نقدً جذرياً ليس تصوراً لعمل مستقبلي بل عملية جارية أمام أعيننا وتحمل وعياً بحركتها ، نقتطف هذا الإهداء المعبر عن فكرتنا من الباحث العربي المصري خليل عبد الكريم الذي يقول : "إلى : الذين يؤرقهم الشوق إلى قراءة التاريخ العربي الإسلامي وهو مكتوب كتابة موضوعية بعيدة عن الحواجب التي تحجب العقل مثل العواطف الفجة والأساطير والماورائيات الخ...

وإلى: الأكاديميين الذين ينادون بضرورة كتابة التاريخ العربي الإسلامي ولكنهم لا يفعلون إما حرصاً على مكاسبهم – التي هي في آخر مطاف عرض من الدنيا قليل – وإما تحرزاً من المتاعب التي سوف تلاحقهم لو أقدموا على ذلك .

وأخيراً : إلى القلة الشجاعة القابعة في الزمالك والو اسطي وعدن ودمشق وبيروت والمغرب والجزائر وتونس التي بدأت تمشي في هذا الطريق الوعر الخطر غير عابئة بما فيه من أشواك بل من ألغام ، والتي تصر على مشاعل "التنوير" مهما كلفها ذلك من ثمن ، والتي تؤمن بأن ترسانات الثروات الأسطورية وسلطات الطواغيت الحاكمة التي تدرك أن بقاءها على عروشها رهن باستمرار الظلاميات . إليهم جميعاً : أهدي هذا الكتاب [قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية] مساهمة متواضعة ولبنة صغيرة في تشييد جرح آن الأوان ليرتفع " انتهى الإهداء ..

لابد من التفريق المنهجي بين الدين والمقدس كبيانات ونصوص ، أي كتراث وبين التديّن كأمر راهن ، أي كممارسة وجدانية يومية . ما من شك أن الوجدان الديني وجدان مرهف وبالغ الحساسية مملوء بالعاطفة . وعلينا أن نرى المسافة بين صورة هذا الوجدان من جهة وبين مضامين هذا الوجدان . إن نقد التراث الديني والبيانات والنصوص التراثية تعني العمل على مضامين هذا الوجدان دون المساس بشكله وبصورته للوهلة الأولى . سوف تظهر مفارقة وتناقض في هذا العمل ، مثل أن يقال أنتم ستقومون بنقد للتاريخ الإسلامي الذي يشمل أشخاصاً لهم قدسية وهم يشكلون جزء حاسم من الوجدان الراهن للمتدين . نحن نرد بأنه لابد من التفريق في لحظة أولى من عمل النقد بين مضامين الوجدان عند المتدين وبين صورة هذا الوجدان التي ستتم مراعاتها حتى ينجز النقد العلمي التاريخي مهمته . وهذا ما نسميه "عمل الخلد"[العمل تحت الأرض] . نقد الدين كبيانات لم يكتمل ، وإكمال هذه المهمة الطويلة من مهام المفكرين العرب الديمقراطيين . والهروب من هذه المهمة بحجة عدم الإساءة إلى المتدينين يعني الهروب إلى الأمام وتضييع للوقت ..

إقحام الدين في الحياة السياسية والحزبية ملمح انحطاط لهذه الحياة . فهذا الإقحام يعرقل مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي لأنه يضيف عقبة جديدة أمام هذا النهوض ويضيف مهمة إضافية وهي ضرورة تفنيد انحطاط وفساد هذا الإقحام . إضافة لذلك يشكل إنشاء حزب سياسي على أساس ديني أو طائفي مصادرة على المطلوب ، أي مصادرة الوطنية والديمقراطية التي تعني حق مشاركة الجميع في الوطن الواحد، في تقرير مصير هذا الوطن وبالرغم من وجود سيطرة طبقة سياسية . يدخل في هذا المجال ؛ مجال المصادرة على المطلوب حزب ذو نزعة قوموية ، أي حزب متعصب لقومية بعينها ما يعني مصادرة أي طرح ديمقراطي منذ البداية لأنه يستثني أفراد القوميات الأخرى في الوطن الواحد . وهنا نفرق بشكل منهجي وأساسي بين النزعة القومية أو القوموية من جهة وبين المهمة القومية الديمقراطية التي تعني النهوض القومي ومشروع التوحيد القومي ذو القيادة الأممية ، والتي يكون إنجاز المهمة القومية هو هو إنجاز المهمة الأممية الإنسانية ، فتحت قيادة الاشتراكية الماركسية يكونان في وحدة وهذه الوحدة لا تعني إنكار أو تغييب متطلبات المهمة الديمقراطية كالتحالفات الواسعة ورؤية حدود كل قوة سياسية وتقديرها ضمن هذه الحدود، كما يتم الانتباه إلى مهمة الاشتراكية الماركسية في قيادة مرحلة ديمقراطية. وهنا لابد من التفريق بين مرحلة ديمقراطية سوف تنجزها قوى اجتماعية مختلفة عن البورجوازية وبين مرحلة بورجوازية لا تنتج سوى إعادة إنتاج التخلف والاستبداد السياسي ..

من ناحية ثانية تعني هذه الوحدة[الأممية والمهمة القومية] أن الكلية الديمقراطية ، أي الديمقراطية الاجتماعية التي تعني المشاركة العادلة في الثروة القومية [هذا ملمح بورجوازي حتى الآن من دون سيادة البورجوازية كطبقة ]، مع الديمقراطية السياسية التي تعني المشاركة الفعلية في السلطة والحكم وفي صياغة القرارات العامة والاشتراكية الماركسية أمر واحد ، ولطالما ادعت الاشتراكية الماركسية أنها البديل الديمقراطي الحق عن الديمقراطية البورجوازية الشكلية في الغالب . ونشير هنا إلى نزعة الحرية كقيمة إنسانية عامة ، وإلى الديمقراطية كمسألة تاريخية مشروطة بزمان ومكان .. وإذا كانت الديمقراطية وسيلة وليست غاية ، فإن الوسيلة أكثر كرامة من الغاية ذلك أن الغاية لا تعني شيئاً خارج مجمل الوسائل التي تبنيها . فالغاية ليست أكثر من الطريق الموصل إليها . على الغاية أن تحدد وسائلها ، وأن تعتني بها عناية فائقة

في هذا السياق نثمن البعد المقاوم لحزب الله اللبناني ولحركتي حماس والجهاد في فلسطين مع مأخذنا الصريح للبنية الطائفية لكل من هذه الحركات ، كون هذه البنية تصادر على البعدين الديمقراطي والمستقبلي ، أي تخلق مفارقة في علاقتها بمشروع النهوض العربي الديمقراطي . ويسأل سائل : كيف تثمنون البعد المقاوم لهذه الحركات وكيف يكون صعود هذه الحركات علامة انحطاط في الحياة السياسية والحزبية ؟ ونجيب أن الانحطاط الأكبر نتج عن انحطاط التجربة السوفيتية التي أنجزت مهمات ديمقراطية ولم تعمل على أساس الكلية الديمقراطية البديل* ،مع ما تبع ذلك من تصدر طبقة البازار [تجار محلييون تقليديون] بقيادة مثقفيهم العضويين [رجال الدين الشيعة في إيران] للثورة الإيرانية ، وكون طبقة البازار حرمت من "خيرات التحديث وحيد الجانب الذي رعاه الشاه، فقد ركّزت عداءاً واضحاً للغرب الإمبريالي بشخص الولايات المتحدة الأمريكية . وقد تجلى ذلك بالعداء الأيديولوجي لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية . هذا الأمر دفع بطائفة كبيرة متظلمة ومحرومة في لبنان شيعية المذهب إلى أن تعزز وجودها الوطني وحضورها السياسي عبر برنامج مقاوم لإسرائيل كون الأخيرة داخلة في حقل العداء الأيديولوجي وكونها محتلة لأراض لبنانية تعود في غالبيتها لأفراد هذه الطائفة. لقد استحضر حزب الله كل ما هو استشهادي ومقاوم من تراثه الديني . إن التاريخ الذي راكم طويلاً في البؤرة الإيرانية اعتبارا من 1891 انفجر في ثورة 1978 –1979 الإيرانية** .تحت هيمنة طبقة البازار وبقيادة رجال الدين الشيعة كمثقفين عضويين لهذه الطبقة . إن حديثنا المطول عن ثورة إيران الشعبية يجد مبرره في تفسير البعد المقاوم لحزب الله الشيعي اللبناني بينما يغيب هذا البعد في الحركات والأحزاب الدينية ذات الأصول الأيديولوجية العربية الظلامية ، مثل الحركات السلفية في الجزائر ومصر وسوريا.

إن انحطاط التجربة السوفييتية وتفكك هيمنة الأيديولوجيا الاشتراكية أدى إلى تصدع الكلية الديمقراطية بحيث باتت أحزاب دينية وضمن الشروط التي ذكرناها تتصدى لمهمة ديمقراطية بعينها من الكلية الديمقراطية ، وتنجز قسماً منها . ولا يمكن إعادة الوحدة إلى المشروع العربي الديمقراطي [إعادة الوحدة العضوية، أي الكلية الديمقراطية لهذا المشروع ] من دون السعي نحو بناء هيمنة جديدة للأيديولوجية الاشتراكية الماركسية المتجددة نقدياً وعلى مساحات رحبة من العمل التفصيلي، والديمقراطي .

نرى إلى مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي على أنه نمو هيمنة الطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي في الأقطار العربية ومنها القطر السوري وهذا النمو بطبيعته سوف يكون متفاوتاً من ناحية الكم ، إنما يفترض حضوره المتزامن من الناحية الكيفية ، وهذا يمكن رصده من الحراكات السياسية والاجتماعية في الأقطار العربية . ألا تلاحظ معي أن نمو النزعة القومية كان متزامناً في عدة أقطار ، وكذلك نمو النزعة الدينية السلفية الخ.. إن الخطوة الأولى في عملية نمو هيمنة الطبقة العاملة العربية تتمثل في إنشاء برنامج ديمقراطي لهذه الطبقة مصاغ بعناية وشامل وهذا النمو في الهيمنة يعنى في الوقت ذاته نمو مشروع النهوض الديمقراطي التاريخي الذي يعني بشكل أساسي تقدم نقد التراث ومنه الديني نقداً جذرياً وشاملاً ، ويعني تقدم مشروع التوحيد القومي الذي يتوج بسيطرة قوى البرنامج المتحالفة .

نشير على سبيل الاستئناس التاريخي إلى أن نمو هيمنة قبيلة قريش قد احتاج إلى ما يقارب 150 سنة . يكتب خليل عبد الكريم في كتابه "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية ": "مائة وخمسون عاماً انقضت ، بين وضع البذرة في الأرض ، وبين حصاد الزرع وجني الثمار، بين الحلم والحقيقة ، بين رمي أحجار الأساس وبين استكمال البناء ، والانتفاع به وسكناه، هذه المدة هي التي تفصل بين وفاة قصي بن كلاب في الحجون في مكة عام 480 ميلادية ، وبين قيام دولة قريش في يثرب ، على يد حفيده محمد بن عبد الله بن عبد المطلب " ص 19 . قامت الدولة ، دولة قريش تحت قيادة أيديولوجية ذات نزعة إنسانية هي "الأيديولوجية العضوية " لقبيلة قريش . وقد شكلت النزعة الإنسانية لهذه الأيديولوجية ضرورة تاريخية، كما ضرورة قيادتها لمشروع الدولة . في سياق النزعة الإنسانية جاء في القرآن : "إن هو إلا ذكر للعالمين" [الأنعام 90 ، يوسف 104 ، التكوير 27]. "وما هو إلا ذكر للعالمـين" [القلم 52].. "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً " [الفرقان 1 ] .. أما في سياق المهمة الأقوامية [من القوم والتي هي قريش قوم النبي محمد] فقد جاءت الآيــات كالتالي : "ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين "[العنكبوت 28] .."وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين " [المائدة 20] .. "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة (مكة) مباركاً وهدى للعالمين" [آل عمران 96] ."إن أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" [يوسف 2] ، "إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"[الزخرف 3]

الاشتراكية الماركسية مدعوة للقيام بهذا الدور القيادي والهيمني في عصر الإمبريالية الجديدة كأيديولوجية عضوية للطبقة العاملة ، دوراً هيمنيَّاً لمشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي وعلى الماركسية أن تثبت ضرورتها وجدارتها في المسألة العربية ، جدارتها في بناء علم تاريخي اجتماعي عربي ، وبناء حزب سياسي وأيديولوجية عضوية بروليتارية عبر إنشاء البرنامج الديمقراطي الواسع للطبقة العاملة وعبر تنظيم وإقامة تحالفاتها السياسية مع الطبقات الشعبية المتظلمة الأخرى .

يفترض نمو هيمنة الطبقة العاملة وبرنامجها الديمقراطي موقفاً نقدياً من التراث "البعيد" والقريب ، خاصة الافتراضات التي وضعت بخصوص المسألة القومية العربية . لقد أشرنا إلى أن الأمة كقوم موجودة قبل قيام دولة الأمة وبالتالي فإن اللغة والتاريخ المشترك والمشاعر المتقاربة ، والجغرافيا كأرض لقوم ، كلها تشكل العناصر المادية للثقافة العربية ، للعرب كقوم نشأوا وعاشوا في منطقة محددة . وهذا المفهوم نميزه عن مفهوم القومية كشعور حديث هدفه بناء دولة الأمة وسوقها القومية الموحدة وتجاوز التأخر الصناعي والتخلف الاجتماعي. وهذه الهوية الجديدة هوية تصير في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية ومع الخصوم الطبقيين في الداخل المتحالفين بحكم تكونهم التاريخي مع الإمبريالية وإرادتها ومصلحتها في تكريس التجزئة والتخلف العربيين .

سوف يواجه نمو وبناء الأيديولوجية العضوية للطبقة العاملة عناصر الأمة السابقة نقدياً ولن يأخذها كما هي كخلفية حضارية للزينة والديكور كما تقترح الليبرالية السياسية المتجددة والتيار الديني المتلبرل[من الليبرالية] . فعلى مستوى اللغة يتوجب القيام بعمل نقدي واسع لسحب الدلالة اللغوية من تحت وصاية وهيمنة الدلالة الدينية . إن مشروع النهوض القومي سيمر عبر صراع اجتماعي عات وطويل ، وهذا الصراع له امتداده الخارجي بالضرورة خاصة في عصرنا حيث باتت الإمبريالية الأمريكية تدخلية مباشرة وبشكل سافر وعنيف . إن هذا الطغيان للعامل الخارجي يتطلب تحالفات شعبية واسعة كما يتطلب التأكيد على مبدأ المواطنة، أي الوطن لجميع أبنائه بشرط ألا يصادر أي حزب أو جماعة على المطلوب . فحزب طائفة مصادرة على المواطنة ومستلزماتها"الطبيعية".

لقد قامت شرعية الدولة القطرية تاريخياً على عاملين، الأول أيديولوجيا المواجهة مع الاستعمار حيث حققت البورجوازية السورية المحلية المهادنة والعائلية ذات الأصول الإقطاعية[أعيان المدن ] اصطفافاً سمح لها بالسيطرة لفترة استمرت إلى بعيد الحرب العالمية الثانية . والعامل الثاني التأسيس الإداري الذي أنجزته الإدارة الاستعمارية في كل قطر على حدة . هنا لابد من أن نشير إلى الفرق الحاسم بين البورجوازية الأوربية وبين البورجوازيـات "العربية " المحلية فقد "بدا للبورجوازية [الأوروبية] أنها لا تستطيع إرساء نظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلا على أنقاض الإقطاع في الداخل ، والتحرر القومي من السيطرة الخارجية ، وتميز هذا النضال البورجوازي بمحتوى ديمقراطي " [بحوث في الفكر القومي العربي ص68] .. أما البورجوازيات العربية المحلية فكانت من أصول إقطاعية* حيث تضم أعيان المدن ورؤساء العشائر ورجال الدين النافذين، ومع انتهاء الحكم العثماني ودخول الأوربيين المستعمرين أدخلت هذه الفئات الأرستقراطية تحويرات بنيوية ليبرالية على وجودها السياسي والاجتماعي وهذه الأصول والآلية الإصلاحية هي التي طبعت شكل مواجهتها المهادنة والدبلوماسية للغزو الاستعماري الغربي ، وطبعت سلوكها المتراخي والمساوم تجاه القضايا الكبرى القومية والاجتماعية . مع الاستقلال السياسي بعد الحرب العالمية الثانية تأزمت سيطرة هذه الطبقات وتوجت بصعود الطبقات الوسطى إلى السيطرة حيث اعتمدت أيضاً على أيديولوجيا مواجهة ذات نبرة عالية كلامياً وعلى تحديث جزئي مبتسر ومجهض أي قابل للنكوص أمام أي تحدي جدي ، ضمن هذا الكلام العام هناك تمايزات مثلاً بين القطر المصري ذو البورجوازية العائلية الكبيرة والقوية ذات الأصول الأرستقراطية [ملاك الأراضي من المصريين والأتراك والشركس]حتى في ظل الناصرية حيث حافظت هذه البورجوازية على بعض مواقعها الاقتصادية والإدارية* ، في الوقت الذي نلاحظ فيه انهيار البورجوازية السورية العائلية [أعيان المدن السورية ] انهياراً سياسياً مأساوياً اعتباراً من منتصف الخمسينات من القرن العشرين** (#) . وهذا ما أخر كثيراً فيما بعد اندماج الطبقة الوسطى السورية المسيطرة بالنظام الإمبريالي العالمي ، وجعلها تقاوم التسوية مع إسرائيل حتى الآن و بوسائلها الخاصة .. لابد أن نشير إلى أن الضغط الأمريكي يمكن أن يسرع هذا الاندماج إذا أضفنا الحذر المتأصل في هذه الطبقة تجاه الجماهير الشعبية . كما يفسر تبعية الحزب الحاكم في مصر للحكومة ، بينما الحكومة تابعة للحزب الحاكم في سوريا ، ويفترض حزبية رئيس الوزراء في الحزب الحاكم ، بينما لا يشترط أن يكون رئيس الوزراء من الحزب الحاكم في مصر.

أخيراً لابد من أن نشير إلى ضرورة تربية الحزب السياسي الذي ينهمك بإنشاء وبناء الهيمنة البروليتارية وبرنامجها الديمقراطي تربية أممية ، لابد من هيمنة النزعة الأممية على تربية هذا الحزب ، وبالتالي لابد من بناء تحالفات على المستوى الأممي مع القوى والحركات المناهضة للإمبريالية . أي لابد من تنظيم التحالف على المستويين الداخلي والخارجي . فالديمقراطية وصراعها مع الإمبريالية لم تعد مسألة بلد بعينه بل مسألة بلدان في علاقاتها الدولية خاصة مع تنامي السيطرة السافرة والعنيفة للولايات المتحدة الأمريكية . نشير هنا إلى الاستبداد والطغيان الأمريكي تجاه دول "مارقة أو "شريرة"". هذا الطغيان علامة أزمة هيمنة في الليبرالية الجديدة المتوحشة ، سوف يدفع هذا الإمبريالية خاصة الأمريكية منها إلى التعويض عن هذه الأزمة بفرض سيطرة سافرة ، يمكن تسميتها بنمو النزعة الفاشية في الإمبريالية الأمريكية المعولمة أمنياً بفعل أزمة الهيمنة تلك





هوامش




.1- إيران 1900- 1980 الثورات المعاصرة ، القوى السياسية والاجتماعية ، دور الدين والعلماء ، التسلح وسياسة التوكيل " مؤسسة الأبحاث العربية ، الطبعة الأولى نيسان1980

2- خليل عبد الكريم "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية " سينا للنشر ، الطبعة الأولى 1993

3- جريدة الحياة . تاريخ 19 سبتمبر / أيلول 2002 حوار مع محمد أركون تحت عنوان : "محمد أركون يقوم 11 سبتمبر : عمل رهيب وخطير لكنه ليس منعطفاً ، والرد على (رهاب الإسلام) يكون بالعمل الداخلي" ..

4- جريدة الحياة . تاريخ 27 سبتمبر 2002 "معركة الحزب الحاكم في مصر: انتصار غير حاسم لجناح التجديد " بقلم الكاتب والصحفي المصري وحيد عبد المجيد رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي" .

5- بحوث في الفكر القومي العربي ، سلسلة دراسات أعدت بإشراف الدكتور معن زيادة المجلد الأول . معهد الإنماء العربي. بيروت . الطبعة الأولى 1983

6- المعجم المفهرس لمعاني القران العظيم ، المجلد الثاني . إعداد محمد بسام رشدي الزين ، إشراف محمد عدنان سالم . دار الفكر المعاصر بيروت ، دار الفكر دمشق . الطبعة الأولى 1995 ..

7- إريك دافيز "مأزق البورجوازية الوطنية الصناعية في العالم الثالث- تجربة بنك مصر 1920- 1941 " ترجمة سامي الرزاز مؤسسة الأبحاث العربية ، الطبعة العربية الأولى 1985 ..

8- فيليب خوري "سوريا والانتداب الفرنسي – سياسة القومية العربية 1920- 1945 " . ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية . الطبعة العربية الأولى 1997 .

9- باتريك سيل "الصراع على سوريا" دراسة للسياسة العربية بعد الحرب 1945-1958 ترجمة سمير عبده و محمود فلاحة . دار طلاس الطبعة السابعة 1996

(#) يكتب ألبرت حوراني في تقديم كتاب فيليب خوري السالف الذكر : "كانت نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت في دمشق وفي المدن الكبرى السورية الأخرى بروز مجموعة من العائلات القوية والموحدة بهذا القدر أو ذاك ، مستمدة ثرواتها ومكانتها الاجتماعية من أطيانها ، ونافذة إلى الحكومة العثمانية ، ومتمكنة من الحفاظ على "توازن دقيق بين السلطة المركزية والنفوذ الإقليمي" . وكانت إلى مدى بعيد ، قد تثقفت في مدارس عثمانية وتقلدت مناصب في الإدارة أو في الجيش ، وكان في وسعها ، بالنظر إلى كونها في معظمها من المسلمين السنة ، أن تعتبر نفسها أنها تشكل جزءاً –ولو كان جزءاً ثانوياً- من المؤسسة الحاكمة . وكانت لفترة وجيزة عقب انسحاب القوات العثمانية عام 1918 تأمل بأن تصبح حاكمة لدولة سوريا جديدة ، لكنها وجدت نفسها بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق خاضعة لحكومة أجنبية يصعب معها إنشاء "التوازن الدقيق"

بعد إخفاق في أعوام 1936- 1939 ، حين انهارت تسوية تم التوصل إليها مع الفرنسيين ، وكان السبب جزئياً إخفاقا تهم الإدارية ، ولكنه كان أساساً يعود إلى المعارضة في فرنسا ، أتاحت الظروف الجديدة الناشئة من الحرب العالمية الثانية إمكانية أن تحرز النخبة السورية أكثر مما كانت تأمل به فيما سبق: انسحاب القوات الفرنسية انسحاباً كاملاً واستقلالاً تاماً غير مقيد باتفاقية تحالف . بيد أن انتصارها لم يدم طويلاً ، إذ كانت تحديات قد برزت إزاء إمساكهم بناصية الحياة السياسية السورية . فقد كانت أفكار سياسية جديدة – من قومية راديكالية، وإصلاح اجتماعي ، وصحوة إسلامية – تكتسب أهمية وتؤمن القنوات التي استطاعت من خلالها فئات اجتماعية أخرى أن تسعى لمصالحها : الطبقة المتوسطة المتنامية في المدن ، والمعلمون والطلبة ، وضباط الجيش ، الذين كان كثيرون منهم يتحدَّرون من أصول ريفية ، وقدر لهم في النهاية أن يدمروا أساس النفوذ الاجتماعي للنخبة القديمة ، أي سيطرتهم على الأرض . كما أن حيز السياسة السورية قد تبدل ، حيث انتقل مركز الحياة الاقتصادية والاجتماعية من المدن القديمة إلى الأحياء الجديدة التي نشأت حولها " [سوريا والانتداب الفرنسي ص 12]

ولتأكيد فكرة انهيار مقومات البورجوازية السورية العائلية اعتباراً من منتصف خمسينات القرن العشرين، ولننقل ملابسات وظروف الفترة، ولنبين أن الفسحة الديمقراطية بعد حرب فلسطين 1948 وحتى 1957 كانت ناجمة عن ضعف بورجوازية الأعيان وأفولها أكثر مما هو عن ازدهارها . وهذا السبب مع ظروف أخرى هو الذي دفع هذه البورجوازية وتحالفاتها إلى أحضان النظام الناصري وقتها .. ننقل عن باتريك سيل قوله : "في أواخر صيف 1957 أصبحت سوريا على شفا الانحلال كمجتمع سياسي منظم ، ولم يقتصر الأمر على عدم وجود اتفاق حول القواعد التي تحدد السلوك السياسي ولكن- وهذا الأسوأ- فقد الكثيرون من السوريين الثقة بمستقبل بلادهم ككيان مستقل . .. لقد كانت هناك أسباب معقدة لانهيار التقاليد السياسية فقد كانت سوريا مسرحاً لصراع حقيقي بين مصالح الفئات الاجتماعية ، كما أنها كانت محوراً لسلسلة أحقاد وعمليات انتقام عربية وداخلية متزايدة الشراسة والوحشية ، زادتها سوءاً الصراعات بين الدول الكبرى التي لم تمكنها من التمتع بفترة أمن واستقرار منذ الحرب الفلسطينية . كما حازت على اهتمام الهاشميين المتزايد بها ، ومحاولاتهم إقامة اتحاد عراقي –سوري ، خلال المناقشات التي جرت في فترة الخمسينات حول الدفاع عن الشرق الأوسط ضد روسيا ، ووصل الأمر إلى ذروته خلال أزمة حلف بغداد وقضية المالكي ، تبع ذلك تغلغل مصري وسوفييتي وإثارات حرب السويس ، والمؤامرة العراقية عام 1956 وأخيراً التدخل الأمريكي في 1957 . وكانت أموال الرشاوى والضغوط الخارجية المختلفة الأنواع قد قضت في فترة سنوات على كل أساس أخلاقي يمكن أن تمتلكه الحياة السياسية السورية ، في الوقت الذي تعرض فيه الشعب لحملات دعاويِّة مختلفة من محطات الإذاعة المتنازعة ، مما جعله في حالة تشبه الهستيريا بأخبار المؤامرات والانقلابات والتهديدات بالغزو ... وهناك عامل آخر ، عامل محدد أدى إلى انهيار الحكومة المنظمة ، فالتبرير الأخلاقي الذي استند إليه الجيش في انقلابه الأول عام 1949 كان في نقص الاستعدادات التي قام بها المدنيون في حرب فلسطين ، والضعف والتخاذل اللذين كشفت عنهما تجربة الحرب ، ولكن في عام 1957 وبعد عشر سنوات تقريباً ، بدأ ادعاء الجيش بأنه يمثل ضمير الشعب يتلاشى... لقد كانت مقاومة سوريا لمحاولات العراق عائدة –في التحليل الأخير – إلى استمرار ضغط الجيش على مر السنين ، كما أن هذا الضغط أدى إلى توجه سوريا بشكل حاسم إلى مصر في منتصف الخمسينات . ولكن وعندما لم يستطع أي قائد السيطرة على بقية الضباط – كما في السنة أو السنتين الأخيرتين اللتين سبقتا الوحدة السورية المصرية – قدمت انقسامات الجيش على المسرح السياسي عاملاً من العنف لا يمكن تصوره .. وأدت بذلك إلى زيادة حدة التصدع في سياسة المدنيين ، وهذا عين ما حدث في خريف 1957 . وجاء تهديد آخر لنظام سوريا الجمهوري الليبرالي بتأثير حدوث تبدل راديكالي في محتوى واتجاه التفكير القومي الذي أخذ مكانه منذ الحرب العالمية الثانية . ويمكن أن يصور ذلك في العضوية والتنظيم والأهداف السياسية وأنماط العمل والتصرف بين "الكتلة الوطنية" في فترة الحرب وبين حزب البعث في فترة ما بعد الحرب . وقد أفسحت العلاقة غير الثابتة بين الأعيان المحافظين الذين وجهوا اهتمامهم إلى ضمان وحدة سورية الداخلية أفسحت الطريق لحزب من مثقفي الطبقة الوسطى ، تربطه الفكرة أكثر مما يربطه التحالف ، مكرس للوحدة والإصلاح الاجتماعي للعالم العربي بأكمله . " [الصراع على سوريا ص 401-402-403 ] .





--------------------------------------------------------------------------------

· في طور صعود البورجوازية الأوربية الممتد بين 1500 و1850 "بدا للبورجوازية [الأوربية ] أنها لا تستطيع إرساء نظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلاَ على أنقاض الإقطاع في الداخل ، والتحرر القومي من السيطرة الخارجية ، وتميز هذا النضال البورجوازي بمحتوى ديمقراطي "[بحوث في الفكر القومي العربي ص68 ]. مع تبلور الظاهرة الإمبريالية في الرأسمالية منذ 1880 انقلب الأمر وتحولت البورجوازية إلى رجعية في السياسة والأيديولوجيا وباتت استعمارية ، راحت تتحالف مع الطبقات الإقطاعية في الأقطار الأوربية التي تأخر تصنيعها خاصة ألمانيا و في الأطراف الزراعية ذات الأنماط ما قبل الرأسمالية كالمنطقة العربية . مما دفع الإقطاعية الطرفية إلى أن تتحور نحو بورجوازية عائلية ليبرالية تصدرت العمل السياسي في الأقطار العربية إثر انسحاب العثمانيين بعد الحرب العالمية الثانية . هكذا تميز نضال هذه الطبقات بالرخاوة والمساومة وبالنظرة القطرية الأنانية الضيقة ، وباتت رجعية كونها جاءت في الطور الرجعي للبورجوازية الأوربية .

· ما جاءت به الثورة البلشفية هو أمر منهجي وحاسم : وهو أن البروليتاريا وبرنامجها الديمقراطي باتت منهجياً وتاريخياً الوريث الشرعي للمهام الديمقراطية للبورجوازية الآفلة والمنحطة تاريخياً ..

* لقد أدركت ألمانيا تأخرها بفعل الغزو النابوليوني ولكن هذا الغزو وهذا العامل الخارجي لم يعيق تطورها الصناعي كعقبة خارجية في وقت لاحق، كما لم يعق قيام الوحدة بين الولايات الألمانية .. وهذا عكس ما يعاني منه العرب حيث العامل الخارجي الإمبريالي والأوضاع الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي نتجت عنه في الداخل تشكل عقبة أساسية أمام أي توحيد قومي أو تحديث صناعي . وهذه الأوضاع الإمبريالية تكرس التخلف الاجتماعي الاقتصادي والأيديولوجي وتعيد إنتاج هذا التخلف باستمرار ..

# نعني بالأيديولوجية العضوية للطبقة العاملة أيديولوجية قائمة على أساس نتائج العلم التاريخي الاجتماعي هدفها وعي الشرط البورجوازي (الضرورة البورجوازية ) وتجاوز هذا الشرط، أو هذه الضرورة . فكل مثقف يضع نفسه في هذه الوضعية : إنتاج العلم التاريخي بالشرط البورجوازي وبروافع التجاوز لهذا الشرط فهو مثقف عضوي للطبقة العاملة ، حتى لو كان يتحدر أصلاً من طبقة مغايرة .

* قد تنجز بيروقراطية مستبدة مهمة ديمقراطية بعينها ، مثال ذلك قيام الوحدة الألمانية على يد البيروقراطية البسماركية ، أيضاً تصنيع روسيا السوفييتية على يد البيروقراطية السوفييتية الستالينية ..

**"انفجر الاستياء المتصاعد للطبقة الوسطى المالكة وللمثقفين العصريين علناً في أزمة التبغ لعام 1891-1892 "[إيران ص43 ] . وتوج بثورة حزيران 1905 إلى آب 1906 . بما فيها النضال من أجل الدستور 1906-1907 مروراً بنمو الحركة العمالية وحزب تودة [الشعب] 1941-1953 الذي توج بحكومة مصدق الديمقراطية المدعومة من العمال والجماهير الشعبية، ومن التيار الليبرالي في الحركة الدينية ، وبعد الانقلاب على مصدق وعلى حزب تودة . قام حكم محمد رضا شاه الذي أسقطته ثورة 1979 بقيادة الخميني .

* يكتب إريك دافيز : "من الواضح أن طبقة كبار ملاك الأراضي قد تراكمت لديها كميات كبيرة من رؤوس الأموال خلال القرن التاسع عشر ، وهي رؤوس الأموال التي صارت متاحة فيما بعد للاســـــتثمار في

الصناعة المحلية . كما أوضحنا أيضاً كيف أن نمو زراعة القطن قد أدى إلى تبلور الطبقة المحلية من كبار ملاك الأراضي داخلياً ، واندماجها مع الصفوة السياسية التركية- الشركسية . ولم يقتصر الأمر على أن كثيراً من ملاك الأراضي المحليين قد زادوا مساحات ملكيتهم من الأراضي وثرواتهم بصورة هائلة . بل أنهم أيضاً حولوا زراعاتهم من محاصيل الإعاشة المتنوعة إلى القطن .. ومع تراكم رؤوس الأموال لدى ملاك الأراضي المحليين ، فإنهم تحولوا في الغالب إلى ملاك غائبين ، حيث انتقلوا إلى القاهرة والإسكندرية وغيرها من المراكز الحضرية . وهناك ، أدى وعيهم المتزايد بمصالحهم المتبادلة ، التي كانت تتركز على زراعة وتسويق القطن ، إلى نشوء "الصالونات " (المنتديات) السياسية . وأدى صعود ملاك الأراضي المحليين في المكانة الاجتماعية ، نتيجة لتراكم رأس المال والنشاط السياسي المتزايد ، إلى جانب عجز الطبقة التركية- الشركسية الحاكمة عن الاستمرار في استيراد العبيد الشركس ، إلى تزايد المصاهرة بين الفئتين ، وهي المصاهرة التي أدت بدورها إلى تآكل الفروق العرقية وفروق المكانة التي كانت تفصل حتى الآن بين ملاك الأراضي المصريين المحليين وملاك الأراضي الأتراك- الشركس . وهكذا ، خرجت طبقة كبار ملاك الأراضي المصريين من القرن التاسع عشر بقدر كبير من رأس المال ، وبدرجة عالية نسبياً من التماسك الاجتماعي " [راجع إريك دافيز "تجربة بنك مصر 1920- 1941 " ص 229]



** يكتب فيليب خوري : "في الجيل الأول بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ، قاد الحركات السياسية الرئيسية في سوريا أعضاء في العائلات المنتمية إلى الطبقة العليا المدينية ومسؤولون سابقون في السلطنة، جلبوا معهم إلى الأوضاع السياسية الجديدة أسلوباً معيناً في العمل السياسي ونظرة مشتركة إلى العالم . وفعلاً كان ثمة درجة ملحوظة من الاستمرارية في ممارسة السلطة السياسية المحلية في سوريا ، من دون انقطاع سببه انحلال الإمبراطورية العثمانية . وإلى حد بعيد كان الرجال المهمون في الشؤون المحلية تحت حكم العثمانيين هم أنفسهم أو أبناؤهم ، الذين يمارسون النفوذ السياسي تحت حكم الفرنسيين . ونظم الزعماء السياسيون أنساق الدعم الشخصية الخاصة بهم في سوريا بين الحربين كما كانوا يفعلون في سوريا العثمانية ." [راجع فيليب خوري "سوريا والانتداب الفرنسي – سياسة القومية العربية 1920- 1945 " ص 25 ] ويضيف خوري "على الرغم من الاستمرارية الاستثنائية للحياة السياسية السورية منذ العهد العثماني وطوال فترة الانتداب الفرنسي ، فإن ما تلا الحرب العالمية الثانية من إعادة ترتيب العلاقات بين القوى قد أضعف في الواقع الإطار الثابت للسياسة الوطنية . وكان عامل التمزيق الآخر هو الأشكال الجديدة من التعبئة السياسية والمنافذ الجديدة إلى السلطة السياسية التي بدأت تبرز في نهاية الانتداب " [سياسة القومية العربية 1920-1945 ص 690 ]