كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (1)


عبد الحسين شعبان
2009 / 11 / 2 - 19:47     

جزيرة الحرية: الجمال والشغب


زيارتي إلى كوبا هي الرابعة في زياراتي إلى أميركا اللاتينية، القارة التي ظلت مرجلا يغلي منذ نحو نصف قرن من الزمان، فقد شق سكونها بعد الحدث الغواتيمالي عام 1954 انتصار الثورة الكوبية وسقوط نظام باتيستا في 1 يناير العام 1959.
وتعود علاقتي بكوبا منذ تفتح وعيي، لاسيما بعد ثورة 14 يوليو 1958 في العراق، حين اعتبر «الثوريون» انتصار الثورة الكوبية بمثابة الرديف لانتصار الثورة في العراق، معقل حلف بغداد، حيث كان المعقل الثاني هو نظام الدكتاتور باتيستا في كوبا التي لا تبعد شواطئها عن شواطئ ميامي الأميركية أكثر من 90 ميلا، الأمر الذي كان يثير فينا الغبطة والإعجاب عن اختراق «الفناء الخلفي» لواشنطن، كما كانت تسمى كوبا وعدد من دول أميركا اللاتينية، والأكثر من ذلك هو طريقة الانتصار الرومانسية الثورية الساحرة لفتية شجعان.
رؤية ما بعد الخمسين لها مغزيان، الأول هو نظرتي الانتقادية للأمور رغم تمسكي بالخيار الاشتراكي بعد 50 عاما واستمرار امتداد خيط الوصل بين الماضي والحاضر وربما المستقبل، والثانية لأن كوبا تحتفل بمرور 50 عاما على انتصارها، وهو الأمر الذي استعدته وأنا في زيارتي لجزيرة الحرية، ومن موقع القراءة الارتجاعية للحدث ومساراته وتحدياته ومنجزاته وصعوباته وأخطائه وارتكاباته، تساوقا مع عالم الحداثة والعولمة، سواء على الصعيد النظري لفحص الشعارات والوسائل بمدى إمكانية تطبيقها في الواقع من جهة، ومن جهة أخرى بمدى القناعة المتحققة لدى الناس المعنيين بالثورة وأبنائها، ومن جهة ثالثة بالقدرة على الاستمرار والعيش بالطريقة ذاتها بعد 50 عاما في ظل تبدلات كبرى تاريخية على الصعيد العالمي.
وكنت قد استذكرت كتاب المفكر الماركسي الإشكالي عامر عبدالله الموسوم بـ «جزيرة الحرية» عام 1976 وحواراتي اللاحقة معه بخصوص كوبا وفيتنام والصين والتجربة الاشتراكية عموما، وقد دون بعض ملاحظاته في كتاب مهم وضعه لاحقا، وربما من «موقع آخر» و «قناعات جديدة» في أواخر التسعينيات عن «مقوضات النظام الاشتراكي العالمي». وقد أعود إلى هذه المسألة وإلى حوارات غير منشورة كنت قد أجريتها مع عامر عبدالله في وقت لاحق.
لقد أدى انهيار الكتلة الاشتراكية وانحلال الاتحاد السوفيتي إلى ترك كوبا وحيدة وعارية في مواجهة الرياح العاتية وعلى نحو مفاجئ وحتى دون كلمة وداع، كما يقال، حيث وجدت نفسها يتيمة في مواجهة الحصار الاقتصادي الجائر، لاسيما بعد العام 1991، حين أخذ الحصار يفعل فعله في المجتمع الكوبي، متمثلا بشح البضائع والسلع والمواد الاستهلاكية الضرورية ومحدودية الأجور وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة وأزمة البنزين، فضلا عن تنامي بعض مظاهر التذمر من داخل الحزب وبالأساس من خارجه، فلم تعد الإيمانية العقائدية والآمال الكبرى تعوض عن الواقع المرير، خصوصا بعد صبر طويل، الأمر الذي يستوجب وقفة متأنية لمعالجة سبل التعامل مع الاختلاف، وإعادة النظر في مسألة الحزب الواحد وتأثيراتها السلبية وتطوير آليات العمل السياسي والمهني في إطار التنوع والتعددية، ولكن في ظل الخيار الاشتراكي وليس خارجه، وبصيغ ديمقراطية وليست قسرية.
وبالعودة إلى نجاح الثورة فقد كانت المعركة الفاصلة لثوار جبال السيرامايسترا هي الهجوم الذي قاده تشي جيفارا على القطار الذي كان ينقل عتادا حربيا للدكتاتور في هافانا، فاعترضه الأنصار المسلحون في مدينة سانتا كلارا ذات السماء الفضية (حيث يوجد نصب ومتحف ومقبرة لجيفارا ورفاقه) بهجوم مباغت بتراكتور، وقد استسلم جنود الحكومة الكوبية، وشاع خبرهم، واضطر باتيستا إلى الفرار إلى الولايات المتحدة، وحدثت المفاجأة حين امتنعت سلطاتها عن استقبال طائرته فاتجه إلى الدومينيكان الذي كان يحكمه صديقه الدكتاتور نوهيو.
وكان الثوار قد انطلقوا في العام 1956 بعد فشل حركتهم في العام 1953 واعتقالهم بما فيهم كاسترو وشقيقه راؤول وجيفارا، ونزلوا إلى الشواطئ الكوبية قادمين من هايتي التي تجمع فيها 82 ثائرا، لكنه لم يبق منهم سوى 21، بعد أن كان في انتظارهم جلاوزة باتيستا.
زيارة جزيرة الحرية جاءت بعد تأخرها أكثر من ثلاثة عقود، حيث كان مقررا زيارتي للمشاركة في مهرجان الطلاب والشباب الذي انعقد في كوبا في صيف العام 1978، لكن تعقيد الأوضاع السياسية في العراق وطلبي لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية حال دون ذلك، وحدث لأكثر من مرة أن تلقيت دعوة لزيارة خاصة لكوبا، لكن بعض العوائق والالتزامات وقفت في طريقي.
وصلت هافانا وكلي فضول لمشاهدة هذه الجزيرة الجميلة، المشاغبة، العصية، التي شغلت الولايات المتحدة والعالم برؤية سياسية ما بعد الخمسين (سأتحدث عن رؤيتي للمشهد الثقافي في مقالة قادمة)، وبعقلية مثقف ناقد ويسعى لقراءة التجربة الكبيرة والمميزة بكل ما لها وهو كثير جدا، لشعب بسيط وطيب وشجاع ومرح، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، لاسيما وقد عاشت التجربة تحت هاجس الضغط والتآمر الخارجي الأميركي منذ اليوم الأول ولغاية عامها الخمسين، خصوصا تأثير الحصار الدامي الذي تعرضت له، وهو حصار شامل بكل معنى الكلمة، يبدأ من أصغر الأشياء حتى أكبرها، ومن قلم الرصاص إلى المعدات والأجهزة، ولأنني عراقي أعرف معنى الحصار الذي وقع على شعبي والظلم والحيف الذي لحقه طيلة 13 عاما بغض النظر عن الحاكم، فأستطيع أن أدرك وأن أهجس ما عاناه الشعب الكوبي من عسف واضطهاد طيلة خمسة عقود من الزمان جراء الحصار اللاإنساني.
ولعل الفارق بين الحصارين العراقي والكوبي، أن الحصار الأول كان بقرارات مجحفة ومذلة من مجلس الأمن الدولي، في حين أن قرار الحصار الكوبي كان أميركيا بامتياز، وإن شمل دولا وشركات عملاقة تأتمر بأمر واشنطن، رغم تنديد الجمعية العامة للأمم المتحدة به لأكثر من 14 مرة وبتأييد من غالبية أعضائها باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل.
الحصار هو حرب بوسائل أخرى قد تكون أكثر خطورة وخبثا وضررا، لكنه بوسائل غير حربية، حتى وإن بدت ناعمة لكنها أكثر مكرا وإيذاء، وهو مثل دودة تأكل في جسد كوبا اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا ولا تزال، وهو ليس حصارا ضد السلطة الكوبية حسب، بل هو ضد الشعب الكوبي الذي يراد إذلاله والحط من كرامته بل وطحن عظامه.
كان جل اهتمام كوبا الهاجس الأمني وردم الثغرات التي سببها الحصار خلال السنوات الخمسين، وهي مهمات طوارئ أقرب إلى الظرفية منها إلى التنمية الإنسانية المستدامة بمعناها السائد، وحتى لو تمكنت كوبا من التخلص من الأمية وحققت نظاما تعليميا متطورا ونظاما صحيا مشهودا، إلا أنها كانت تئن تحت وطأة حصار شامل ومتراكم وحاجات ضرورية للبشر لا يمكن الاستغناء عنها في النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي متطلبات كل ما يتعلق بالحداثة التي لا يمكن العيش خارجها.