1989-2009 : السبل المعتمة للتغيير الرأسمالي بالشرق


المناضل-ة
2009 / 12 / 3 - 00:36     

بقلم: كاترين ساماري


يحدد سقوط جدار برلين وحل الاتحاد السوفييتي بداية منعطف تاريخي نحو إعادة الرأسمالية في بلدان أوربا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي. لكن بأي عناصر استمرارية وقطع مع الماضي؟ نقترح تحقيبا للمراحل التي تتيح موضعة هذا المنعطف في تاريخ تلك المجتمعات.

--------------------------------------------------------------------------------

بقلم ونتناول فيما بعد كيف أضفت "خصخصة" الدول وأشكال الملكية، بلا إسهام بـ"رأسمال نقدي"، طابعا معتما على إعادة الرأسمالية، و أتاحت في البدء بالأقل الالتفاف على المقاولات الكبيرة. وقد طمس الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، إلى حد بعيد، حصيلة اجتماعية كارثية. لكنه يثير أيضا في الوعي وفي النضالات الممكنة النقاش حول خيارات أخرى ضرورية. تمثل فترة 1989-1991 – من سقوط جدار برلين إلى حل الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو- بداية منعطف تاريخي: منعطف تغير للنظام في بلدان الشرق والاتحاد السوفيتي. تتميز الإجراءات المعتمدة تميزا جذريا عن محاولات إصلاح النظام القديم التي وسمت تاريخه منذ سنوات 1950 حتى برسترويكا غورباتشوف. وكانت "أزمة ديون" بلدان عديدة بأوربا الشرقية قد جعلتها شديدة التأثر بضغوط خارجية، في إطار طور العولمة النيوليبرالية الجديد. لكن إدخال تغييرات "من فوق" لصالح دمقرطة جزئية سيسهم في كل لبس و عتامة منعطف يرمي أساسا إلى إعادة نظر في كل ما هو ملكية اجتماعية...

لمحة إجمالية...

لا شك أن النظام القديم المنتسب إلى الاشتراكية كان نظام استغلال، إذ لم يكن يتيح للعمال، وللسكان عامة، سلطة قرار حقيقية على تنظيم عملهم وأهدافه. ساد ذلك النظام باسم العمال على ظهرهم، مزيلا الممكن الوحيد الذي بوسع الاشتراكية أن تعارض به "الفعالية" الرأسمالية الرهيبة، أي وضع الكائنات البشرية في تشارك حر من موقع مسؤولية تامة وكاملة على صعيدين فردي و جماعي معا ... إن القمع وظاهرة الفساد مع الحزب الوحيد هو السبب العميق للسلبية و لتدهور فعلي للمكاسب الاجتماعية المطبوعة بالبيروقراطية. إنه السبب الأول "للانتصار" الرأسمالي –دون إضفاء شرعية ولا ثبات على هذا الأخير- لأن الفرق بين الحقوق والقيم الاشتراكية المعترف بها من جهة والواقع من جهة أخرى فسح المجال لإلغاء الحقوق.. باسم السوق و ديمقراطية زائفة .

مذاك تنظر الكتلة العظمى من السكان المعنيين، من بولونيا إلى روسيا مرورا بألمانيا الشرقية أو يوغوسلافيا، نظرة حنين إلى سنوات 1970 بما هي سنوات "الاشتراكيةّ"، والاستقرار، والمكاسب الاجتماعية، لطبقة عاملة معتبرة مصدرا للقيمة... و يشار في كل مكان إلى سقوط مستوى المعيشة. إن هذا الإدراك يقدم الماضي تحت إضاءة وردية بجلاء، إذ يجب ألا ننسى أن الأمر كان يتعلق بالسنوات السابقة لتفجر نقابة تضامن في بولونيا، أو تطبيع تشيكوسلوفاكيا بعد قمع ربيع براغ من قبل الدبابات السوفييتية في العام 1968، أو أيضا قمع الانتلجانسيا الاشتراكية في يوغوسلافيا أو بولونيا... لكن كل من لا يرى اليوم في ذلك الماضي غير غولاغ [معسكرات العمل العقابية-م] أو مجتمع ما هو الا تنويعا من "رأسمالية الدولة" عاجز عن تفسير الإدراك الشعبي الراهن لتلك الحقبة، و بخاصة حجم التقهقر الاجتماعي في سنوات 1990 والتغيرات العالمية التي يخفيها ذلك.

إن عمل الذاكرة، والتحليل وتوضيح السيناريوهات، يصطدم بروايات تاريخية رسمية جديدة هي امتدادات للحرب الباردة. إذ ليس واردا بتاتا، بنظر إيديولوجيي " نهاية التاريخ" المؤرخة بسقوط جدار برلين، قبول أن الماضي كان شيئا آخر غير "قوس" شاذ، ويكرر خطابهم بلا كلل أن الأمر يتعلق بـ"عودة إلى الوضع الطبيعي" بأوربا. كما لو كانت هذه القارة موحدة يوما ما، و كما لو لم تكن ثمة إمبراطوريات متنافسة ثم ثورة صناعية حيث فرضت الدول- الأمم المسيطرة بأوربا الغربية الامبريالية علاقات "تبعية" مع باقي أوربا والعالم. .. و كأن ثورة أكتوبر (وكل ثورات القرن العشرين الأخرى) والتغيرات بأوربا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن رهانها العميق تصنيع لصالح الطبقات الشعبية، مرورا بإعادة النظر في التبعيات إزاء المركز الامبريالي القديم. و كأن الحروب الامبريالية، وما بين الحربين العالميتين، والفاشية و الأزمة الرأسمالية الكبرى، لم تقسم القارة الأوربية تقسيما عميقا ولم تعط شرعية حقيقية لستالينغراد وللمقاومات المعادية للرأسمالية وللفاشية ولحركات الفلاحين والعمال الساعية إلى حقوق اجتماعية أولية.

إن من يحجبون الماضي على هذا النحو يقدمون أيضا اليوم "توسيع" الاتحاد الأوربي إلى الشرق بما هو تتويج لنجاح – فيما يتعلق الأمر بغطاء أسمال يرمي إلى احتواء أوضاع تفجرية. إنهم يتحدثون عن "استدراكاتّ" مقبلة بفضل الاندماج الأوربي على صعيد نمو النتاج الداخلي - فيما هذا النمو الهش مرفق بتراجعات اجتماعية كثيفة. ويتكلمون عن "الديمقراطية" و السكان يقاطعون صناديق الاقتراع بفعل غياب بدائل حقيقية. ويثيرون"العودة إلى أوربا" عندما توجد أوربا الشرقية في موقع سوق طرفي واسع.

لكن جعل الماضي ومنعطف سنوات 1980 قابلا للفهم يصطدم أيضا بقصر بصر رؤى أخرى بالأبيض والأسود – سواء التمجيد الجديد للماضي أو مساندة عمليات إعادة تركيب بين شيوعيين سابقين و معادين للشيوعية قوميين كارهين للأجانب، أو إنكار كل مكسب سابق وبخس قدر عميق لمنعطف سنوات 1980، وذلك باسم الفروق بين المثل الاشتراكية و"الاشتراكية القائمة فعلا".

لا يمكن استعادة قابلية فهم "القرن السوفييتي" إلا بعمل يجمع باحثين وفاعلين من "أوربا الشرقية" السابقة [1] ومن الغرب، يكونون نقديين في الآن ذاته إزاء أنظمة التسيير والاضطهاد البيروقراطية السابقة وإزاء العولمة الرأسمالية.

ليس المقصود في هذا المقام غير اقتراح بعض معالم تحليل لا غنى عنها في ثلاث نقط.

1- المنظور التاريخي للمراحل الداخلية/الخارجية التي أفضت إلى منعطف سنوات 1990، بالتأكيد على التحولات الممهدة لهكذا منعطف، أي تحول متم سنوات 1960 على صعيد الانتلجانسيا في علاقاتها مع العمال و تحول سنوات 1970-1980 المطبوع بالاستدانة و بصعود التيارات التكنوقراطية.

2- توصيف الأسباب الرئيسية التي جعلت إعادة الرأسمالية معتمة:ّ خصخصةّ الدول وأشكال الملكية، دون إسهام حقيقي بالرأسمال و من ثمة أيضا بالالتفاف على المقاولات الكبيرة.

3- حصيلة أولية كارثية إلى حد بعيد- لاسيما بالنسبة للبناء الأوربي.

إعادة للرأسمالية تضيء الماضي... وأطواره الكبرى

لم يحدث منعطف سنوات 1990 في سماء صافية. فهو في الآن ذاته قطيعة (تغيير أسس نظام) وسيرورة مطبوعة بعناصر استمرارية أسهمت، على وجه الضبط، في تعتيم "الانتقال".

من الخاطئ طبعا تقديم مجمل بلدان أوربا الشرقية بما هي كل. فالفروق التاريخية كبيرة – بين الاتحاد السوفييتي، ورومانيا تشاوسيسكو، ويوغوسلافيا تيتو و تشيكوسلوفاكيا الـُمطبـعة بالدبابات السوفيتية، وبين بولونيا التي تمت تقنية مجالسها العمالية في 1956 وهنغاريا حيث بالعكس جرى في العام ذاته قمع المجالس العمالية في الدم والتدخل السوفييتي.

مع ذلك، يمكن إجمالا تمييز مرحلة تاريخية أولى تمتد من سنوات 1970 حيث كان منطق الاعتراضات قائما على المطالبة الصريحة بمزيد من الاشتراكية، أيا كان منشأ النظام...

كان النظام، بتنويعاته، يسعى إلى توطيد شرعيته، وقاعدته الاجتماعية، باسم القيم الاشتراكية – كان يعطي، عوض التحرر، أمانا ومستقبلا مضمونا للأبناء بشرط عدم الاعتراض. و كان ارتفاع مستوى المعيشة المنتظم، وارتقاء عمودي هائل للفلاحين نحو الطبقة العاملة، وللعمال نحو الأجهزة، يضمن تصنيعا متسارعا لأوربا الشرقية قياسا بالتشكيلات الاجتماعية السابقة. كان الاقتصاديون الليبراليون يطلقون نعث "بطالة مموهة" على استخدام تام سيء يجرؤون على اعتباره أسوأ من البطالة، و كذا على نمو مبذر للموارد المادية والبشرية، كما كانوا يتحدثون عن "تضخم مالي مموه" لأجل انتقاد نظام يجري فيه إنتاج مواد الاستهلاك، والسكن، و الأدوية، والثقافة، بدون معايير ربح ودون "أسعار سوق" حقيقية. صحيح أن الطلب غالبا ما كان، بفعل المستوى المنخفض جدا للأسعار المتحكم بها إداريا، لامتناهيا وبالتالي غير ملبى ( مع صفوف انتظار طويلة، ووصول البضائع بموجات، ونقص في الجودة والكمية).

لكن الأمر كان أيضا استفادة مضمونة للجميع من المواد والخدمات الأساسية. وكان التطور الكبير للبحث العلمي، والتعليم، والفنون، والتأهيلات، والاستهلاك، يمتزج مع واقع الرقابة والخسائر البيروقراطية...

كانت محاولات الإصلاح الصادرة عن الأجنحة الـُمصلحة بالحزب الواحد خلال سنوات 1950 و 1960 بالاتحاد السوفيتي أو أوربا الشرقية ترمي إلى تحسين جودة المنتجات وتنظيم الاقتصاد باستعمال بعض الآليات الجزئية للامركزة المبنية على السوق... مع الإبقاء على الحزب الواحد. لكن ما نتج عنها من تفاوت و انعدام أمان اجتماعي أدى دوما إلى حركات مقاومة والى وقف الإصلاحات... باسم مثل المساواة المستعملة أدواتا من قبل التيارات "المحافظة" في الأجهزة ضد أشكال المنطق التكنوقراطية.

ومما يرمز لتلك الحقبة أن حركة الشباب في ربيع براغ في 1968 بتشيكوسلوفاكيا كانت تتبنى المثل الاشتراكية، وكذلك أمر "الرسالة المفتوحة" التي وجهها كورون و مودزلفسكي في بولونيا. وكانت حركة الطلاب و الانتلجانسيا اليوغسلافية في يونيو 1968 تعارض"البرجوازية الحمراء"، مطالبة "بالتسيير الذاتي من أسفل إلى الأعلى" وبالتخطيط وبمجالس التسيير الذاتي ضد الإصلاح القائم على السوق في 1965. وكان الجميع يسعى إلى ربط الصلة مع الشبيبة المتمردة في ألمانيا وايطاليا ومايو 1968 الفرنسي، و يعارض الجميع التدخل الامبريالي في فيتنام.

لكن تلك الحركات تعرضت كلها للقمع. و جرى بالتالي منع أي تعددية سياسية، وأي تجربة اشتراكية بديلة، من طرف حزب واحد محتكر لحق القيام بإصلاحات أو وقفها عندما يكون الحزب مهددا بفقد التحكم السياسي بالوضع. كانت إذن تلك الإصلاحات ُتجمد بسرعة، مؤدية عرضيا إلى تحسينات هشة، لكن إجمالا إلى فقد "المركز" بشكل متزايد للتحكم بوحدات الإنتاج التي كانت تكسب مزيدا من الاستقلال دون أن تحل أبدا المشكل الجوهري، مشكل البيروقراطية التي كانت بالضبط متطفلة على التخطيط وعلى "السوق" الاشتراكية. هذا مع انقلاب على الصعيد الثقافي لم ُيقدر حق قدره سوى حاليا: انه انقلاب انتلجانسيا استدارت في سنوات 1980 نحو الليبرالية أو نحو القومية ( في يوغوسلافيا)، مؤاخذة الطبقة العاملة على تحالفها الموضوعي مع الأشكال القمعية والمحافظ للنظام.

لم يمكن بتاتا قيام نموذج نمو غير نموذج انتشاري ومبذر للموارد البشرية والطبيعية، لكنه مطبوع جدا بالفساد والزبونية وغير ُمرض للشباب المؤهل بقدر ما كانت الحاجات الأساسية، على مر الزمن، ملباة وبقدر ما كانت الأجيال الجديدة تنتظر من الحياة شيئا آخر غير الاكفهرار البيروقراطي وغياب الحريات. كانت التناقضات الداخلية لنظام بيروقراطي سائد باسم العمال والسكان، لكن على ظهرهم، تعني العجز عن الانتقال إلى نمو أفضل نوعيا ومقتصد للموارد. وقد فاقمت آليات الفساد، والنزعة المحافظة البيروقراطية، وغياب الحريات، الاكفهرار وتدهور المكاسب الاجتماعية – قليلة الجاذبية للأجيال الشابة. وأخيرا، انه " باسم الاشتراكية" كانت قوات حلف وارسو تدخلت في تشيكوسلوفاكيا، و أن هذه الامبريالية وليس حلف شمال الأطلسي هي التي ستعتبر أكثر فأكثر منفرة للأجيال التي كانت في العشرين من العمر إبان ربيع براع و في الأربعين في 1989...

سنوات 1970-1980: صعود نزاعات منطق و مشكل الديون

بوجه توقيف الإصلاحات، خلال سنوات 1970، حاولت الأحزاب الحاكمة بعدد من بلدان أوربا الشرقية (المجر، رومانيا، بولونيا، يوغوسلافيا، ألمانيا الشرقية) تحديث الاقتصاد والاستجابة لتطلعات تحسين الاستهلاك بتطبيق سياسات استيراد كثيف واستدانة خارجية.إن واقع احتماء الأنظمة المخططة القديمة إزاء السوق العالمية يُقاس بسرعة الارتباط التجاري بالاتحاد الأوربي بعد 1991، عندما جرى تفكيك مجموعة الكوميكون السابقة [مجموعة المساعدة الاقتصادية المتبادلة] التي كانت تربط بلدان "المعسكر السوفييتي" السابق. جرى الانتقال من منطقة شبه استكفائية إزاء السوق العالمية حتى سنوات 1970 إلى مبادلات بنسبة 60 % مع الاتحاد الأوربي – مع عجز تجاري منهجي إزاء هذا الاتحاد... يمثل عقد 1970 مرحلة مفصلية في الانتقال من منطق إلى آخر، لصالح الاستدانة الخارجية. كانت المبادلات بين بلدان الكوميكون تجري بين منتجات، طبق آليات مقايضة. و كانت أسعار السوق العالمية تؤخذ بالحسبان... على نحو يجعل المبادات بين أعضاء الكوميكون أفيد من المبادلات مع السوق العالمية. كان ثمة نوع من "قسمة العمل" مع تخصصات، لكن صعود "الشيوعيات الوطنية" المقاومة لاختزال العلاقة في خضوع للكريملين أدى إلى إخضاع المبادلات في الكوميكون إلى التخطيطات الوطنية الموجهة أولا نحو أهداف تصنيع كل بلد.

انتقلت تلك البلدان خلال بضعة عقود من تشكيلات اجتماعية هي في غالبيتها زراعية في الأطراف الرأسمالية إلى بلدان تمثل بها الصناعة في منعطف سنوات 1980 نسبة 70% من النتاج الداخلي الإجمالي. وقد جرى ذلك التصنيع على قواعد انتشارية غالبا ما كانت مبذرة للموارد الطبيعية والبشرية، لكنها بجميع الأحوال قليلة الاحترام لمعايير "السوق" و حامية جدا اجتماعيا.

كان مجموع الوضع يعني في سنوات 1970 لحاقا بالبلدان الرأسمالية المتطورة. وانعكس ذلك في الوعي بالمطالبة بخفض الفرق بين الحقوق والمثل الاشتراكية المعترف بها والواقع؛ وليس برفض المشروع الاشتراكي (حركة المجالس العمالية بالمجر في 1956، ربيع براغ في 1968 بتشيكوسلوفاكيا، ويونيو 1968 في يوغوسلافيا...)

سنوات 1980 :"أزمة الديون"

بالعكس كانت سنوات 1980 سنوات "أزمة ديون" مفضية إلى تدهور مستويات المعيشة والحمايات ببلدان عديدة بأوربا الشرقية – بولونيا ، يوغوسلافيا، رومانيا، المجر، ألمانيا الشرقية...-فيما كانت شرائح موجهة نحو الغرب داخل أجهزة الدولة والمقاولات تميل إلى الاستقلال عن القيادات القديمة المحافظة أكثر.

لم يكن بوسع موجة الاستيراد، المحققة بالاستدانة خلال عقد 1970، أن تحل مشكل أوجه عدم فعالية النظام؛ لكن الديون تفاقمت بفعل ارتفاع أسعار الفائدة المقرر بالولايات المتحدة الأمريكية مطلع سنوات 1980 والمنعكس على مجمل المعدلات البنكية الخاصة مؤثرا على الديون. كانت الأزمة تعني في عقد 1980 طورا تاريخيا جديدا حيث الضغوط الخارجية المتنامية للمقرضين ( ولصندوق النقد الدولي) تضغط على تلك الأنظمة التي كانت سابقا شبه استكفائية.

فيما كان فرق مستوى المعيشة بين البلدان الرأسمالية المتطورة و أوربا الشرقية قد تقلص خلال عقود عديدة، دل سباق التسلح (الضاغط على الاتحاد السوفييتي) وأزمة الاستدانة في بلدان عديدة بأوربا الشرقية على سقوط الاستثمارات في الاستهلاك و البلاء التقني لتجهيزات الصناعة المدنية. وفيما كانت الرأسمالية الغربية تحقق ثورة تكنولوجية جديدة تعيد النظر في تنظيم العمل و ميزان القوى الاجتماعي الناتج عن " الثلاثين سنة المجيدة"، اتسع الفرق بين أوربا الشرقية، ومنها الاتحاد السوفييتي، والغرب الرأسمالي.

أدى إدراك الشبيبة والشرائح المؤهلة الجديدة بأوربا الشرقية لهذا الفرق إلى تعزيز قوة جاذبية أوربا الغربية. لا سيما أن "النماذج" التي تبدو "رابحة" في سنوات 1980 كانت هي السويد أو ألمانيا التي كانت تسيرها أحزاب اشتراكية- ديمقراطية . وفي يوغوسلافيا (وبخاصة سلوفينيا)، كما في المجر وروسيا أو بولونيا، جرت تقاربات بين المعارضين الديمقراطيين وتكنوقراطية مؤهلة تشعر بانحباس ترقيتها الاجتماعية بفعل نزعة النظام المحافظة. [2]

لكن الاستدانة لم تكن تعبر بمختلف بلدان أوربا الشرقية عن نفس الأوضاع، ولم تكن تعبر عن نفس إجابات الأحزاب الواحدة التي كانت لا تزال حاكمة خلال عقد 1980. كان للاستدانة البولونية – وبالضبط استيراد جيريك في سنوات 1970 منتجات غربية بفضل تلك الاستدانة، صيت شعبي بالغ. لكن لم يكن بد من دفع الفاتورة. كان ارتفاع أسعار مواد الاستهلاك سبب تفجر نقابة تضامن: في نظام لم يعد الاقتصاد فيه محددا بآليات السوق، تصبح تغيرات الأسعار – بحق- خيارات "سياسية". لكن ملايين العمال – وقسم مهم منهم أعضاء بالحزب الواحد- كانت لهم ذاكرة 1956: كانت بولونيا على هذا الصعيد حالة على حدة، مطبوعة بتراكم تجارب عمالية غير مقموعة مباشرة، لكن محتواة ومشوهة من قبل النظام. كان الارتياب من الحزب الوحيد قويا، وكذا تشوش "الكلمات" والتوجهات. وكان مؤتمر نقابة تضامن يعكس أوجه الخلط تلك – لكن مركز ثقله ظل مطبوعا بدينامية "تسيير ذاتي" وليس خصخصة المقاولات [3]. و بعد عقد القمع، سيسعى قسم من الانتلجانسيا الديمقراطية والمعادية للشيوعية إلى استعمال ما تبقى من تعبئة عمالية للتفاوض حول مساومة مع النظام – سعت المائدة المستديرة إلى الجمع بين إصلاحات ليبرالية وحفاظ الحزب على عناصر احتكار سياسي. لكن تم، بضغط التمويلات الأمريكية (منها إلغاء ديون بولونيا في مطلع سنوات 1990، و كذا أشكال رشوة مباشر للقيادات النقابية والسياسية) إدخال العلاج بالصدمة بالإفادة – لوقت وجيز جدا- من شرعنة شعبية ضد من قمعوا نقابة تضامن.

و في باقي البلدان المستدينة، كانت السيناريوهات مختلفة. في رومانيا سدد تشاوسيسكو خلال عقد 1980 مجموع الدين على قاعدة ديكتاتورية شرسة ضد شعبه- وسيفضل أنداده جعله يدفع ثمن لاشعبية هكذا نظام باغتياله خلال "ثورة" زائفة في منعطف سنوات 1990. و في يوغوسلافيا، كانت سنوات 1980 مطبوعة بتضخم راكض بثلاثة أرقام معبر عن مختلف المقاومات الاجتماعية لسياسات التقشف على ظهر العمال. لكن سلطات الجمهوريات حرفت الاستياء الاجتماعي نحو النزعة الوطنية، مع تفكك لكل أشكال التضامن السابقة لتمزق الفيدرالية – سعت الجمهوريات الغنية، سلوفينيا وكرواتيا، إلى مغادرة المركب الذي كان يغرق من أجل الاندماج في النظام العالمي الجديد بصفة" أوربيين جيدين"، باللعب على روابطهما التاريخية مع النمسا وألمانيا.

أما قادة المجر فقد حاولوا الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي للنظام باختيار تسديد الديون بفتح أفضل المقاولات للرأسمال الأجنبي.

أما جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حسب ج.مينك و ج.ك سزوريك (1999)، فقد كانت منذ نوفمبر 1987 "متخلى عنها" من طرف غورباتشوف الذي كان يعتبر توحيد ألمانيا حلا أمثل ممكنا لسياسة تخلي الاتحاد السوفيتي عن التزامه العسكري – أملا في خروج من منطق"الكتل". لكن دينامية التوحيد الألماني- ثم توطيد حلف شمال الأطلسي وتوسيعه، بالإفادة من الأزمة اليوغوسلافية- اتخذت مسارا آخر... أفلت لغورباتشوف – وكذا الاتحاد السوفييتي ذاته.

كان تفكيك الكوميكون وتدمير الاتحاد السوفييتي هدفا لايلتسين لأنه كان يريد، بالنظر إلى كون روسيا منتجا أساسيا لموارد الغاز والبترول، أن يفرض على الجمهوريات التي باتت مستقلة، وعلى أعضاء "الكتلة" السابقين، أسعار سوق حقيقية بالعملة الصعبة. لقد قامت بلدان الكوميكون السابقة، بعد أن تصنعت في إطار الاحتماء من السوق العالمية، ثم بعد فشل عمليات استيراد دون تحويل آليات الملكية والإنتاج، بالتوجه جذريا نحو مشروع اندماج في الاتحاد الأوربي.

منعطف تاريخي معتم

أطلقت مؤسسات العولمة على التغيرات التي طبعت البلدان المسماة اشتراكية خلال عقد 1990 اسم "انتقال إلى اقتصاد السوق". عبرت هذه الصيغة عن وجود خروج من النظام القديم، وليس رغبة في إصلاحه، لكن الأمر كان سيرورة.

كيف يحدد إذن في تلك المجتمعات معنى التغيرات ووجهتها؟ من كان يحدد (من كان يقرر) هدف "الانتقال" و سمات"اقتصاد السوق" التي كان وجوب التوجه إليها "بديهيا"؟ ماذا كان يمكن أن تعني هكذا صيغة "اقتصاد سوق" لا سيما لسكان معنيين بسيرورة يُزعم في الآن ذاته أنها "ديمقراطية"؟

بوجه عام، لم يكن لدى أولئك السكان سوى معرفة محدودة بـ"السوق"، مختزلة في الغالب في فكرة ... أن الأمر يتعلق بملء واجهات المتاجر، وهو منظور جذاب بعد عقد من سياسة التقشف. أما الوجه الديمقراطي للعملية، فقد جرى ربطه بظهور تعددية حزبية و انتخابات تعددية.

لكن ماركة "الانتقال" ( كما حكم "الخبراء" الدوليين على درجة "تقدمه") جرى ربطها بسرعة بعمليات "الخصخصة"، الموضوعة في قلب الإصلاحات. وهنا أيضا قلما وضح خبراء التغيرات للسكان بأي خصخصات يتعلق الأمر فعلا – أو بوجه الدقة ماذا كان منطقها الاقتصادي- الاجتماعي.

كان للإنتاج البضاعي الصغير وللصناعة الحرفية مكانة في النظام القديم (في يوغوسلافيا وبولونيا كانت الأغلبية العظمى من الأراضي ملكية خاصة و صغيرة المساحة، وكانت الصناعة الحرفية موجودة). طبعا، جرى توسيع مكانة الإنتاج البضاعي الصغير بفعل الإصلاحات الجديدة. لكن ذلك لم يكن ما يميز المنعطف، إذ كان هذا الأخير يستهدف أساسا الصناعة والخصخصة المنهجية للمقاولات الكبيرة، أي آلاف المقاولات الكبيرة التي كانت بمثابة قلب تلك المجتمعات الصناعي، حيث توجد الأغلبية العظمى ( زهاء 80% في الغالب) من فرص العمل... سواء كان اشتغال تلك المقاولات جيدا أو سيئا. باتت الخصخصة المعممة هدفا "بحد ذاته"، "مسجلا" للمنعطف، أو لالتزام الفرق الحاكمة "الحقيقي" بالقطع مع الماضي: كانت شرطا للقروض الغربية ( تحت رقابة و اكراهات" سياسات التقويم الهيكلي" لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي )، وحتى في الجوهر شرط انضمام إلى الاتحاد الأوربي.

الأهداف الحقيقية لـ"الانتقال": ماذا كان مطلوبا تدميره؟

لم يكن للنقد في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية وظيفة "رأسمال" ( لم يكن ممكنا بيع أو شراء مصانع، وتجهيزات، و مواد أولية وقوة العمل... ناهيك عن أسهم). و لم تكن ثمة معايير ربح لتوجيه الاستثمارات- لأنه لم تكن ثمة أسعار تعكس التكاليف أو / و العرض والطلب (في القطاعات الصناعية الأساسية)؛ ولم يكن ثمة قياس حقيقي للتكاليف ( كانت الخطة بالصيغة "السوفييتية" محققة أو متجاوزة بكميات فيزيقية أيا كانت الكلفة...). فكانت إحدى أولى التدابير التي وجب على "الخبراء" الغربيين اتخاذها اعتماد محاسبة في المقاولات لم تكن - في غالبيتها ـ تعتبر في الحساب التجهيزات... بالأقل حيث لم تكن طبقت إصلاحات لامركزية في عهد النظام السابق.

بوجه عام، لم تكن ثمة إغلاق مقاولات مشتغلة "بخسارة"، ولا تسريحات اقتصادية. بقيت أنظمة الأسعار "موجهة إداريا"، و منخفضة بشكل مستديم قياسا بالمواد والخدمات الأساسية أو الإستراتيجية، على نحو لا يعكس التكاليف ولا علاقات العرض والطلب. كان للنقد دور "دخل" يتيح شراء مواد الاستهلاك. و في الغالب لم تكن الأجور المباشرة هي الأساسية، إذ كانت الإعانات للمنتجات والخدمات الأساسية (السكن، النقل، الغذاء، والمنتجات الثقافية كذلك) ُتعتبر استهلاكا جماعيا ( أو أجرة غير مباشرة)، وتنضاف إليها، مع فرصة العمل، أشكال هامة من الدخل العيني موزعة من طرف المقاولات الكبيرة، مثل السكن، و حضانات الأطفال، والمنتجات النادرة، الخ...

و حتى امتيازات البيروقراطية كانت امتيازات استهلاك بالدرجة الأولى، مستحوذا عليها بفعل الموقع في الجهاز السياسي/ الإنتاجي. وقد كانت حقبة برجنيف في روسيا حقبة نزعة محافظة بيروقراطية قصوى، لكنها أتاحت في الآن ذاته مقاومات اجتماعية كبيرة حول وتيرات العمل وحول ضمان فرص العمل (حتى ولو كانت فرص عمل سيئة). وأخيرا كانت صناعة تلك البلدان بوجه عام تحت هيمنة بنية احتكارية...

عندما رفضت الكتلة العظمى من السكان، وبخاصة في مؤتمر نقابة "تضامن" في 1980، ديكتاتوريات الحزب/ الدولة الواحد، لم تتعبأ أبدا من أجل مشروع خصخصات معممة. كان الهدف حياة أفضل وأوسع حرية، بعيدا عن أي نقاش حول "مذاهبّ" أو إيديولوجيات مشوشة. وغالبا ما كان المأمول هو الاستفادة من أفضل ما في كل نظام –من النموذج السويدي أكثر من الرأسمالية الانجلوسكسونية...

ساعد رفض الديكتاتوريات السابقة، التي باتت عاجزة عن تأمين حتى مستوى المعيشة، كما في بولونيا و تشيكوسلوفاكيا، على قيام تحالفات عريضة أثناء أول انتخابات حرة. لكن جبهات"ما المرفوض؟" هذه انقسمت فيما بعد في كل مكان خلال عقد 1990 حول"ما المطلوب؟". كانت التيارات الليبرالية تدعي أنها تضع موضع اتهام التعسف وأشكال التبذير المميزة لنظام الحزب/الدولة القديم؛ ولكن معها الحمايات الاجتماعية أيضا. وهذا سبب جزئي لتباين نتائج الانتخابات حسب وعود الأحزاب الجديدة والقديمة التي جرى إصلاحها إلى هذا الحد أو ذاك وحسب ما كان يريد هذا القسم من السكان أو ذاك التعبير عنه في المقام الأول ( في موقع جيد إلى هذا الحد أو ذاك لمواجهة تقلب السوق)، إما معاقبة القادة القدامى الفاسدين،أو توق إلى تغيير جذري، أو خوف من التغيرات المعتبرة، خطأ أو صوابا، خطيرة.

كانت قوة التيارات النيوليبرالية في البداية في ادعاء إتيان الفعالية الاقتصادية والحريات معا، بناء على وصفات "إجماع واشنطن" المدعية طابعا كونيا. كانت الأسواق والخصخصات، بالنسبة لغالبية الناس، تجريدات يملك ناصيتها الاقتصاديون، الذين غالبا ما لم يفقدوا الاعتبار بنفس درجة ما جرى للساسة. كان لتلك الوصفات، بادعائها الطابع العلمي، ميزة إرادوية ومعيارية، إذ فرضت نفسها باستبعاد خياراتها من مجال النقاشات الديمقراطية [4]. و لم تكن مزودة من أجل ذلك بقوة مؤسسات العولمة وحسب، بل أيضا بدعم متحمس من أعضاء النومنكلاتورا القدامى.

المفارقة فعلا أن ذلك الطابع غير الديمقراطي لـ"إجماع واشنطن" سهل الانقلاب الاجتماعي- السياسي لعدد كبير من قادة الحزب الواحد نحو الخصخصات، بوتيرات و يافطات متباينة.

أنه في تحليل الأشكال التي اتخذتها الخصخصات يمكن، بوجه الضبط، إيجاد سبب وكيفية سنوات "الانتقال" الأولى- أي سنوات انقلاب لا سابق تاريخي له.

أي خصخصات كانت "نواة صلبة" للانتقال؟

ُوضعت الخصخصات في قلب الانتقال. لكن، يجب القيام بتمييز كبير بين "الخصخصة الصغيرة" ( تشمل أساسا إحداث مقاولات صغيرة جديدة ) و "الخصخصة الكبيرة"( متعلقة بالمقاولات الكبيرة، أي القسم الأعظم من فرص العمل والإنتاج بتلك البلدان الصناعية [6].

غالبا ما كانت هذه الأخيرة محرك النمو ببلدان أوربا الوسطى والشرقية وبخاصة في بولونيا. وقد جرى أحيانا إعطاؤها قيمة بصفتها طريقا مفضلا للانتقال. ومن الأكيد أنها أسهمت في الآن ذاته في خلق آلية تنافسية، ومالكين حقيقيين ونقلا سريعا -إلى هذا الحد أو ذاك- للتمويلات نحو الشركات الخاصة. وغالبا ما كانت الإعفاءات الضريبية الأولية لصالح مقاولات جديدة تشجيعا لهذه السيرورة.

لكن هذه المقاولات الصغيرة هي ذاتها هشة في الغالب، و نموها يبلغ حدوده بسرعة. ومن جهة أخرى، كانت نسبة هامة من قطع الأرض الخاصة تكمل في الواقع مستوى المعيشة و حمايات العمل في المقاولات. بعبارة أخرى، كانت الملكية الصغيرة الفردية، رغم إيديولوجية سائدة غالبا ما تعادي الملكية الخاصة أو ترتاب منها وتضيق حدودها، قد وجدت مكانها و حماياتها في النظام. ومن ثمة تلك المفارقة الظاهرية المتمثلة في وجود فئة فلاحين صغار في بولونيا وصربيا، تبين أنها زبون انتخابي أساسي للأحزاب الأكثر شعبوية المتحدرة من الحزب الواحد القديم، بفعل استشعارها تهديد الأحزاب الليبرالية المناصرة "للخصخصات ... بلا حمايات اجتماعية.

لم تحل الخصخصات الصغيرة، في أي مكان، عمليا، مشكل إعادة هيكلة المقاولات الكبيرة التي كانت كلفتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مركز مصاعب الانتقال.

إن خصخصة المقاولات الكبيرة هو إذن المعبر عن رهانات الانتقال ومصاعبه. كان ولا يزال المعيار الأساسي لتمييز الخصخصات الكبيرة متمثلا في الإسهام بالرأسمال أو عدم الإسهام به (وحده التنويع الأول يطابق بيعا فعليا).

كيف تجري الخصخصة دون رأسمال؟ أو المصادر الرئيسية لعتامة إعادة الرأسمالية

كان خيار البيع يصطدم بمفارقة بالنسبة لبرنامج الخصخصة: النقص الكبير في الرأسمال النقدي الوطني المراكم لشراء المقاولات. نقص هو بنظرنا معبر عن كل انتقال. وهو يحيل في الواقع إلى غياب سوق رأسمال والى وظائف النقد المحدودة خلف علاقات الملكية المميزة للنظام القديم. قام الباحث الاقتصادي البولوني بروس W. Brus [7]بتحليل جيد لما كان يسميه "الدور السلبي" للنقد في نظام ليست فيه علاقة شراء/بيع حقيقية لوسائل الإنتاج، و لم تكن الأسعار "معبرة" فيه عن اقتصاد سوق وتقويماته، وهذا ما كان الباحث الاقتصادي المجري كورناي J. Kornaï [8] يصفه أيضا بالتأكيد على "إكراه الميزانية الرخو" الضاغط على المقاولات.على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي (المنطوي على بعد سياسي)، كانت هذه المميزات غير المحكومة بمنطق السوق تعني شبه استحالة وضع المصانع في حالة إفلاس. ورغم أن الإصلاحات وسعت هوامش آليات السوق، والمثال اليوغوسلافي هو الأقصى على هذا الصعيد، ظل جوهر معايير المردودية الرأسمالية غريبا كليا عن منطق تلك الأنظمة. و كانت هذه تؤمن إنتاجا انتشاريا على نحو عضوي، قليل الانشغال بالتكاليف، وبخاصة التكاليف النقدية، كاشفا تماما من وجهة النظر هذه جوهرا غير رأسمالي.

هذا ما جعل تراكم الرأسمال النقدي لم يبدأ، إجمالا، إلا بعد بداية الانتقال، تحت أشكال عنيفة و "بدائية" لـ"رأسمالية متوحشة" في الغالب (انظر Nagels 1991 ). و لم تجد الخصخصة بالبيع، فيما هو أساسي، من مشتر غير الرأسمال الأجنبي. هذا ما يشير إلى أي حد كان الفائض النقدي ضعيفا في النظام القديم.

في الواقع، وحدهما دولتا المجر و استونيا اختارتا خصخصات بالبيع للرأسمال الأجنبي، في بداية الانتقال. وبلا شك كان هدف ارتباط سريع بالغرب لفك الصلة بالاتحاد السوفييتي مؤثرا على توجه استونيا. وكان خيار قادة النظام المجري القديم في سنوات 1980 يخضع في الأصل، كما سبق القول، لهدف سداد الدين الخارجي بالعملة الصعبة المراكم في سنوات 1970: كان بيع قسم من أفضل ما في الصناعة يرمي إلى الحد عمليا من سياسة التقشف. وكانت الاستثمارات المباشرة الأجنبية تسعى من جانبها إلى التركيز على المناطق الأغنى و الأكثر استقرارا. لهذا كانت الخصخصات دون رأسمال تعني في المقام الأول المناطق الأكثر تضررا...

إن كانت الخصخصات مع إسهام بالرأسمال نادرة في الأصل، فما هي إذن أشكال ومضمون "الخصخصات المباشرة" كما أسمتها الباحثة البولونية في علم الاجتماع ماريا جاروز Maria Jarosz (9) ؟

يتعلق الأمر إذن بتغيير قانوني للملكية هدفه إتاحة تغيير للمنطق الاقتصادي الاجتماعي ولوضع العمال الاعتباري. لكن هذا الهدف ما أمكن التصريح به، طالما كان ضروريا في سنوات "الانتقال" الأولى إضفاء شرعية على العملية بما هي "ديمقراطية" بأنظار السكان المعنيين وكذا بقية العالم.

لهذا كانت الخصخصات المباشرة تعبيرا جزئيا عن الإرادة الأصلية في الحفاظ على طابع "وطني" ( وان أمكن شعبي) للـ"خصخصات" – و بخاصة في بولونيا وسلوفينيا. جرى كل شيء كما لو أن متطلب الشرعنة هذا قد حول إلى ميزة مباشرة نقص الرأسمال الوطني أو الأجنبي المستعد لشراء المقاولات الممنوحة، رغم أن "الخصخصات" القانونية بلا إسهام بالرأسمال طرحت في النهاية مشكلا كبيرا لعمليات إعادة الهيكلة المطلوبة.

كان ثمة، في ما هو أساسي، وبكيفية معتمة تنويعان كبيران من "الخصخصات المباشرة"، متروكة في الغالب لخيارات العمال في أغلب البلدان المعنية في بداية الانتقال: خصخصات... لصالح الدولة و"خصخصات جماهيرية" شبه مجانية لصالح موظفي ومسيري المقاولة.

هذان هما مصدر عتامة إعادة الرأسمالية الأساسيان .

إن مفهوم "خصخصات" مباشرة لصالح الدولة، المنطوي على مفارقة، يكشف في الواقع تغير المنطق الاقتصادي-الاجتماعي لحكام الدولة الجدد. كان الحزب/الدولة يسود "باسم العمال" (على ظهرهم)، بلا صفة مالك "حقيقي". و جرى إطلاق اسم "خصخصة" (في لغات البلدان المعنية وفي الإحصائيات) على كل ما ينال من الملكية الاجتماعية السابقة، حتى بالأشكال ذات الطابع الهجين والدولاني إلى أقصى حد.

في النظام القديم، لم تكن الدولة، رغم ما قالت عنها مقاربات نظرية عديدة، "مالكا حقيقيا": لم يكن قادة الحزب/الدولة مالكي أسهم، ولم يكن بوسعهم نقل أي شيء كملكية موروثة. كما لم يكن بإمكانهم القيام بأي بيع أو شراء حر للمقاولات التي يسيرون. وظلت غير واردة طرق وضع المقاولات في حالة إفلاس أو التسريحات دون إعادة دمج مسبق للشغيلة. و كان "المالك الفعلي" الذي باسمه يجري ذلك التسيير هو "الشعب" أو العمال. و هؤلاء كانت تعوزهم الديمقراطية الاقتصادية التي تتيح لهم الرقابة و القرار الفعليين – خارج هوامش المسؤولية المحلية الممنوحة للمجالس العمالية أو للتسيير الذاتي، لكن أدنى حركة احتجاج قد تكلف المسيرين وغيرهم من البيروقراطيين وضعهم السياسي- الاجتماعي. و بفعل هذا كان تثبيت مسيري المقاولات والاقتصاد شديد الارتباط بالأمان الاجتماعي وبالمكاسب الاجتماعية الممنوحة للعمال في المقاولات الكبيرة، أو في الجامعة ( مع حصة نسبية بناء على الوضع الاجتماعي، والنوع الاجتماعية، والاعتبار السياسي).

هذا هو الواقع الذي كانت الانتلجانسيا والتيارات الليبرالية تحتقره وتسعى إلى النيل منه بالتنديد في سنوات 1990 بـ"نزعة المساواة" و "عقلية الـُمسعَف" لدى العمال، أو "نزعة المحافظة" النكوصية.

بات المطلوب من الخصخصات المباشرة إحداث (حتى دون إسهام نقدي) تغيير جذري في منطق الدولة، أي تحقيق ملكية حقيقية تتيح في الآن ذاته تغييرا في وضع العمال الاعتباري، وحسب الحاجات، بيع المقاولات.

نحن هنا إزاء مصدر أول لعتامة هذه الاصلاحات-الثورات« réfolutions » [10] ( إصلاحات وتغييرات جذري للنظام وبالتالي ثورات في الآن ذاته): لا شك أن السكان المعنيين لم يدركوا في البداية جذرية التغيير الذي قامت به الدولة. و كانوا ولا شك يعولون على استمرارية حزب/دولة النظام القديم، الديكتاتوري طبعا لكن الضامن لحماية اجتماعية. وقد تعزز وهم هذه الاستمرارية الحامية بانتصارات الشيوعيين السابقين الانتخابية تحت يافطات اشتراكية أو اشتراكية –ديمقراطية منذ سنوات الانتقال الأولى. تلك كانت الحالة بوجه خاص في بولونيا بعد أقل من ثلاث سنوات من العلاج الليبرالي بالصدمة. غير أن الشيوعيين السابقين المتحولين إلى اشتراكيين-ديمقراطيين، والذين كان السكان يترجون منهم حماية اجتماعية أكبر، اختاروا فور عودتهم إلى السلطة بالانتخابات في بولونيا أن يكونوا يدا متحمسة لحلف شمال الأطلسي وللتغييرات الليبرالية الفائقة، و لم يخل هذا من ارتشاء. وهم اليوم يؤدون الثمن بكون اليمين الوطني والكاره للأجانب هو الذي يحمل ،ضد اليسار، خطاب مناهضة الصدع الاجتماعي و تمكن من الفوز في الانتخابات في بولونيا...

كان مصدر العتامة الثاني في "الخصخصات الجماهيرية"، وهي أشكال متنوعة من الأسهم الشعبية على قاعدة شبه مجانية. وكانت تعبر صراحة عن الاعتراف بكون الملكية القديمة"الاجتماعية" تؤول "قانونيا" ( وبالتالي بالأسبقية ومجانا) على نطاق جماهيري، إلى العمال والسكان. في روسيا بوجه خاص كانت الصورة الإعلامية لبرنامج الخصخصة " في 500 يوم" الذي وضعه الأكاديمي س. شالاتين في مطلع عقد 1990 يؤكد على "إرجاع" ملكية مغتصبة إلى الشعب وعلى وسيلة إنهاء الجريمة الخفية ( أمر حلله Favarel-Garrigues 2003) . جرى تطبيق "الخصخصات الجماهيرية" هذه لصالح عمال ومسيري المقاولات في اغلب البلدان (من روسيا إلى الجمهورية التشيكية مرورا ببلدان البلقان) في بداية الانتقال وفق سيناريوهات مختلفة. كانت تقوم على توزيع "قدرة شرائية" عبارة عن حصص من المقاولات على السكان والعمال: "قسيمات" تتيح شراء أسهم، توزيع مجاني أو شبه مجاني للأسهم، وحقوق بالأسبقية و تعريفات امتيازية في امتلاك حصص من مقاولاتهم... تباينت أشكال هذه الخصخصات، من اللجوء إلى مختلف أنواع صناديق الاستثمار إلى إجراءات البيع بالمزايدات المباشرة...

في الجوهر أسهم شكلا الخصخصة المباشرة دون رأسمال (من قبل الدولة أو الخصخصات الجماهيرية) في إلغاء كل شكل من حقوق التسيير و أدوات التسيير الذاتي المرتبطة بوضع إجمالي للعمال متحدر من "الملكية الاجتماعية".

كان المقصود أن تُخلق على نحو غير مباشر حالة أجراء خاضعين لاكراهات السوق. لم تعتمد "مرونة" قوة العمل المخضعة للسوق في قوانين العمل سوى في نهاية عقد 1990 وحتى مؤخرا خلال سنوات 2000. في الطور الأول من "الإصلاحات/الثورات" أمكن بالعكس أن تبدو "الخصخصات المباشرة" حامية بنظر العمال فيما كانت تلغي أي حق تسيير لملكية "اجتماعية".

في بولونيا، مثلا،كانت دولة سنوات الانتقال الأولى قد أصبحت، بواسطة "التسويق"، المالك "الخاص" الحقيقي مكان العمال، إذ كان منطق المردودية يستلزم أولا إلغاء المجالس العمالية في تلك المقاولات. و كان هذا الإلغاء شرطا لإمكان تصفية المقاولات على قاعدة السوق، وكذا بيعها اللاحق إلى مالك خاص حقيقي، فيما اعتقد العمال أنهم رووا في ملكية الدولة نوعا من الحماية.

إن تداخل أنواع المنطق المتناقضة هذا يوجد في "الخصخصات الجماهيرية" أيضا:"من وجهة نظر المستخدمين: كان الخيار البراغماتي لهذا الشكل من الخصخصة يرمي بالأقل إلى حماية الحقوق الاجتماعية، وبخاصة فرص العمل ضد عمليات إعادة الهيكلة التي قد يفرضها فاعلون خواص من خارج المقاولات (الدولة جرى اعتبارها أقل خطرا). فيما كان المقصود أولا، من وجهة نظر السلطات القائمة والمصلحين، إضفاء الشرعية على الخصخصات بنظر السكان: كان هذا في الآن ذاته يتيح "البرهنة" للمؤسسات الدولية أن ثمة "خصخصة"، وبالتالي قطعا مع النظام القديم، هذا الذي كان شرطا للقروض أو للتقارب مع الاتحاد الأوربي.

بدأت بفعل هذا عملية حقيقية من التقاطبات الاجتماعية الجديدة وتركيز الملكية، لا سيما لصالح مدراء سابقين لمقاولات أو فروع إنتاج، خلف تشتت أسهم شعبية بلا نقود وبلا سلطة، سوى سلطة إبطاء عمليات إعادة الهيكلة. كانت الدولة "المخصخصة" تطور أشكال منطق زبونية في تسيير حقوق ملكيتها الجديدة أو تتنازل عن حصصها لصالح مستثمرين حقيقيين خواص محليين أو أجانب. لن ننصرف هنا الى تحليل كل ما شمله ذلك من مونتاجات مالية وحروب اوليغارشيات.

النقطة الهامة المطلوب التأكيد عليها هي أن "الخصخصات المباشرة" سهلت تحمل الخصخصات دون احتجاج.

لكنها لم تخلق رأسمالية "فعالة" ومستقرة (ذات جذور في طبقة وسطى قوية وفي قدرة على رفع مستوى المعيشة)؛ ولم تحل مسائل عمليات إعادة هيكلة المقاولات الكبيرة و المرحلة الضرورية على هذا الصعيد، أي الانتقال إلى تسيير رأسمالي حقيقي، يتيح بواسطة إسهام بالرأسمال تحديثا تنافسيا- وليس تدمير النظام القديم فقط...

كان ثمة خلف الخصخصات الجماهيرية إفراغ للمقاولات الكبرى من مضمونها الإنتاجي... لكن بتفاديها، أي تفادي مواجهة مباشرة مع العمال. وقد ترافق لأمد متفاوت الخفض الحاد للقروض الموجهة إلى تلك المقاولات، ولصالح القطاع "الخاص" فعلا، وعدم أداء الأجور، مع عدم إغلاق المقاولات المفلسة... وقد أوضحت علاقات المقايضة السائدة في روسيا حتى الأزمة المالية لعام 1998 [11] استمرار عناصر من النظام القديم في ذلك الطور الخاص.

كان قيام المقاولات الكبيرة بإنتاج وتوزيع عيني لمواد وخدمات، لا سيما التي تسيرها النقابات، (السكن،حضانات الأطفال، مستشفيات، منتجات تمنحها"متاجر" المقاولات) يضطلع في الماضي بدور أساسي في "تشريك" وتثبيت العمال في المقاولة. وقد قامت، بإشكال متدهورة كليا، بدور ُمخمد صدمات خلال فترة. وانتقل بوتين اليوم إلى طور تحويل المزايا العينية القديمة إلى أشكال نقدية. و يشكل ذلك، في سياق إفقار عام، مصدر حركات احتجاجية جديدة.

يؤدي فقد فرصة العمل إلى فقد كل تلك المزايا التي يصعب "تخريجها" عندما تتقلص ميزانيات البلديات والدولة بضغط ليبرالي، وعندما تصبح الأجور ضعيفة عاجزة عن شراء المواد والخدمات المخصخصة حاليا... أتاح الموروث المنحط في تسيير المقاولات القديمة، مع قطع الأرض الصغيرة، تفادي انفجارات اجتماعية في ظروف عدم أداء الأجور، لكن مع الحفاظ على فرص العمل ( وبالتالي السكن و غيرها من الحمايات العينية). و قد أبطأ ارتفاع البطالة الظاهرة، لكنه جعل مفاهيم "المردودية" المستعملة بوجه عام لوصف "التسيير السيء" لتلك المقاولات عبثية، ولم يأخذ بالحسبان تماسك معايير التكاليف "المشركة" القديمة( على نحو جيد او سيء، ليس ذلك هو السؤال).

خلاصة: حصيلة كارثية

على صعيد الوضع الاقتصادي الإجمالي، غالبا ما ُيقارن الانهيار الحاصل في النصف الأول من سنوات 1990، من حيث الحجم، بأزمة 1929 (رغم فروق الإطار).

في فترة 1989 و 1992، كان تراجع النمو شاملا لكل البلدان المعنية: زهاء 40% في روسيا، و20 % في المجر، و 30% في الجمهورية التشيكية، و50% في بولونيا (التي كان وضعها الأفضل)... وكان الوضع في البلدان المستقلة الجديدة الناتجة عن تفكك الاتحاد السوفييتي بالأقل في نفس درجة الخطورة، وغالبا أكثر.

بعد 1993 استأنف النمو في بولونيا( بفضل إلغاء الدين الخارجي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية – الأمر الذي لا يقال في الغالب)؛ ثم شمل بلدان أخرى بأوربا الوسطى والشرقية.

وبعد عشر سنوات من سقوط جدار برلين، في 1999، كان النتاج الداخلي الإجمالي لبلدان البلطيق الثلاث أقل من مستواه عام 1989 بنسب بين 20 و 40 %. وكانت الجمهورية التشيكية والمجر وسلوفاكيا وسلوفينيا قد استعادت، أو جاوزت بقليل، مستوى نتاجها الداخلي الإجمالي في 1989؛ وحدها بولونيا شهدت تقدم إنتاجها الداخلي الإجمالي بنسبة 20% قياسا بالعام 1989- وذلك بوجه خاص بفضل إلغاء دينها الخارجي في مطلع العقد، إلغاء قلما ُيذكر. و مع الألفية الجديدة، ترافق النمو مع تعمق البطالة واللامساواة- لأن إعادة هيكلة المقاولات الكبيرة والزراعة كان بالكاد بدأ والتمويلات تركزت على القطاعات الأغنى... و كان حجم الاستخدام ( أي فرص العمل) في 1999 بنسب بين 73 % (المجر و استونيا) إلى 90% (بولونيا)، أي مستواه في 1999. و تواصل ارتفاع البطالة مع "النمو" – زهاء 20% في بولونيا لحظة الانضمام إلى الاتحاد الأوربي في مايو 2004. و تم تمويهها جزئيا بانخفاض عدد "السكان النشيطين"، مع الانكفاء في قطع الأرض، والعمل بالأسود [*] أو تنامي الدعارة.

ترافقت خصخصة خدمات الصحة والحضانات، وانخفاض ميزانية التعليم اللاممركز جزئيا نحو الجماعات المحلية بدون موارد، مع صعود عام للفقر واتساع الفوارق الاجتماعية و التفاوت بين المناطق. جرى إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية، وبخاصة أنظمة التقاعد، في اتجاه النماذج النيوليبرالية التي يدعو إليها البنك العالمي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين التي شارك خبراؤها، لا سيما في بولونيا، مشاركة مباشرة في وضع الإصلاحات.

كما كان مفترضا في اللامركزة الإقليمية، التي قدمت بمظهر دمقرطة وتدمير لآليات المركزة القديمة، أن تعطي الجماعات المحلية وسائل تأمين نفقات التكوين والحماية الاجتماعية. لكن انعدام الموارد الضريبية أدى إلى إغلاق مدارس و خدمات عامة أخرى (لا سيما في بولونيا)، فيما المقاولات الكبيرة القديمة التي كانت مكان مفضلا للحمايات الاجتماعية المرتبطة بفرص العمل (سكن وحضانات ومطاعم و أحيانا خدمات استشفاء ومراكز ترفيه، الخ) كان يجري تفكيكها أو تختنق بفعل انعدام قروض.

في ظرف عشر سنوات (1989-2001)، تراجع الاستخدام بالزراعة من نسبة 18% إلى 6.5% في المجر، ومن 9.4% إلى 4.5% في الجمهورية التشيكية، ومن 12.6% إلى 6.7% في سلوفاكيا. وفي الآن ذاته، لم تكن الزراعة في بولونيا تسجل سوى انخفاضا طفيفا، رغم التسريحات الكثيفة في قطاع مزارع الدولة. أفول الاستخدام في الزراعة هذا مدعو للاستمرار والتسارع في بلدان مثل بولونيا أو ليتوانيا اللتين حافظتا بالتتابع على 18.8% و 17.8% من العاملين بالزراعة. لكن هذا يعني تكاثر البطالة القروية وما يلازمها من فقر. و باستثناء الأراضي القروية التشيكية، بلغت البطالة القروية في تلك البلدان مستويات تفوق جدا تلك المسجلة في المراكز الحضرية، وتعني الأجراء السابقين في وحدات الإنتاج الجماعية من العمال- الفلاحين ضحايا التسريحات الصناعية، الشباب كما البالغين.

البطالة بالريف في العام 2000

البلد معدل البطالة القروية بالنسبة المئوية

سلوفاكيا 21.2 بولونيا 18.0 ليتوانيا 17.6 ليتونيا 14.9 استونيا 13.9 المجر 9.2 جمهورية التشيك 8.7

المصدر: Transition Report, 2002, European Bank for Reconstruction and Development

الفقر بالريف بالنسبة المئوية

البلد نسبة السكان القرويين في حالة فقر ليتونيا 51 بولونيا 33 استونيا 31 المجر 24 سلوفاكيا 10 جمهورية التشيك 1

المصدر: World Bank and EBRD, in Transition Report, 2002, European Bank for Reconstruction and Development

يجب أن تضاف إلى البطالة الرسمية البطالة المخفية التي تمس قسما من السكان يعيش في وحدات الإنتاج الفردية الصغيرة. يبلغ عدد الأشخاص المعنيين بهذه الظاهرة في بولونيا 1 إلى 1.5 مليون شخص(أي زهاء 15 إلى 30% من اليد العاملة القروية). ظلت نسبة هامة من سكان الريف في فخ الزراعة المعاشية التي تؤمن لهم مداخيل هزيلة لكن أيضا وضعا اعتباريا اجتماعيا (بخاصة في بولونيا حيث يمنع امتلاك وحدة إنتاج ُتجاوز هكتارين صاحبها من إعلان نفسه عاطلا، والأمر ذاته في ليتوانيا حيث يمنع امتلاك أرض، حتى دون استمداد دخل منها، ادعاء البطالة).

يمكن إجمالا تمييز مجموعتين زراعيتين:

الأولى تسود فيها وحدات الإنتاج الكبيرة (أكثر من 100 هكتار) مع استخدام زراعي في انخفاض محسوس (اقل من 10 %) مع عمليات إعادة الهيكلة. هذا في المقام الأول وضع الجمهورية التشيكية، و سلوفاكيا أيضا، والمجر(مع ما ينتج، في البلدين الأخيرين، من بطالة مرتفعة بالريف).
الثانية ذات بنيات ضعيفة التركز، وتضم ناشطين زراعيين عديدين على عاتقها، كما في بولونيا حيث تسود زراعة عائلية من النوع الفلاحي تعيل سكانا عديدين (بطالة مخفية)، أو في ليتوانيا حيث عادت إلى التشكل زراعة عائلية في عقد 1990. و يتعايش داخل هذه الزراعات العائلية قطاعان متفاوتا الأهمية:زراعة معاشية صغيرة بلا مستقبل، وزراعة تسويقية في طريق التوطد.

تمثل الزراعة ذات الوظيفة الاجتماعية "شباك أمان"، لكن اللجنة الأوربية تعتبرها في الآن ذاته عقبة بوجه إعادة هيكلة مجموع القطاع. هل سيقلص صندوق الضمان الاجتماعي الزراعي التي يمتص القسم الأعظم من موارد الميزانية لصالح منطق منتج مفيد للقطاع التسويقي التنافسي؟ إن طريق التحديث الذي تتمناه شريحة مزارعين مسوقين متنازع مع وضع كتلة من وحدات الإنتاج الصغيرة التي قلما لها مستقبل اقتصادي- ما عدا دمجها من جديد في سياسة قروية طموحة وخالقة لأشكال تضامن وتنمية إقليمية وفرص عمل... وهذا أمر ليس حقيقة على جدول أعمال المفاوضات الزراعية الدولية ويثير كامل لا يقين إصلاحات السياسة الزراعية المشتركة.

إجمالا، كانت نقاط الانطلاق، وكذا المسارات، متمايزة. لكن خلف تلك الفروق، يمكن وضع الحصيلة ذاتها لمجمل أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، حتى من قبل البنك العالمي [12] كما يلي:" أصبح الفقر أكثر انتشارا، وارتفع بوتيرة أسرع من أي مكان آخر في العالم." وفضلا على هذا يؤكد أن"التفاوت قد ارتفع في كل اقتصاديات الانتقال وبشكل مأساوي في بعضها"، وهذا" رغم أن بلدان هذه المناطق بدأت الانتقال بمستويات تفاوت من الأضعف في العالم".

البناء الأوربي – رهان غير متماسك

لم يكن الرأسمال بحاجة حقيقية إلى توسيع الاتحاد الأوربي كي يستثمر في أوربا الشرقية، ويجد بها موارد وقوة عمل غير محمية، مؤهلة و رخيصة، ويبحث فيها عن زبائن جدد. بالعكس، كان المستثمرون الأجانب مبتهجين لانعدام الاكراهات القانونية الأوربية، على الصعيد الاجتماعي كما البيئي. إن تحويل أوربا الشرقية إلى سوق طرفية أمر واقع قبل دمجها في الاتحاد الأوربي.

ومن جانب آخر، كان قادة الاتحاد الأوربي ينظرون نظرة داكنة إلى صعود الفقر والبطالة وبطء عمليات إعادة الهيكلة الصناعية والزراعية في بلدان وسط أوربا وشرقها: إنها كلها معايير تجعل من هذه البلدان مستفيدة محتملة من أموال هيكلية تمثل نصف الميزانية الأوربية. و لو جرى تطبيق المعايير القائمة على المرشحين لنيل تلك الأموال وللإفادة من السياسة الزراعية المشتركة، لوجب بالأقل مضاعفة حجم الميزانية. لم يكن الأمر ضخما بحد ذاته ( إذ يقل عن 1.2% من النتاج الداخلي الإجمالي للاتحاد الأوربي –مقابل زهاء 20% بالولايات المتحدة الأمريكية مثلا). لكنه كان يناقض رفض البلدان والمناطق الأغنى تأمين تحويل نحو الآخرين – سجل مشروع المعاهدة الدستورية صراحة أن التحويلات الكثيفة التي تمت لصالح ألمانيا الشرقية "استثناء خاص بألمانيا" ( هذا في دستور أوربي!)...

في الواقع تقدم مسار الاتحاد الأوربي إلى خلف. فرغم أن "معايير" لتحديد المرشحين حُددت في كوبنهاغن (1993)[13]، لم تبدأ المفاوضات سوى في العام 1998 مع خمسة مرشحين اعتبروا أكثر "تقدما" (المجر، بولونيا، الجمهورية التشيكية، سلوفينيا ، استونيا- واستبعاد 5 بلدان أخرى حتى "موجة ثانية"). وفي الواقع، كانت الضغوط لأجل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي صادرة من أوربا الشرقية. وقد أثار هذا التدبير استياء البلدان الخمسة المستبعدة خشية أن تزيد هذه المعاملة المتمايزة تعميق الفروق و تبقيها على الهامش على نحو مستديم. وتستمر أسطورة "المعايير". لكن في الواقع، كانت الاعتبارات الجيو-سياسية هي التي توجه الحكم على من هو "المرشح" الممكن أو لا وعلى فتح المفاوضات أو لا.

هكذا كان انفجار عام 1999 سياسيا: سجلت قمة الاتحاد الأوربي أن وعد دمج بلدان أوربا الوسطى والشرقية العشر المرشحة " شأن لا رجعة فيه"- ووسعته ليشمل بلدان غرب البلقان، مع إدخال ميثاق استقرار لجنوب شرق أوربا، يوما بعد نهاية حرب حلف شمال الأطلسي في كوسوفو: وأكدت لها قمة تيسالونيك في يونيو 2003 مشروع فتح الاتحاد الأوربي ،دون تحديد تاريخ لذلك، بشرط أن تتفاهم مسبقا وتحترم "معايير كوبنهاغن". إن "المعايير" الزائفة قابلة لهوامش تأويل واسعة، فماذا يعني احترام الأقليات في بناء أوربي يدمج "النموذج" الألماني كما الفرنسي أو الاسباني؟ و ماذا يعني أن يصبح بلد ما "اقتصاد سوق قادرا على مواجهة المنافسة" فيما كل البلدان المعنية بها بطالة و عجز تجاري متنام؟ أما " مكسب الانتماء إلى المجموعة" فهو تطوري وغير محدد فيما يخص السياسة الزراعية المشتركة والأموال الهيكلية.

يسير البناء الأوربي"قُـدما" لأسباب سياسية: إن الإخفاقات و أوجه اللايقين في "الانتقال"، زمن السلم كما أثناء الحروب، هو الذي يهدد القارة. في الواقع، إن مخاطر اضطراب كامل المنطقة، مع صعود الامتناع عن التصويت و تزايد أصوات أقصى اليمين المناهض لأوربا في الانتخابات التعددية، هي التي كانت إحدى الحوافز الرئيسية لتوسيع الاتحاد الأوربي- مع فرضية (مشكوك فيها مع الأسف) أن يتيح هذا التوسيع تخفيف مخاطر المواجهات.

الواقع أن تدمير الوظائف الاجتماعية للدول وميزانياتها، دون تطوير للأهداف الاجتماعية للبناء الأوربي هو الذي أفضى إلى دوامة كارثية مثلت مصدر تفجرات. ويتقاسم سكان "أوربا الجديدة" انشغالات سكان أوربا القديمة حول صعود عالم أحادي القطب والحرب، وحول البطالة وأشكال التفاوت الاجتماعي. هذا مع أمل الحصول على مساعدات لأجل عمليات إعادة الهيكلة وضد البطالة ( الإفادة من الأموال الهيكلية للميزانية)، و لأجل أوربا بلا حدود للشباب بوجه خاص. لكن حرية التنقل غير حقيقية سوى للرأسمال، و تصطدم تلك الخاصة بالبشر بجدران جديدة، جدران الفقر أو بأخطار إساءة استقبال متنامية... أما المساعدات فقد ذابت مع سياسات التقشف في الميزانية التي فرضها الاتحاد الأوربي... و ظهرت الهوة بين السكان و "ممثليهم" أكثر فأكثر في مجال البناء الأوربي لأنه يمس المسائل المركزية لشروط الحياة والعمل.

الخطر باد اليوم في بولونيا: لأن الخيبة بصدد مضمون البناء الأوربي تفيد الأحزاب الوطنية والكارهة للأجانب... إن خلق التنافس بين العمال، وسياسة الإغراق الاجتماعي والضريبي، الرامية إلى جذب الرساميل الخاصة- بسبب نقص التمويلات العامة- يؤديان إلى الكارثة. نشهد، في أوربا الشرقية كما في الاتحاد الأوربي ذي 15 عضوا، بزوغ فكرة إمكان معايير "تلاقي" أخرى غير معايير البنك المركزي الأوربي، وقيم أخرى غير قيم البورصة لتحديد المشروع الأوربي، وأيضا فكرة أن الخيارات الاقتصادية هي خيارات مجتمعية يجب أن تكون موضوع إجراءات ديمقراطية و ليس تنافس تجاري، مع حد أدنى اجتماعي و أهداف تنمية، واستخدام تام، وضمان اجتماعي مع أجور لائقة.

لكن هذه "أوربا مغايرة" في عالم مغاير. ألا يجب العمل من أجلها على نحو جذري، على قاعدة حصيلة نقدية لكل التجارب السابقة، "يوطوبيا ملموسة" ُتصنع انطلاقا من أشكال الرفض المتنامية للرأسمالية القائمة فعلا؟

[*]عمل بالأسود: العمل غير القانوني الذي يتم في غفلة عن الدولة وقوانينها.

المصدر: موقع الرابطة الشيوعية الثورية – فرع الأممية الرابعة في بلجيكا

كاترين ساماري

تعريب جريدة المناضل-ة

1. Cf. la revue Ezmelet (Conscience) en Hongrie, sous la direction de Tamas Kraus et Peter Szigeti, notamment l’édition en anglais du recueil d’articles de 2005 ; la revue Alternativi en Russie éditée par Alexandre Bouzgaline, ou encore la revue polonaise Rewolucija que dirige Zbigniew Marcin Kowalewski.

2. Lire notamment E. Szalaï, 1999 ; G. Mink et J-C Szurek, 1999.

3. Cf. Inprecor n° 509 septembre 2005, Dossier Pologne – une révolution écrasée et trahie, 25 ans après.

4. J. Sapir, 2002.

5. Cf. outre les références de la note 2, Eyal, Szelenyi & Townsley, 1998, Kornai, 1990 ; Drweski, 2002, Samary 2004.

6. Le poids dominant de l’agriculture en Chine est une différence majeure avec l’Europe de l’Est et l’URSS où elle pesait entre 10% et 30% du PIB à la fin des années 1970.

7. Brus, 1968

8. Kornaï, 1984

9. Jarosz, 2000

10. Cf.T. Garton Ash, 1993.

11. Sapir, 1998 ; Zlotowski, 1998.

12. Cf. Banque mondiale, Regional Overview. Challenges, http://Inweb18.worldbank.org et rapport Transition the first ten years.

13. Les trois critères officiels, sont un Etat de droit – pluralisme politique et protection des minorités ; une économie « de marché » capable de fonctionner et de supporter la concurrence ; l’incorporation de « l’acquis communautaire ».

REFERENCES CITEES

BRUS W. (1968), Problèmes généraux du fonctionnement de l’économie socialiste, Paris : Maspero.

DRWESKI B. (2002), “Du Parti ‘ouvrier’ à la ‘gauche démocratique’. Les métamorphoses d’un parti de pouvoir polonais (1989-2001)”, in J.-M. de Waele, éd., Partis politiques et démocratie en Europe centrale et orientale, Université de Bruxelles, coll. “Sociologie politique”, pp. 71-83.

GARTON ASH T. (1993), We the People, London : U.K. Penguin Book.

JAROSZ M., Ed. (2000), Ten Years of Direct Privatisation, Warszawa : Institute of Political studies.

KORNAI J. (1984), Socialisme et économie de la pénurie, Paris : Economica.

KORNAI J. (1990), The Road to a Free economy – Shifting from a Socialist Country : The Example of Hungary, New York, London : W.W. Norton & Company.

MINK G. & SZUREK J.-C. (1999), La Grande conversion, le destin des communistes en Europe centrale, Paris : Le Seuil.

NAGELS J. (1991), Du socialisme perverti au capitalisme sauvage, Bruxelles : Éditions de l’Université de Bruxelles.

SAPIR J. (2002), Les économistes contre la démocratie – Pouvoir, mondialisation et démocratie, Paris : Albin Michel.

SAMARY C. (2004), Réinsérer la Serbie dans l’analyse de la transition – rapports de propriété, Etat et salariat, Revue d’études comparatives Est-Ouest, vol.35 – mars-juin 2004, n°1-2.

SZALAI E. (1999), Pos-socialism and Globalization, Budapest : Istvan Nemeth.

ZLOTOWSKI Y. (1998), La crise des paiements en Russie, expression d’un consensus social ?, Études du CERI, n° 43, août, Paris : Fondation nationale des sciences politiques. * Paru dans « La Pensée », septembre-novembre 2006