ماذا يعني سقوط الجدار..؟


فهمي الكتوت
2009 / 11 / 14 - 19:08     

سقوط جدار برلين ليس مجرد انهيار مئات الكيلومترات من الحواجز الاسمنتية, فهو الزلزال الذي هز العالم , وفتح الطريق امام سقوط نظام اجتماعي علقت البشرية امالا عليه, سقوط التجربة السوفييتية , سقوط الحرب الباردة , تفرد اميركا بالهيمنة على العالم , فقدان حليف للبلدان النامية تستند اليه في مواجهة الاستعمار القديم والحديث. في الوقت الذي يحتفل اقطاب النظام الراسمالي في برلين, بمرور عشرين عاما على سقوط الجدار, يصمتون صمت من في القبور على جرائم القرن الحادي والعشرين, باقامة جدار الفصل العنصري في فلسطين , متجاهلين قرار محكمة العدل العليا في لاهاي.

تعتبر المانيا من اعرق البلدان الأوروبية حضارة وتقدما, مما جعل لها حضورا عالميا في مختلف العصور, ومن المفارقات الغريبة, ان حضورها المتميز كان سببا في ضعفها خلال خمسة عقود, فالتطور الاقتصادي الذي تمتعت به ألمانيا, قبل الحرب العالمية الثانية جلب لها الكوارث, فخاضت في القرن الماضي حربين عالميتين مع فرنسا وبريطانيا وباقي الحلفاء, بدوافع اقتصادية استعمارية, خاضتها الاحتكارات الراسمالية بهدف اعادة تقاسم أسواق العالم لتصريف منتجاتها, والاستيلاء على خامات وثروات الدول النامة , فهزمت المانيا عسكريا مرتين , ولم تهزم اقتصاديا.

مع سقوط جدار برلين قبل عقدين من الزمن, أعلن فوكوياما ومن ورائه غلاة اليمين والمحافظون الجدد في أميركا عن نهاية التاريخ , والانتصار الأبدي لليبرالية الجديدة

- الرأسمالية المتوحشة- وانتهاء عصر تدخل الدولة في الاقتصاد, سواء ضمن المفهوم الاشتراكي, او حتى بمنظور راسمالي " النظرية الكنزية ", لم يدم طويلا العصر الذهبي لليبرالية الجديدة , وتزامن الاحتفال بمرور عقدين على انهيار الجدار, بمرور عام على انهيار الليبرالية الجديدة , فالنظام الشمولي الذي غيب الديمقراطية في حياة المجتمع واجه هزيمة , رغم غاياته النبيلة, بإلغاء الاستغلال وتوفير العدالة ففشلت وسائله بحشرالإنسان في قوالب جاهزة, وتغييب الحوافز الضرورية للإبداع , أما الرأسمالية المتوحشة فسعت منذ المراحل الأولى لتطورها في استخدام كافة منجزات البشرية والحضارة العالمية وتكنولوجيا المعلومات لتكديس الأموال, مستخدمة ابشع الوسائل, من اشعال الحروب, وتلويث البيئة, ونشرالاوبئة وتهديد حياة البشر, من اجل جمع الاموال . لذلك يبقى الوصول لنظام ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية, هدف سامي ونبيل .

بمرور عشرين عاما على سقوط الجدار, وما يعنيه ذلك من ابعاد فكرية واجتماعية, تبرز أهمية خاصة لمراجعة التجربة التاريخية للأحزاب اليسارية والتقدمية, وبالارتباط مع خصائص وظروف بلادنا , لاستخلاص الدروس والعبر, من اجل النهوض بدور القوى الديمقراطية والتقدمية, ومع قناعتنا بان برامج أحزاب اليسار في البلدان النامية, تعبر عن مصالح الكادحين والفقراء والفئات الشعبية عامة وتنطلق فكريا وسياسيا من مواقف مبدئية تتطابق مع مصالحهم في تحقيق العدالة الاجتماعية, ومع ذلك فإن الهوة ما تزال واسعة جداً بين هذه الفئات الاجتماعية والأحزاب اليسارية والتقدمية والقومية, وبما ان هذه الأحزاب لا تطرح برنامجا أيديولوجيا , بل برنامجا وطنيا ديمقراطيا تقدميا بهدف تحقيق إصلاحات تدريجية تراكمية تحدث تغييرا نوعيا عبر صناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة, الأمر الذي يعني ضرورة إعادة النظر في مسائل ربما تشكّل حافزا لردم الهوة وإعادة الاعتبار لدورها , وذلك بطرح مشروع يهدف الى تحقيق وحدة اليسار الديمقراطي التقدمي, انسجاماً مع البرامج والمهام المطروحة في هذه المرحلة, وهي ذات طبيعة وطنية ديمقراطية اجتماعية.

وتأتي هذه التصورات كخطوة أولى باتجاه ردم الهوّة, مع الاستمرار في المراجعة والبحث بهدف إزالة أية عوائق مستقبلاً ومعالجة الاختلالات الظاهرة أو التي قد تظهر فيما بعد, ومن المفيد الإشارة الى ان من اعتقد ان مجرد تجاوز بعض التقاليد الموروثة عن التجربة النضالية بحكم المستجدات يبيح لنفسه التحلل من القيم والمبادئ , فهو يضع نفسه في الموقع الاخر بغض النظر عن المبررات التي تساق دفاعا عن هذه التوجهات, مع الانتباه ان اجراء اصلاحات جوهرية في احزاب اليسار وصولا لتحقيق وحدتها, لا يعني بحال من الأحوال ان حزبا جماهيريا أصبح على الأبواب , فهناك بعض التجارب التي لم تبلغ الهدف المنشود, والسبب في ذلك إما لمواقف سياسية غير صائبة أفقدتها بوصلتها او لتقاعس قياداتها وعدم قيامها بواجباتها في الدفاع عن الكادحين والفقراء عامة, او التخلف عن اتخاذ قرار سياسي في الوقت المناسب يحمل أبعادا وطنية وقومية, اضافة الى ان آليات العمل في الظروف العلنية تختلف تماما عن العمل السري, وهذا يتطلب اتقان فنون النضال عبر آليات جديدة وانفتاح أوسع على الجماهير والاقتراب منها, بدلا من العزلة والقوقعة.0