كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (3)


عبد الحسين شعبان
2009 / 11 / 16 - 19:08     


جيفارا: رمزية الصورة وصورة الرمز

لعلها مفاجأة لمن يزور كوبا، حين لا يلحظ وجود صورة فيديل كاسترو قائد الكفاح المسلح وزعيم الثورة ضد نظام باتيستا وقائد البلاد لنحو 5 عقود من الزمان، مثلما شاعت صور كيم إيل سونغ في كوريا وماوتسي تونغ في الصين وستالين وبعده الزعماء السوفييت في الاتحاد السوفييتي السابق وتشاوتشسكو في رومانيا وجوزيف برونز تيتو في يوغسلافيا، وتقليدهم في دول العالم الثالث وما أطلقنا عليه بلدان «التحرر الوطني»، التي بالغت في نشر صور «القادة» المنزّهين، وخارج نطاق النقد، في كل مكان.
ربما تلك المفارقة الأولى المباشرة التي تدهش الزائر، لاسيما إذا كان قد عاش في ظل أنظمة «العالم الثالث» والأنظمة الثورية والاشتراكية، لدرجة تجعل المرء في حيرة من أمره، حين يستعيد كيف تنتشر صور وتماثيل قادة الأنظمة الشمولية اليسارية والقومية والإسلامية وغيرها، في حين تختفي تماماً صورة كاسترو من المكاتب والجدران والساحات والأماكن العامة، ويتحدث عنه الناس لا باعتباره معصوماً أو خارج النقد، بل باعتباره صديقاً لهم أحياناً، حتى وإن اختلفوا معه أو بشأنه، وبشأن نظام الحكم وتقييماتهم له، ونقول ذلك ليس من باب الدعاية الأيديولوجية السابقة لإثبات الأفضليات، كما كان سائداً، ولكننا نتعرض لذلك مقارنة، بقدر كونه واقعاً تتميّز به كوبا ونظامها السياسي، لكن ذلك لا يمنع من نقد بعض الجوانب التي تتعلق باحتكار العمل السياسي والنقابي وهيمنة الحزب الواحد والمركزية الصارمة وشح حرية التعبير وغيرها.
أما المفارقة الثانية فإن صورة أرنستو تشي جيفارا تكاد تصادفها في كل مكان، وقد تكون تعويضاً عن صورة القائد- الرمز، مثلما هي رمزية البطولة والشهادة، خصوصاً وأن صاحبها غادرنا، وهو بعيد عن جبروت وقوة أهل النفوذ والسلطة، الأمر الذي يجعل صورة جيفارا نموذجاً رمزياً لحالة رومانسية وليست سلطوية، فهذا الاشتراكي النبيل، يبدو مثل فارس أو أمير، مملوء بالأحلام الغامضة الخضراء.
كان ذلك الطبيب الأرجنتيني الوسيم، الشجاع، ومحبوب النساء، قد ضاق ذرعاً بالوزارة، فقرر الانتقال إلى حيث مواقع المواجهة، مقاوماً بلا هوادة آفة البيروقراطية التي خاف على نفسه من أن تأكله، مدافعاً بلا حدود عن موقعه الثوري، ضد آلة الدولة التي حاول «الزوغان» عنها خوفاً من التهامه.
لقد أراد جيفارا أن يبقى ثورياً «طازجاً» لكل الفصول، فبذل كل ما في وسعه لكي لا يتحوّل إلى موظف أو إداري بيروقراطي، وهو الثوري الحالم، ولذلك لبّى نداء قلبه وعقله، وعاد إلى موقعه الحقيقي حيث الثورة التي في داخله، وهي التي قادته إلى الكونغو العام 1965، ليناضل ضد ظلم المستعمرين وأعوانهم وكان يردد «حيثما ثمة ظلم فهناك وطني»، مؤمناً بأن الحرية والعدالة هما وطنه، الذي يستحق أن يدافع فيه عن الإنسان بغض النظر عن قوميته وجنسيته وجنسه وانتمائه السياسي والثقافي وانحداره الاجتماعي وغير ذلك.
ومن الكونغو في إفريقيا إلى بوليفيا في أميركا اللاتينية شدّ رحاله مرة أخرى، حيث لم يهدأ أو يقرّ له قرار منذ أن التقى كاسترو وشقيقه راؤول في المكسيك، وانتقلوا منها إلى الشواطئ الكوبية، ليتمكنوا لاحقا من الزحف على هافانا لإسقاط نظام الدكتاتور باتيستا، بعد رحلة مضنية ومثيرة وشجاعة عبر جبال السيرامايسترا. لقد رفض تشي جيفارا كل إغراءات السلطة وكان ظمؤه إلى الحرية يزداد ويتعمّق كل يوم مثلما كانت العدالة الاجتماعية هاجسه باستمرار.
يوم شاع نبأ اغتيال جيفارا في 8 أكتوبر 1967، علق المفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر قائلاً إن جيفارا كان «أكثر الرجال كمالاً في عصرنا» وهو الذي التقاه مع صديقته الأديبة سيمون دي بوفوار بعد انتصار الثورة العام 1959، بكل العفاف الثوري والنزاهة الأخلاقية والتجرد الإنساني والاستعداد للتضحية بلا حدود. وكنت قد سألت الجواهري شاعر العرب الأكبر في إحدى مطارحاتنا عن جيفارا فردد بيتاً من الشعر:
إن الحياة معاناةٌ وتضحيةٌ حبّ السلامة فيها أرذل السبلِ
وعلّقت عليه ألست أنت القائل:
وأركبُ الهولَ في ريعان مأمنةٍ حبّ الحياة بحب الموت يغريني؟


وهنا التمعت عينا الجواهري فرحاً وكأنه يتحدث عن نفسه، فقال إن الشجعان المضحّين هم أكثر حبّاً للحياة وتفانياً من أجلها واستعداداً للبذل والعطاء، لأنهم يريدون حياة كريمة وحرّة، وصدق من قال:
لا تسقني كأس الحياة بذلّةٍ بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل

وإذا كان جيفارا شجاعاً، فلكونه إنساناً لديه إحساس عالٍ بالعدالة بكل ما تعني هذه الكلمة، وهنا لا أريد أن أضفي عليه صفة القداسة، مثلما يفعل البعض من محبيه ومريديه، في حين يدمغه خصومه وأعداؤه بممارسة العنف، بل والإرهاب، لكونه اختار طريق الكفاح المسلح، ومرّة أخرى لا بدّ من تسليط الضوء على خيارات جيفارا باعتباره نتاج مرحلة، كان فيها العنف الثوري والكفاح المسلح، أحد مستلزمات النضال الاشتراكي واليساري، لاسيما خلال فترة الستينيات وتفاقم الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، فقد وضع ما يؤمن به موضع التطبيق، وعاش بكل جوارحه للمثل والقيم التي كان يدعو إليها.

قد يكون البعض بالغ حين جعل من جيفارا أسطورة من الأساطير، وهو ما ينسجم مع البحث الإنساني -لاسيما في البلدان النامية- عن مخلّص أو منقذ أو بطل خارق، الأمر الذي كان يتعارض مع سلوك ونهج جيفارا، حيث كان يعيش حياته بكل اعتيادية وإنسانية شفيفة، يحب ويعشق ويدخّن ويكتب، يخطئ ويصيب وهو هكذا ينظر إلى الآخرين من موقع النقد والنقد الذاتي، ولعل أهم ما يميّزه عن غيره أنه في كل ما قال وعمل كان صادقاً وأصيلاً وشجاعاً، الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في سياقه التاريخي، ضمن الفكر السائد آنذاك، لاسيما باشتعال الصراع على جميع الجبهات بين الرأسمالية والاشتراكية.

وإذا كان لجيفارا رمزية خاصة، فلعل جزءاً منها تكوّن بعد استشهاده المثير في بوليفيا وتعدد الروايات حول مقتله، ومن ثم تغييب جثمانه وأخيراً ما ارتبط بنقل رُفاته بعد 30 عاماً.
ليست صورة تشي جيفارا وحده، رغم أنها الأبرز تزيّن الأماكن العامة، والساحات والمكاتب الرسمية وغير الرسمية، فصور وتماثيل الشهداء والأبطال تملأ الفضاءات بكل أناقة وذوق، إنها رمزية الصورة وصورة الرمز، حيث تختلط في إطار من الحلم الوقّاد، بهارمونية إنسانية باهرة.
في مكان متميّز من هافانا انتصب تمثال البطل القومي الكوبي سان خوزيه الذي استشهد في نهاية القرن التاسع عشر مقاوماً الغزو الاجنبي، دفاعاً عن وطنه وهو الشخصية الكوبية الجامعة التي يمجّدها الكوبيون ويتحدثون عنها باعتزاز كبير. تمثال سان خوزيه وهو يحمل طفلاً، له رمزية أخرى، فكأنه يريد أن يقول لأطفال كوبا والعالم أجمع وجميع المضطهدين من مختلف الأجيال: إن عدوكم هو هذا، حيث يوجّه نظره صوب الولايات المتحدة التي تحاصر كوبا منذ خمسة عقود من الزمان.
لم يكن الاتحاد السوفييتي السابق رغم كل الاختلافات والمشاحنات الفكرية والعملية يتردد في تقديم المساعدات الأممية لكوبا، وبغض النظر عن بعض الضغوط ومحاولات إملاء الإرادة وإشكالية العلاقات، إلا أنها استطاعت حماية كوبا في فترة عصيبة من الحرب الباردة، ولم تتجرأ واشنطن على مهاجمتها، لاسيما بعد الوفاق الذي أعقب أزمة الصواريخ العام 1962 بين جون كينيدي ونيكيتا خروشوف، حين تم سحب الصواريخ السوفيتية، مقابل تعهد بعدم مهاجمة كوبا.
لكن واشنطن بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانقطاع المساعدات عن كوبا، أقدمت سفارتها في هافانا على رفع لوحات مضاءة أمام مبناها وبأعلى طابق تدعو الشعب الكوبي إلى التمرد والثورة ضد حكومة فيديل كاسترو والحزب الشيوعي، ورغم أن ذلك الإجراء غير دبلوماسي، إلا أن السلطات الكوبية واجهتها بالأسلوب نفسه حين رفعت راياتٍ وأعلاماً، حتى كادت المنطقة تحجب رؤية المارّة عن قراءة ما كتبته السفارة الأميركية، وسمي ذلك المكان «جبل الرايات» أو «تلة الأعلام»، وهو عبارة عن مرتفع عُرف باسم «منصّة مناهضة الإمبريالية» قبالة السفارة الأميركية، وبادر المواطنون لعقد محاكمات صورية لقادة الولايات المتحدة، حيث يحضر فيها أبناء الشهداء والضحايا الذين سقطوا جراء خطط الغزو والتآمر والحصار، إضافة إلى بقايا الهنود الحمر الذين يقدمون شهاداتهم بحق ما لحق بهم من غبن وحيف ويطالبون بالتعويض وجبر الضرر وإحقاق العدالة!
• باحث ومفكر عربي