ألمؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني والخط السياسي الجديدد.


مروان مشرقي
2009 / 11 / 15 - 00:05     


(الحلقة الثانية)

عقد المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني في أوائل شهر كانون الثاني سنة 1931 في ظل تطورات وتغيرات جذرية عاصفة في منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى التركيبة القومية في فلسطين التي جرت في سنوات العشرين من القرن العشرين.

لقد مارس الانتداب البريطاني سياسة إدارية واقتصادية كفلت بناء القاعدة الاقتصادية والبنية السياسية والتنظيمية للاستيطان اليهودي. إذ بدأ في شباط 1922 بتعديل القوانين العثمانية بخصوص ملكية الأراضي المشاعية وتحويلها إلى ملكية المندوب السامي، ومن ثم بيعها للوكالة اليهودية. كما أخذت الحكومة الانتدابية بإعطاء الامتيازات الاقتصادية للشركات الصهيونية مثل مشروع كهرباء فلسطين روتنبرغ عام 1921، ومشروع إنتاج الملح في البحر الميت عام 1929. بألأضافة الى ذلك شجعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وسعت إلى زيادة الاستيطان فيها.

من جهة أخرى لعبت الحركة الصهيونية دورا كبيرا في إحداث وبلورة التغيرات الاقتصادية والسياسية والديموغرافية في فلسطين. فقد اعتمدت بالأساس على العنصر البشري الممثل بالهجرة اليهودية الشرعية وغير الشرعية وعنصر الاستيطان، اذ لعب هذان العنصران دورا كبيرا في السيطرة على الأرض العربية واحتلالها وطرد الفلاحين منها. وإذا نظرنا إلى إحصائيات الحركة الصهيونية حول الهجرة فإننا نرى أنه مقابل دخول 2618 مهاجرا إلى فلسطين عام 1919 فقد دخل فيما يسمى بالهجرة الرابعة عام 1925 (36،933) مهاجرا، مما جعل عدد اليهود في البلاد يقدر بـ 146942 نسمة. وفي عام 1926 وصل عددهم إلى 158328 نسمة(1). لقد أدت الهجرة المكثفة إلى حدوث تغييرات ملموسة في التركيبة القومية لسكان البلاد مما أوجد قضية قومية داخلية حادة.

إن أساس الاستيطان الزراعي هو السيطرة على الأرض، ومن أجل ذلك أقيم عام 1901 ما يسمى "بالكيرن كاييمت" الصندوق المعد لتمويل وعقد صفقات شراء الأراضي. وقد بلغ ما يملكه التجمع الاستيطاني اليهودي عام 1930 بـ 1015000 دونم مقابل 412000 دونم عام 1913 (2).

ومن أجل استكمال البنية التنظيمية السياسية للتجمع الاستيطاني اليهودي (اليشوف) أنشئ العديد من المؤسسات الصهيونية التي نظمت في داخلها الأغلبية الساحقة من المهاجرين والمستوطنين اليهود. ففي عام 1920 أنشئت النقابة العامة للعمال اليهود (الهستدروت)، واكتمل في نفس السنة بناء الجهاز المالي الصهيوني بإنشاء الصندوق التأسيسي "كيرن هيسود"، المختص بالهجرة والاستيطان والمسئول عن توفير الظروف الملائمة للعمل الزراعي والصناعي وبناء المستوطنات والمدن اليهودية. وقد بدأ هذا الصندوق بالعمل برأسمال قدره 25 مليون جنيه إسترليني (3). أما على المستوى العسكري فقد أسست الحركة الصهيونية منظمه "الهجاناه" والتي شكلت جناحها العسكري الضارب.

إن ما يميز المنظومة الكولونيالية الصهيونية هو أنها لم تستهدف مجرد تحقيق الاستعمار السياسي والاقتصادي، بل استهدفت احتلال فلسطين واستيطانها وإجهاض عمليه تحرر الشعب العربي الفلسطيني. وبخلاف الاستعمار الكلاسيكي الذي كان يتم من خلال إرسال الجيوش واحتلال البلدان المتخلفة، فإن الاستعمار الصهيوني تم من خلال الهجرة السكانية المكثفة وتمركز رؤوس الأموال الكبيرة في مجالات الصناعة والزراعة المتقدمة. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف اعتمدت المنظومة الكولونيالية الصهيونية في سياستها على ثلاثة مبادئ أساسية:
أولا مبدأ احتلال الأرض، ثانيا مبدأ احتلال العمل أي تحقيق العمل اليهودي النقي، وثالثا مبدأ احتلال السوق أي الترويج للإنتاج العبري ومقاطعة الإنتاج العربي. إن تحقيق هذه المبادئ في السياسة الصهيونية المنتهجة في البلاد جعل من الصراع أكثر تعقيدا ومن البنية الاجتماعية الاقتصادية لليشوف اليهودي أكثر تماسكا وذات قدرات كبيرة على التطور الداخلي والتكافؤ الذاتي، مع امتلاك إمكانيات متطورة للتنافس في السوق المحلية والهيمنة عليها.

وبالارتباط بظهور ونمو المنظومة الكولونيالية في فلسطين نمت وتطورت الطبقة العاملة في البلاد ، حيث أدى الاحتلال البريطاني وتمركز رؤوس الأموال اليهودية في فلسطين إلى خلق فرص عمل واسعة، وبالأساس في مجال المواصلات والنقل وشق الشوارع، والعمل في المستوطنات اليهودية.

من جهة أخرى أدى انهيار البنية الاقتصادية والإقطاعية في فلسطين بعد انتهاء الاحتلال العثماني إلى ظهور أنماط إنتاج جديدة وعلاقات إنتاجية رأسمالية في الريف والمدينة. حيث بدأت تظهر وتنمو ظاهرة العمال الزراعيين وخاصة عمال الحمضيات وعمال المعسكرات ، كما نشأت في الوسط العربي شريحة برجوازية تجارية مرتبطة بالشركات الأجنبية وتسويق بضائعها في السوق الداخلي، مما ساعد على نمو شريحة عمال الخدمات وخاصة من الفلاحين المهاجرين من الريف.

أما على صعيد تنظيم الحركة العمالية العربية فقد نشأت نقابتها في بداية سنوات العشرين من القرن الماضي، حيث بدأت في انتظام عمال سكك الحديد في نقابات خاصة بهم عام 1923. وقد ساعد على ذلك وجود العمال ذوي الخبرة النقابية واحتكاك العمال العرب بالعمال المصريين العاملين في السكك الحديدية.

في عام 1925، وبمبادرة من نقابة عمال سكك الحديد، تأسست جمعية العمال العربية الفلسطينية، التي أصبحت النقابة الجامعة لعمال فلسطين العرب (4). وفي كانون الأول 1926 نجح الشيوعيون بعقد مؤتمر عمالي عربي- يهودي "المؤتمر الفلسطيني الأول لحركة الاتحاد (ايحود)". أما في عام 1928 فقد أنشئت في حيفا جمعية عمال دعيت "بجمعية العمال العرب"(5)، والتي افتتحت لها فروعا في القدس بقيادة فخري النشاشيبي وفي يافا بقيادة ميشيل متري.

إن إقامة التنظيمات النقابية في فلسطين جاء متأخرا نسبيا عن التنظيمات السياسية، وهذا يعود إلى الوتيرة البطيئة التي سارت فيها عملية التقاطب الاجتماعي ونمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في سنوات العشرين، الأمر الذي أعاق إدراك الجماهير العمالية لمصالحها ولدورها وإمكانياتها الكامنة في الحركة الوطنية.

أما على مستوى التنظيمات السياسية في فلسطين لقد ارتبط نشوؤها بالاحتلال البريطاني للبلاد، وذلك كأدوات للدفاع عن البلاد والتصدي للخطر الاستعماري. لكن وبسبب تخلف العلاقات الاجتماعية والسياسية لم تتطور المنظومة السياسية الحزبية بالشكل المطلوب، بل اتخذت طابعا طائفيا في البداية. إذ تألفت الجمعيات الإسلامية- المسيحية في المدن، والتي وحدت بالأساس العناصر القومية وضمنت هيمنة الفئة الشبه إقطاعية والمالكين العقاريين على قيادة الحركة القومية العربية في فلسطين. لكن وبالرغم من هذا الطابع الديني إلا أن هذه الجمعيات مثلت أول مظهر للوعي السياسي المنظم في البلاد بعد الاحتلال البريطاني.

لقد ساهمت هذه الجمعيات مساهمة كبيرة جدا في تنظيم الجماهير العربية في فلسطين وفي طرح برنامج سياسي لها. ومن ابرز نشاطاتها عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس في 27 كانون الثاني 1919 (6). لقد أصبحت المؤتمرات الوطنية الفلسطينية تمثل الشكل التنظيمي والبرلمان الشعبي الذي يوحد في داخله كافة أفراد الشعب الفلسطيني، حيث اعتبرت لجانها التنفيذية الممثل والناطق الوحيد باسم الفلسطينيين.

في هذه الفترة انقسمت الحركة السياسية والحركة القومية على أساس عائلي. إذ سيطرت عائلة الحسينيين بزعامة المفتي الحاج أمين الحسيني على المؤتمرات الفلسطينية ولجانها التنفيذية، ومثلت عائلة النشاشيبي الجناح المعارض الذي كان يتهادن مع الاستعمار البريطاني. إن تخلف النظام الحزبي في تلك الفترة شكل نقطة ضعف كبيرة في الحركة القومية الفلسطينية، مما سمح لأبناء العائلات الغنية وملاكي الأرض بالسيطرة على قيادة هذه الحركة وإلى عدم السماح لنضال الجماهير العربية بالتطور بالقدر الكافي.
تميزت الحركة القومية الفلسطينية آنذاك بتغليب الاتجاه المعادي للصهيونية وعدم التأكيد على العداء للاستعمار، بل ظهرت هناك اتجاهات علنية تدعو للتعاون مع الاستعمار البريطاني مقابل تخليه عن دعم برنامج "الوطن اليهودي" في فلسطين.
استمر هذا الوضع حتى بداية سنوات الثلاثينيات. إذ اشتدت عملية تطور العلاقات الاجتماعية الرأسمالية وازداد الاستقطاب الطبقي حدة. وقد ساهم في ذلك اشتداد الحملة الصهيونية على الأرض العربية بمساعدة الانتداب البريطاني. كما أدى حرمان الفلاحين العرب من الأراضي الزراعية وإفلاس الصناع الصغار أمام مزاحمة المؤسسات والمشاريع الصناعية اليهودية الكبرى إلى الإسراع بانهيار التركيبة الاجتماعية التقليدية وإلى التنامي السريع لشريحة العمال المأجورين، الذين أصبحوا القوة الأكثر تحركا ودينامية من الناحية السياسية.
في ظل تلك الظروف والتطورات والتغيرات الجذرية والعاصفة جرى انعقاد المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني في أوائل شهر كانون الثاني سنة 1931 ، وقد ساهم في التحضير له محمود الأطرش، الذي انتدب من قبل اللجنة التنفيذية للكومنترن لأجل تنفيذ هذه المهمة إذ عاد إلى فلسطين في أيار عام 1930 ولعب دورا رئيسيا في عقد المؤتمر كما انتخب عضوا في سكرتارية اللجنة المركزية.
يعتبر المؤتمر السابع محطة هامة في التطور الفكري والسياسي للحزب الشيوعي الفلسطيني، وبالأساس بكل ما يخص مسألة التعريب. إذ لأول مرة يتم عقد مؤتمر للشيوعيين الفلسطينيين يشارك فيه عدد متساوي من المندوبين العرب واليهود إلى جانب حضور ممثل الأممية الشيوعية الهنغاري هانز. وقد شكل هذا المؤتمر ( كما جاء بلسان قرارات المؤتمر التي نشرت باللغة العربية) " الحجر الأساسي لإيجاد حزب شيوعي معرب يتمشى على المبادئ الدولية ليس بنظرياته وخططه فقط، بل بتركيبه القومي" (7).
في هذا المؤتمر تمت مناقشة العديد من القضايا التنظيمية والسياسية والفكرية وتم اتخاذ عدة قرارات في المواضيع التالية:
1. قرار بخصوص " أعمال اللجنة المركزية للحزب خلال الأربع سنوات" المنصرمة وتلخيص المسألة التنظيمية للحزب ما بين المؤتمر السادس والمؤتمر السابع للحزب.
2. قرار بخصوص "المسألة الوطنية والموقف السياسي الحاضر" الذي عالج المسألة القومية الكولونيالية والتطورات التي كانت تجري آنذاك في الحركة الوطنية الفلسطينية واليشوف اليهودي.
3. قرار بخصوص المسألة الزراعية بعنوان " قرار للعمل في القرى العربية"
4. قرار " في مكافحة الحركة الصهيونية"
5. قرار "بشأن الشباب الشيوعي".
6. قرار " عن العمل النقابي"
من مميزات هذا المؤتمر أنه ولأول مرة يقوم الحزب الشيوعي الفلسطيني بمعالجة وبحث مسائل لم تكن تعيرها المؤتمرات السابقة اهتماما "كالمسألة القومية" " والمسألة الكولونيالية والصهيونية" و" المسألة الزراعية " و" المسألة النقابية" ، حيث تم الكشف عن جوهر المسألة القومية، وارتباطها بالمسألة الزراعية وتحديد الطرق والوسائل لحلها. إلى جانب ذلك جرى تحديد دور اليشوف اليهودي في عملية الصراع السياسي والاجتماعي في فلسطين. حيث قيم دور الأقلية القومية اليهودية التي تشكلت في فلسطين " كأداة اضطهاد رئيسية في أيدي الاستعمار الانكليزي ضد السكان العرب الأصليين...وجعلهم ( الجماهير اليهودية) جيشا إضافيا يستغله الاستعمار الانكليزي في حركاته الاستعمارية في فلسطين وما يجاورها من البلاد العربية"( 8) .
في هذا المؤتمر أتخذ الحزب موقفا حاسما من الصهيونية على كل أجنحتها وأحزابها ومؤسساتها ودعا الى فضح " الجوهر الفاشستي- القومي الكامن في سياسة الهستدروت وبوعالي تسيون، ..... وفضح سياسة كافة الاحزاب الصهيونية المعتدلة و" المتطرفة" معا، كأحزاب ترمي كلها الى غرض واحد وهو: مكافحة الحركة الوطنية العربية التحررية، مكافحة العمال والفلاحين العرب، مكافحة العمال اليهود الثائرين، في صالح البرجوازية اليهودية والاستعمار البريطاني" ( 9) .
بالرغم من أهمية الطروحات التي جرت مناقشتها في المؤتمر إلا أن قيادة الحزب وقعت في عدة أخطاء وتقييمات نظرية غير صحيحة عكست تأثير السياسة "اليسارية الانعزالية" للكومنترن على خطه السياسي. لقد اتخذ الحزب موقفا خاطئا بصدد البرجوازية القومية في فلسطين، وحدد بشكل غير دقيق دورها في مرحلة الثورة الوطنية التحررية، وبهذا اخطأ أيضا في صياغة الشعارات السياسية المناسبة التي كان يجب أن ترفع في هذه الفترة.
ففي صدد تقييمه للبرجوازية الوطنية الفلسطينية، أشار المؤتمر إلى أن البرجوازية العربية انقسمت إلى شطرين: شطر الوطنية الثورية التي تمثلت بالجناح الراديكالي المتمثل بمجموعة حمدي الحسيني وشطر الوطنية الإصلاحية " الجبهة الثالثة" التي انتقلت إلى معسكر الاستعمار وخاصة بعد "المؤتمر العربي السابع" (10) الذي عقد في صيف 1928. لقد أشار مؤتمر الحزب إلى أن البرجوازية العربية المتمثلة بالوطنيين الإصلاحيين واللجنة التنفيذية العربية بدأت تسعى بشكل مطرد إلى عقد تسوية مع الاستعمار البريطاني قبل وبعد ثورة آب 1929. كما ودعا إلى "..... فضح " المجلس الإسلامي" ، كهيئة تدافع عن مصالح رجال الدين والاقطاعيين وجماعة التجار في داخل البلدان العربية، باسم الدين والمجد القومي، وتعمل يدا بيد مع الهيئات الحكومية الفلسطينية الاستعمارية" (11) ومن هنا أكد المؤتمر على ضرورة تعبئة العمال والفلاحين في النضال ضد الاستعمار البريطاني وأداته المتمثلة بالصهيونية، وإلى النضال أيضا ضد البرجوازية العربية ( الوطنيين الإصلاحيين) "وموقفها الخائن" من حركة التحرر الوطني (12) . في الوقت ذاته دعا المؤتمر للعمل والنشاط المشترك مع الجناح الراديكالي في الحركة الوطنية ( جناح حمدي الحسيني) وإيجاد تشكيلات واسعة لمقاومة الاستعمار(13).
إعتقد الشيوعيون آنذاك إلى أن النضال من اجل "إسقاط" القيادات القومية العربية الخائنة يجب أن يتم من خلال إقامة جبهة موحدة معادية للاستعمار. وأن الخطوة الأولى نحو تحقيق هذا الهدف هو تشكيل "اللجان الثورية في البلاد للعمال والفلاحين"..(14).
لكن بالرغم من هذه التقييمات السياسية غير الصحيحة إلا أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كان الحزب الوحيد الذي رأى الأهمية الكبرى للنضال العام والموحد لليهود والعرب، إذ رأى فيه الوسيلة القوية والطريق الوحيد للتحرر القومي.
لقد قيم الشيوعيون في هذا المؤتمر تقييما صحيحا انتفاضة البراق – آب عام 1929، حيث أعتبرها ثورة فلاحين وبدو ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني.
وفي سياق تلخيص دوره في هذه الأحداث أكد المؤتمر أنه نتيجة لفشل قيادة الحزب آنذاك بتنفيذ مهمة التعريب لم يتمكن الشيوعيون من التقرب من الجماهير العربية واقتصر دوره " في ذلك العهد على بث الدعاية بين الجماهير العربية ( بالمطبوعات وبواسطة نادي " الإحود ( ألاتحاد) ومع بعض الاتصالات بالهيئة العليا للحركة الوطنية العربية....). ونتيجة لذلك فوجئ بثورة آب 1929 وأصبح .. " ليس فقط غير قادر على القيام بدوره الثوري الهام بل تأخر بالكلية عن الحركة، بالرغم من إخلاص الرفاق الثوري.." وعليه أكد المؤتمر على ضرورة توثيق صلات الحزب بجماهير العمال والفلاحين العرب والإسراع في تنفيذ توجيهات الكومنترن بخصوص مسألة التعريب وفقا لقرارات اللجنة التنفيذية للدولية الشيوعية من تاريخ 16-10-1929 وطبقا لكتاب الدولية الشيوعية المفتوح الصادر في 26-10-1930 ( 15 ).
ففي قراره " في مكافحة الحركة الصهيونية" أكد المؤتمر على ضرورة وواجب العمل المشترك بين اليهود والعرب لمقاومة الاستعمار البريطاني والصهيوني ، مؤكدا على أن " مكافحة الصهيونية ترتبط كل الارتباط بمسألة الأراضي"، وعليه فمن واجب الحزب " أن يفسر للجماهير العربية واليهودية بأن استعمار اليهود للأراضي في فلسطين غير ممكن الا على حساب انتزاع أراضي الفلاحين والبدو العرب بمساعدة الاستعمار البريطاني، وبأن الواجب عليهم أن يعملوا متحدين على مقاومة هذا الاستعمار الصهيوني الجائر" ( 16) .
من كل ما ذكر أعلاه نلاحظ أنه بكل ما يخص المسألة القومية وحركة التحرر العربية مارس الحزب سياسة "يسارية انعزالية"، ولم يتمكن من التوفيق بشكل صحيح بين الطبقي (الاجتماعي) والقومي، حيث غلّب الأولى على الثانية، وحاول بشكل ميكانيكي أن يرفع ويحقق المواقف والطروحات النظرية والسياسية للكومنترن متجردا من الظروف الخاصة في فلسطين وخصوصيات النضال المحلي.
إن أحد الأخطاء الكبيرة في تقييمات قيادة الحزب كان تقييمها غير الصحيح للدور المهيمن والقائد للطبقة العاملة في ثورة التحرر الوطني في فلسطين. إذ اعتقدت هذه القيادة بأن الثورة بقيادة الطبقة العاملة هي الطريق الوحيد لحل القضية القومية والكولونيالية والاجتماعية في البلاد. إن هذا التقييم لا يتجاوب ولا بأي شكل من الأشكال مع إمكانيات الطبقة العاملة ذاتها والحزب الشيوعي، ولا مع الواقع الموضوعي التي تنشط وتتواجد فيه. حيث ان الطبقة العاملة في فلسطين مقسمة على أساس قومي، ونقاباتها العاملة ضعيفة جدا وغير موحدة، إلى جانب أنها كانت واقعة تحت تأثير القيادات القومية الانتهازية والإصلاحية. لذا فإن رفع مثل هذا الشعار نظريا من قبل قيادة الحزب اضر بنضال الحزب وعزله عن الجماهير الشعبية، ولم يساعده على انجاز خطة التعريب وتحقيق شعار الجبهة المتحدة المعادية للامبريالية.
بالرغم من كل جوانبها السلبية، لم تمنع السياسة اليسارية التي انتهجتها قيادة الحزب من الشيوعيين الفلسطينيين من المشاركة بالكفاحات القومية الطبقية للشعب الفلسطيني، ولم تعقهم عن تلمس بوادر نشوء الوضع الثوري في البلاد.
لقد شارك في هذا المؤتمر مندوبون عرب ويهود بالتساوي، وقد ناقش المندوبون ظواهر الانحرافات الشوفينية الصهيونية عند قيادة الحزب القديمة، وتأثيرها على خطه السياسي ودوره الجماهيري، كما جرى أيضا التحذير من خطر الانحرافات الشوفينية العربية والدعوة إلى صياغة برنامج سياسي على أساس علمي وأممي. وقد أعلن المؤتمرون عن تأييدهم لخطة التعريب وأصاغوا خطة تنظيمية من اجل تحقيق ذلك. وفي نهاية المؤتمر تم انتخاب قيادة جديدة للحزب منهم جوزيف برزيلاي، محمود الأطرش(17) ونجاتي صدقي.
إن المؤتمر السابع يعتبر حدثا تاريخيا هاما في حياة الحزب الشيوعي إذ ساهم مساهمة جدية في دفع عمله السياسي والتنظيمي، وعلى الأخص في الوسط العربي.
استمر الحزب بانتهاج الخط "اليساري الانعزالي" حتى عام 1935، ومع التحول العام في إستراتيجية الحركة الشيوعية العمالية بعد المؤتمر السابع للكومنترن، ونتيجة للتغيرات السريعة التي حدثت في المجتمع الفلسطيني، وعلى الوضع السياسي العام، وبتلمسه بوادر الهبة الجماهير الثورية التي كانت تبدو بالأفق وتنذر بانفجار كبير.، بدأ الحزب الشيوعي الفلسطيني بانتهاج خط سياسي جديد يتلاءم وطبيعة المرحلة الجديدة.




مصادر:
1- لبسكي حاجيت: نمو اليشوف اليهودي في أرض إسرائيل في فترة الانتداب- الجامعة العبرية- القدس ص5.

2- نفس المصدر ص76.
3- المصدر السابق.
4- د. بديري موسى- تطور الحركة العمالية العربية في فلسطين- 1919-1948 القدس 1979 ص3.

5- المصدر السابق ص4.
6- بيان نويهض الحوت- القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948 – الطبعة الثانية- دار الأسوار عكا 1984 ص95.

7- كراس المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني- يناير 1931- منشورات الحزب الشيوعي الفلسطيني ص "ث"

(8) المصدر السابق. ص 12
(9) المصدر السابق. ص 14
(10) المؤتمر العربي الفلسطيني السابع- عقد في القدس في 20-27 يونيو 1928 وقد حضر هذا المؤتمر ممثلو العائلات الغنية وملاكي الأراضي، ولم يتخذ قرارا واضحا بإنهاء الانتداب البريطاني، بل اكتفى بالمطالبة بتشكيل حكومة برلمانية في فلسطين. ولقد قيم الحزب الشيوعي هذه القرارات بأنها خيانة للأممية لان المطلب السياسي يجب أن يكون تحرير فلسطين. كما طلب الحزب في بيانه بذلك الخصوص من جميع العمال والفلاحين إلى التكتل لمحاربة المستعمرين والصهيونية والخائنين من الشعب الفلسطيني..."(جريدة الجامعة العربية، العدد 147 9 يوليو 1928).

(11) كراس المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني - مصدر سابق. ص 15
(12) لقد طرح لاحقا نفس هذا التقييم النظري في البيان المقر في كونفرنس ممثلي الأحزاب الشيوعية في سوريا وفلسطين المنعقد عام 1933. لقد جاء في هذا البيان إلى أن "البرجوازية والعناصر البرجوازية الزراعية عاجزة عن خوض نضال ثوري ضد الامبريالية، ويزداد ميلها باستمرار نحو اتفاق معها معاد للثورة.. وأن الإصلاحية القومية تسود في صفوف البرجوازية العربية، وهي تتخذ طابعا معاديا للثورة واستسلاميا يزداد بروزه... ويرى أنه لا يمكن تصور النمو اللاحق للنضال ضد الامبريالية دون نضال منسجم ومطرد ضد القومية الإصلاحية ، وإقامة حكومة العمال والفلاحين

(13) كراس المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني - مصدر سابق. ص 16، 17

(14) "23 من آب- سنة على الانتفاضة الفلسطينية"- مجموعة منشورات ب.ك.ب- سنوات 1923-1924، تل أبيب أغسطس 1950 ص66.
(15) المصدر السابق- قرار بخصوص اعمال اللجنة المركزية في خلال اربع سنوات – ص 4- 11
(16) كراس المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني - مصدر سابق- ص 26
(17) محمود الأطرش: اسمه الحقيقي محمود الحاج رباح، ولد في القدس عام 1903 من أبوين جزائريين. هاجر إلى فلسطين. عمل في سن مبكرة في البناء حيث تعرف إلى بعض الشيوعيين اليهود في مدينة يافا. انتسب للحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1925، وفي عام 1927 سافر إلى موسكو للالتحاق بجامعة أكادميي شعوب الشرق.
في أيار عام 1930 عاد إلى فلسطين بطلب من قيادة الكومنترن حيث ساهم في عقد المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني، وانتخب عضوا في سكرتارية اللجنة المركزية. في عام 1931 اعتقل لمدة سنتين، وفي عام 1935 اعتقل في دمشق حيث أعيد إلى فلسطين وبقي في السجن لمدة ستة أشهر. وخلال وجوده في السجن انتخبه المؤتمر السابع للأممية الشيوعية عضوا في اللجنة التنفيذية. بعد إطلاق سراحه بدأ يعمل في جهاز اللجنة التنفيذية وكتب العديد من المقالات باسم سليم عبود . في سنوات 1943-1946 ساهم في إعادة بناء الحزب الشيوعي الجزائري وأصبح احد قادته. في عام 1968 انتقل للسكن في برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية، حيث قضى عدة سنوات في التدريس وفي إعداد مذكراته. في عام 1981 توفي في برلين (د. شريف ماهر- بدايات الحركة الشيوعية في فلسطين- مجلة النهج العدد 5 تشرين الثاني 1983).