حول مقدرة الرأسمالية علي التجدد - وهل يخرج إقتصادها متعافيا تماما بعد الأزمات


نجاة طلحة
2009 / 11 / 18 - 11:02     



الذين يتحدثون عن إمكانية تجدد الرأسمالية عبر الإصلاحات الهيكلية التي تُدخل عليها بين الحين والآخر لتواكب المتغيرات وتمتص آثار الأزمات المالية, غابت عنهم حقيقة الخواص البنيوية للرأسمالية والتي لا يمكن الفكاك منها إلا بتصفية النظام الرأسمالي وليس بتجديد هياكله. فقد يمكن لهذه الإصلاحات أن تخفف وبقدر محدود من حدة الأزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي دوريا وهي مراحل مرتبطة جذريا بهذا النظام وتخلف آثار عميقة وبعيدة الأمد, ومن المهم هنا ملاحظة أن فتراتها أصبحت في العقود الأخيرة طويلة ومتقاربة, لكن هذه الإصلاحات لا يمكن أن تقضي علي التناقضات الأصيلة في النظام الرأسمالي تلك التي تمثل لحمته وسداه.

الإصلاحات التي درجت عليها الحكومات لتلافي آثار الأزمات وإنقاذ الإقتصاد والتي يعتمدها الرأي القائل بقدرة الرأسمالية علي التجدد ومواكبتها لمتغيرات العصر هي غالبا ما تكون بتدخل الدولة لخلق التوازن لتجنيب الاقتصاد الإنهيار وذلك بفرض رقابة أكثر علي السوق أو كما حدث في غرب أوربا والولايات المتحدة خلال الأزمة المالية الأخيرة من تأميمات جزئية لبعض المؤسسات المالية بدخول الدولة كمشترٍ للأسهم لانقاذ تلك المؤسسات. حتي إذا تقاضينا عن أن هذا الاجراء يعتبر إعترافا بفشل قاعدة أساسية للنظام الرأسمالي وهي تحرير السوق, فتدخل الدولة هنا بالتأكيد ليس محايدا فهو يحمل دافع الضريبة مسئولية خسائر الرأسمالية وضمان التوازن لها علي حساب المواطن العادي. كما إن لهذا التدخل إنعاكاسات سالبة فهو يتم عبر الخزينة العامة ويكون خصما علي الإحتياطي المركزي فيصيب الإقتصاد بعلة التضخم. محور آخر يحد من فعالية الإصلاحات الهيكلية المعول عليها في قدرة الرأسمالية علي مواجهة الأزمات تتعلق بخصائص أصيلة في النظام الرأسمالي وتخلق تضاد يشل يد الدولة في فرض بعض الآجراءت الإسعافية فمثلا تخفيض سعر الفائدة الذي أتبعته الولايات المتحدة إبان الأزمة الأخيرة تسبب في تسارع معدلات التضخم وخسرت بسببه أرصدة أجنبية مؤثرة تحولت الي الإستثمار في عملات أخري وإرتفعت بسببه الأسعار فتباطأت حركة السوق بسبب انخفاض القوة الشرائية لدى الأفراد. بالمقابل إذا لجأت الدولة الي رفع سعر الفائدة لكبح التضخم فان ذلك حري به أن يزيد من أعباء الإقراض علي المستهلكين حيث تتم جميع المعاملات عبر كروت الإئتمان فيكون له نفس التأثير السالب في قدرات القوة الشرائية. لذلك فتجنب التضخم هنا يصبح شبه مستحيل والأسوأ أنه في فترات الأزمات يتحول هذا التضخم لما يسمي بالتضخم الركودي وهذالأخير له تأثير سالب متسلسل سأتعرض له لاحقا. بذلك يتضح أنه حتي الإصلاحات الهيكلية هذه تصطدم بتناقضات الإقتصاد الرأسمالي وحتي إذا قدر لها أن تنفذ فقد تنجح كمسكنات آنية لكنها لا تُصلح من السلبيات ذات الطبيعة البنيوية لهذا النظام بل قد تساعد في تعميق أزمته علي المدي البعيد.

عامل آخر يري البعض فيه تغيير للخريطة الطبقية في النظام الرأسمالي وهو بداية زوال التناقضات في علاقات الإنتاج كنتاج للثورة التقنية التي يشهدها الإقتصاد الرأسمالي وبناء علي ذلك تخبو جذوة الصراع الطبقي. ولكن بنظرة أعمق نجد أن هذه الثورة التقنية المستفيد منها هو الرأسمالي وحده بينما يزيد من خلالها الإستغلال الذي يمارسه تجاه العامل. فهنالك جانب هام في طبيعة التقدم التقني وهو أن إستخدام الآلات ذات القدرات العالية يزيد من تكلفة الإنتاج وقد يمتص أو يحد من وفرة الأرباح الناتجة عنه, وهذه الآلات بدورها مصدر ربح لقطاعات رأسمالية أخري تتطلع بدورها لتحقيق أرباح عالية من خلال إنتاج هذه الآلات, لذلك لا يمكن للصناعات التي تستخدم هذه الآلات من الضغط في إتجاه تقليل هذه التكلفة لكن الإمكانية التي يوفرها لها النظام الرأسمالي هو الضغط في جانب أجور العمال ليتوفر فائض قيمة أكبر عند إدخال الانظمة المتقدمة في الصناعة. هذا الوضع هو طبيعي بالنسبة للنظام الرأسمالي لأن أستغلال قوة عمل الطبقة العاملة هو البناء الذي يقوم عليه الاقتصاد الرأسمالي. هذا ينقلنا الي تناقض آخر في علاقات الإنتاج تزيد منه ظاهرة الثورة التقنية وهو أنه في ظل هذا التقدم التقني يزداد التناقض بين المقابل الذي يتقاضاه العامل وقيمة العمل التي يبيعها للرأسمالي. فكيف يحدث هذا؟

الأصيل في علاقات العمل الرأسمالية أن العامل يقبض جزء من قيمة عمله أي قيمة جزء من الزمن الذي يبيعه للرأسمالي ويمثل فائض القيمة الجزء غير المأجور من الزمن. بهذه المعادلة البسيطة فإن التقدم التكنولوجي يوسع من شقة هذا التناقض إذ لا تصاحب هذا التطور في معدلات الأنتاج (والذي هو في الواقع زيادة في فائض القيمة) زيادة تذكر في أجور العمال وحتي إذا حدث ذلك فإن هنالك متلازمات للنظام الرأسمالي تمتص هذه الزيادات لأن ذلك غالبا ما يحدث في فترات الركود التي يصاحبها التضخم الذي يجعل هذه الزيادات عديمة الفائدة. نعود لمعادلة تناقض علاقات الأنتاج الرأسمالي, فاذا ظل ما يتقاضاه العامل ثابتا فأن هذا التطور في معدلات الإنتاج بالمقابل تنتج عنه زيادة في فائض القيمة فتقلص من كمية الزمن المأجور وتزيد من الزمن المستغل (مجانا) من جانب الرأسمالي فيتسع البون بين قيمة العمل والأجر المقابل له وبذلك يقوي من التناقض في علاقات الإنتاج وهي السلبية الأساسية في بناء الإقتصاد الرأسمالي فلا يخفف من حدتها التطور التقني ولا يغير من واقع الصراع الطبقي بل يؤكد ويزكي تناقض هو مكون جذري للرأسمالية.

من جهة أخري فإن هذا التقدم التقني المضطرد ينتج عنه تضخم في قدرة الأنتاج الذي يسبب الأزمات المفضية لفترات الركود الإقتصادي. هذه الأزمات يلعب دورا أساسيا في تكوينها تناقض هام في النظام الرأسمالي ففائض القيمة الذي ينتج عن إستغلال قوة عمل الطبقة العاملة يعود علي الرأسمالي ربحا يجنيه من خلال بيع السلع المنتجة, ويأتي التناقض بأن القوة الشرائية الأساسية في السوق هي طبقة العمال (المكون الغالب للمجتمع). فيمثل التضاد بين فائض القيمة وقوة الشراء التي هي المنتج الأساسي لفائض القيمة تناقض يمثل معادلة هي أصيلة في النظام الرأسمالي ولا يمكن أن يطالها أي تجديد ولا تزول إلا إذا تساوي فائض القيمة بالأجر الذي يتقاضاه العامل وهذه خلاصة بالتأكيد نقيضة للرأسمالية بل تعني نهايتها.

ننتقل للشق الآخر من المسألة وهو مقدرة الإقتصاد الرأسمالي علي الخروج معافى من الأزمات التي تحل به دوريا وهذه الأزمات أوضح شكل يمكن أن يعبر عن التناقضات البنيوية في النظام الرأسمالي. و قد تطول فترة هذه الأزمات لتصل لمرحلة الكساد كما حدث خلال 1929-1939 فتكون ذات آثار سالبة مدمرة قد تمتد معالجتها لعقود. هذه الآزمات تنتج عن الفائض في الانتاج الذي ذكر سابقا والذي تشعل جذوته حمي المنافسة فيصل النشاط الاقتصادي إلى أوجه ثم تبدأ مرحلة الركود بإنخفاض النشاط الإقتصادي العام فيتدني حجم الإستثمارات وأرباح الشركات وترتفع معدلات البطالة. والتضخم إذا لازمته ظاهرة البطالة وهذا ما يحدث غالبا يحول الأزمة الي ركود تضخمي. وهذا النوع من الركود يمثل دائرة شيطانية تُصعب من فرصة الإقتصاد الرأسمالي في الخروج معافي بعد الأزمات.

تتكون هذه الدائرة الشيطانية كالآتي: في حالة الركود وفي سعيها لإنقاذ السوق تلجأ الدولة لتخفيض قيمة الفائدة لتقليل أعباء الإقراض على المستهلكين والمستثمرين. كذلك تتم تغذية حركة الاقتصاد بدعمه من الإحتياطي المركزي كما تتحمل الدولة صرف الدعم للعاطلين عن العمل فينتج عن كل ذلك معدلات عالية ومتزايدة من التضخم. بالمقابل وبما أن أساس الأزمة هو فائض الإنتاج تبدأ الشركات في تخفيضه وبالتالي تبدأ في تسريح العمال فتتواجه القوة الشرائية الأساسية (العمال) بمعضلتين تحجبانها عن دورها في أنعاش السوق.الأولي شح الدخل الذي لا يتجاوز الدعم المقدم من الحكومة والثانية هي غلاء الأسعار الناجم عن التضخم وعن سيطرة الإحتكارات وحرصها علي ثبات الأسعار. حالة البوارهذه تدفع الشركات للعودة لتخفيض أنتاجها وتشريد عدد أكبر من العاملين فتكتمل وتتكررالدائرة الشيطانية للركود التضخمي. هذه الدائرة الشيطانية تكبح قدرة الإقتصاد الرأسمالي علي التعافي من مخلفات الأزمة وتطيل من استمرار الآثار السالبة لها.

من الآثار السالبة الأخري للأزمات والتي لا يمكن أن يتجاوزها الإقتصاد سريعا ويتعافي هو هروب رؤوس الأموال نسبة لإنخفاض سعر الفائدة والذي بموجبه تنخفض القيمة الفعلية للودائع. والقوة الشرائية في الإقتصاد الرأسمالي تعتمد علي الإقتراض الذي يعتمد بدوره علي هذه الأموال فتستمر حالة الشلل الذي يصيب السوق ويستمر تراجع معدلات النمو الإقتصادي وتثقل حركته نحو التعافي.

أدهي مخلفات الأزمات والتي يكون الخروج منها شاقا وعسيرا هي تلك التي تصيب الأقتصاد الحقيقي فالأزمات المالية لا تعمل علي شل حركة القطاع المالي (الإقتصاد الوهمي) فحسب إنما تطال الإقتصاد الحقيقي والذي يشكله الناتج المحلي الإجمالي وهو المؤشر الرئيسي للنمو الإقتصادي لأي بلد, قالأزمات تلقي بآثار بالغة الضرر به فتصيبه بالتباطؤ أو بالنمو السلبي. هذه الأثار السالبة في الإقتصاد الحقيقي تمتد فتراتها ولا يمكن الخروج منها في أعقاب الأزمة مباشرة. فإن الأزمة تؤثر علي قطاع الإنتاج والخدمات فتصيب الإقتصاد في أهم مقوماته. ومن جهة أخري ترتفع التكاليف فيتوقف تطوير الهياكل التحتية والتي تمثل حجر الأساس للإقتصاد الحقيقي. وهذا له تأثير سالب إضافي لأن هنالك صناعات تصاب بالشلل إذا توقف طلب الدولة علي مدخلات تطوير هذا القطاع بأعتبارها المشتري الوحيد نسبة لطبيعة منتجات هذه الصناعات. من جهة أخري فأن التضخم يزيد تكلفة الإنتاج محليا فترتفع الأسعار وتفقد السلع المنتجة محليا القدرة علي المنافسة في الأسواق العالمية فتنخفض بالتالي الصادرات. من ذلك يتضح التأثير العميق للأزمات بتأثيرها المدمر علي الإقتصاد الحقيقي ويؤكد صعوبة خروج الإقتصاد الرأسمالي معافي تماما بعدها.

في وقت تسيطر فيه الإمبريالية علي حركة الإقتصاد العالمي فأن الأزمة التي تصيب أقتصاد رأسمالي مؤثر تمتد آثارها سلبا علي العالم كما حدث من تمدد لأزمة الإقتصاد الأمريكي التي سقطت تحت تأثيرها كثير من أقتصاديات العالم بل إستشرى هذا التأثير ليتسبب في أزمة مالية عالمية أمتدت من أمريكا لتصيب اقتصاد قارتي أوربا وآسيا. ومما لا شك فيه أن هذا التمدد للأزمة يعيق تعافي الإقتصاد الأمريكي لأنه يقلص فرصة الأسواق المتاحة للبضائع الأمريكية عند تواصل الإنتاج فترتد بذلك الأزمة لتكبج تعافي الإقتصاد الآمريكي. فيكون النشاط الإمبريالي عاملا إضافيا يطيل من عمر الآثار السلبية للركود الإقتصادي.